«مَنّا ــ قيامة شتات الصحراء» رواية الجزائري الصدّيق حاج أحمد: استنطاق ذاكرة الأمكنة وسرد البقاء
يحصر البعض الأدب في كونه فنا وجد للمتعة أو كنوع من الرفاهية لكنه يتجاوز ذلك إلى ما عبر عنه تودوروف بقوله إن «هدف الأدب هو تمثيل الوجود الإنساني». وهو محق تماما، لأن الرواية في العادة تطرح أسئلة حول الكثير من المواضيع، ليعاود الواحد منا البحث عن إجابات لها انطلاقا من واقعه هو، حتى وإن كانت لا تشبه ذلك الواقع، ودون أن ندري تتوسع مداركنا تجاه الموضوع الذي طرحته. ومن هنا فإنها لا تقل أهمية عن العلم، ولن أبالغ إن قلت إنه بفضل الأدب نطلع على بقية العلوم، وننفتح على العالم، وبفضله أيضا نصبح أكثر تسامحا وتفهما للآخرين. وعودة إلى تودوروف فإنه يرى أن «الأدب، بعيدا عن أن يكون متعة بسيطة، وتسلية للأشخاص المتعلمين، فإنه يسمح لكل واحد أن يجيب بشكل أفضل على ميله بوصفه كائنا إنسانيا.»
ولأن الرواية هي الوجه الأصدق للبيئة التي تنطلق منها، فلا يمكن إلاّ أن تكون الصورة المخيالية التي تقربنا من واقع لا نعرف عنه شيئا، لكنه، موجود، ومن هنا تبرز قوة الأدب حين يتخطى كل الحدود ليستحضر أمامنا تفاصيل أشخاص من الهامش بكل مشاكلهم ومعاناتهم، نجاحاتهم وأحلامهم، أناس لا ندري عن وجودهم شيئا، ليعيد تمثيل حياتهم أمامنا. فالرواية، خاصة تلك التي تستنطق ذاكرة الأمكنة، تعبر بنا من الفضاء الخاص إلى العام، ليصبح العام الخاص الذي نعرف من خلاله غيرنا، لكن ماذا لو كانت الرواية تسرد ذاكرة الصحراء، الصحراء التي دائما تعد بحكايات أعتقد أنها لم ترو بعد، ولا أصدق من أن يحكي ذاكرتها رواتها فهم الأقدر على نقل فضاءها في أوضح صوره.
ومن الإصدارات الأدبية التي جاءت من الصحراء وعبّرت عن الصحراء رواية «منا ــ قيامة شتات الصحراء» للكاتب الجزائري الصدّيق حاج أحمد، التي تحكي عن التوارق الأزواد ومعاناتهم مع منا. ومنا كما شرحتها الرواية هي الجفاف والقحط بلغة التوارق، تقول الرواية: «لعلها أحسن لوحة ببادية حاسي إنوكر من صحرائنا التيلمساوية، تجسدت في جوانها، وتجلت في برانها، اغتيالات الجفاف أو كما نستعيض به في لساننا التارقي عن القحط والجدب بلفظ؛ منا.»
ومن هنا فإن موضوع الرواية هو الجفاف الذي راح ضحيته الكثير من الأزواد، ومن لا يعرف الأزواد، سوف يتتبع حكاياتهم المؤلمة روائيا مع منا، الأزواد الذي خاضوا حروبا غير معنيين بها هروبا من الموت، وهنا يتوغل الكاتب في تلك البيئة التي نكاد لا نعرف عنها شيئا، سوى معلومات قرأناها أو سمعنا عنها من هنا وهناك.
تعيد رواية «منا» من خلال الأزواد استحضار مأساة الإنسان الذي يهرب من الموت ليعثر عليه بأشكال أخرى، تتعدد الأوجه لكن يبقى الموت دائما واحد، تتعدد الحكايات وتبقى حكاية الأزوادي المكان، فهو مبتدأ حكايته ومنتهى روايته التي يصعب على غيره سردها مهما امتلك من أدوات. فإنسان الصحراء مرتبط بالمكان ارتباطه بالأسرة، وكأنه جزء لا يتجزأ من حياته، وانتقاله منه مرغما عنه موت لن يشفى منه إلاّ حين تغادر روحه جسده، فمن المكان يخلق حكاياته، ومنه يبتكر معنى لوجوده، وفيه يجد راحته. يقول الراوي: «ما يمكن أن يقال في هذا التعلق بالمكان، إن إنسان الصحراء، ليس يسيرا عليه طلاق مراتعه بهذه السماحة، لا سجال أن الحدث جلل، وبات تبرير الرحيل مسوغا جدا، لمن فر بجلده من هذه المحرقة، المهم بالمختصر المضغوط؛ الحياة أمست لا تطاق هنا!».
والأكيد أن الرواية حين تأتي على ذكر فاجعة الجفاف 1973 الذي حل بصحراء شمال مالي، فإنها لا تتوقف عند ذلك، بل تستحضر كل ما له علاقة بالصحراء، لغة أهلها، عاداتهم وتقاليدهم وكل ما يمكن أن يشكل طبيعة هذه البيئة الطافحة بالموروثات التي يعجنها السرد حيث يشاء في رواية لا تشبه إلاّ ناسها وترحالهم بحثا عن شبح الوطن رغم الشتات، بحثا عن الأمان في وطن بديل، لذا أرغموا على الرحيل إلى بلدان عدة من بينها الجزائر وليبيا. تقول الرواية: «أحلامنا – نحن أهل الأزواد – تنتقل معنا عبر شتاتنا المزروع بكامل جغرافيا الساحل والصحراء الكبرى، شبح الوطن يطاردنا في كل مكان».
ومن العبارات التي تكاد تختصر جوهر الرواية حين عبرت عن هجرة الشتات وكل ما تلاها من معاناة قول الراوي: «عرفتُ بعد سنين طويلة من محرقة الصحراء، أنّ هذه الإبل لم تكن تحمل متاعنا في هجرة الشتات فحسب، إنما وطننا المتأرجح على سنامها».
الرواية لا تصف الصحراء دون سابق معرفة بالحياة هناك، وإنما تذهب إلى أقاصيها لتقتنص حكايات خام لم تكتب بعد، ومثلما تعد زوارها المستعجلين بالكثير من الجمال فإنها أيضا تخفي من الألم ما يصنع ذلك الجمال. تحضرني في هذا الصدد عبارة السينمائي والشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني حين يقول: «عندما تعشق الجمال لا تنسى ملاحظة الأثار الجانبية له… الجمال مُؤلم.
وهنا وفي هذه الرواية تحديدا لم يتغن الكاتب بالجانب الجمالي منها، كل ما في الأمر أنه كتبها روائيا كما يكتبها من خبرها وخبر الطريق إليها، تلك الطريق التي فيما يبدو غير سهلة بالمرة لكنها تستحق عناء الكتابة لتبقى دائماً قيد الحاضر وقيد القراءة، وهذا ما فعله الصدّيق حاج أحمد في نصه هذا. يقول الراوي: «لا شيء يهون عليك سفر الصحاري، غير هموم تركن إليها وتبدأ في نظمها أو مجاور مؤنس، ينسيك متاعب الطريق، أما النوم فمطرود في سير هذه الربوع المغروسة بالأحجار والحفر».
لا تتوقف الرواية عند وصف سيرة الجفاف والقحط بل توثق سرديا لكل ما له علاقة بالأزواد والتوارق، وكل ما نجهله عنهم وعن تراثهم، وما يميزهم من فن وموسيقى إلى غيرها من الأمور التي نثرها الكاتب في نصه ليؤسس لسردية تقوم على الصحراء التي تتجاوز كما ذكرت سابقا ما نعرفه عنها. فمثلا عن تينيري يقول: «مهربون بمثلث سلفادور قالوا إن اسم السائق أغالي اقترن بطريق تينيري، بحكم أن تينيري تفيد معنى الصحراء مفردة من التارقية، ومنه أخذت الفرقة التارقية الموسيقية الشهيرة اسمها مجموعا للصحاري (تيناريوين).»
وعن تمسك الأزواد بكل ما يربطهم بهويتهم يقول: «بقي عرب أزواد متمسكين بأسمائهم في هوية تلك البطاقات لقربها وتزاوجها مع الموريتانية، فيما استبدلنا – نحن التوارق أسماءنا وأسماء آبائنا التامشقية بالعربية، واستعضنا بـ (ولد) عن (آغ).»
لكن ما جعل الرواية ثقيلة في بعض المواطن هو اللغة، واللغة بالنسبة لي أحد أهم محركات السرد، وممكن جاءت لغة «منا» بهذا الشكل لأنها تشبه البيئة المتحدث عنها في الرواية، بيئة صعبة لا يمكن المسك بها بسهولة. لكن، وكوجهة نظر خاصة، كان يمكن للسرد أن يكون أكثر انسيابية لو أن اللغة طوعته لا طاوعته فسلاسة السرد من سلاسة اللغة وثقله من ثقلها. أعتقد أيضا لو اشتغل الكاتب على الشخصية في الفضاء المكاني، أكثر من اشتغاله على المكان في حد ذاته، لربما أراد التركيز على المكان باعتباره يسرد سيرة من تعاقبوا عليه وهو الأقدر على توصيفهم وتخليد حكاياتهم، أسرارهم وانتكاساتهم، أوجاعهم ومسراتهم. ورغم ذلك تبقى الرواية أصيلة أصالة سكان الصحراء حين ينفردون بحكاياتهم التي لا تشبه أحدا سواهم، كما أنها عمل إنساني حين ينقل معاناة الأفراد الذين يحاولون بكل ما أوتوا من جهد مقاومة ظروف الحياة في سبيل العيش.
يقول الكاتب الأمريكي بول بولز: «ليس هنالك شخص يبقى كما كان بعد أن يعبر الصحراء». وانطلاقا من عبارة بولز، ندرك أن لا أحد عبر الصحراء وبقي كما كان. وعلى الرغم من ذلك فإن «منا ــ قيامة شتات الصحراء» هي رواية مقاومة الموت في سبيل قيامة الحياة.
الصدّيق حاج أحمد: «مَنّا ــ قيامة شتات الصحراء»
دار الدواية، الجزائر 2021
375 صفحة.