ثقافة وفنموضوعات رئيسية
د. محمود أحمد الطويسي: تأنيث الخطاب الروائي.. رواية “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي/ د. محمود أحمد الطويسي
لقد برهن الواقع الاجتماعي العربي بصفة عامة أن الرجل لم يحسن فهم المرأة في مجتمعاتنا لأن رصيده التاريخي من ثقافة الذكورة لم يسمح له بذلك، لذا فقد عرضت الفنون بمختلف صيغها هذا الفهم المشوه تارة، ووقعت أسيرة له تارة أخرى، فقد لجأت شهرزاد لحيلة ترويض شهريار في ألف ليلة وليلة لإنتاج نص سردي يبرهن على صحة هذه الإشكالية، وكذلك تناول الشعراء والفنانون بصفة عامة المرأة كمخلوق جميل ولا شئ يجعلها جديرة بالحديث عنها إلا كونها جمالها.
وقد عبرت هذه العقلية الذكورية عن تمثلاتها في مختلف مجالات الثقافة، ومنها الفنون بصفة عامة، والأدب بصفة خاصة، أحد هذه التمثلات نجده في المصطلح النقدي، حيث يعبر مصطلح الفحولة في تاريخ الأدب العربي، عن التفوق الفني للشاعر، والفحل في اللغة هو ذكر الحيوان المتفوق جنسيا، على أن الشاعر الفحل قد تفوق في المقارعة الفنية، والوجدانية حتى أصبح بمنزلة ذلك الذكر الحيوان من ناحية التفوق الجنسي والذكوري، بينما لا يوجد مصطلح نقدي لتقييم التفوق الفني للمرأة الشاعرة، رغم وجود شاعرات ناقدات كن يقيمن أداء شعراء فحول كالخنساء.
لقد ترسخ مفهوم الفحولة في الواقع النقدي من خلال كتاب أبن سلام الجمحي ” طبقات فحول الشعراء” الذي جمع فيه تراجم وأشعار كافة الشعراء العرب الذين بلغوا تلك المنزلة في العصر الجاهلي والاسلامي والاموي وبعض شعراء العصر العباسي.
ورغم أن هذه الفترة قد زخرت بشاعرات كبيرات، إلا أن الفحولة لم تشمل أي منهن، لقد امتدح على سبيل المثال النابغة الذبياني في سوق عكاظ الخنساء بعد أن سمع قصيدتها الرائية في رثاء أخيها صخر وقال لها: ” اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين ” وقال أنها أشعر الجن والإنس، وسئل جرير يوما ” من أشعر الناس؟ قال: أنا لولا هذه الخبيثة (الخنساء) ” ، وقال عنها بشار بن برد: ” لم تقل امرأة قط الشعر إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال “، رغم ذلك كله لم يشملها مسمى فحل، ولم يصنفها ابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء، رغم أن اللغة تحتمل معنى الفحلة بمعنى سليطة اللسان.
لقد عجز النقد العربي حتى الحديث منه عن انتاج مفهوم مواز للفحولة يشمل الشعراء بشكل عام الإثاث و الذكور، مما جعل الفن ذكوريا بصفة عامة انطلاقا من الطبيعة البطريركية للثقافة العربية التي سيدت الذكورة وجعلتها أصل الاشياء، ولم تعبأ بالمرأة إلا بمقدار ما يخدم ذلك تشييئها وتسليعها كموضوع للفن.
ad
” ذاكرة الجسد ” هي الرواية الأولى لأحلام مستغانمي بعد عدد من الدواوين الشعرية، حيث استفادت في هذه الرواية مما يملكه الشعر من طاقة تعبيرية ووجدانية، مما جعل اللغة في الرواية مركز الخطاب والحبكة، بوصفها لغة ترميز قبل أن تكون لغة سرد.
تسرد أحلام مستغانمي في روايتها “ذاكرة الجسد” حكاية البطل خالد كرمز للفحولة، وجعلته بطلا ناقصا مقطوع اليد لا يقوى حتى على احتضانها، بينما تتسيد اللغة الروائية مشهد الأنوثة الرمزية التي صاغت الرواية بأسلوب الشعر، فحاكت مفهوما جديدا للغة الأنثى، أو ربما الفحلة، وتعبر في ذات الوقت عن المشكلة الثقافية الجزائرية المتمثلة في جدل العلاقة بين اللغة العربية والفرنسية، من خلال رواية تعتبر تحفة لغوية عملت على تمجيد اللغة العربية، والتعبير عن امكانية التأنيث الثقافي واللغوي، والمساهمة في بناء نموذج أبداعي يسعى إلى إعادة بناء الوعي الجمعي بشكل يحمل وعدا حقيقيا بتأنيث الثقافة والفنون، بمستوى لايقل أهمية عن تذكيرها والسيطرة على قوانينها ومعاييرها.
تقول مستغانمي: “من قال أننا نهجس بتلك الفحولة التي تباع في الصيدليات، أو تلك الذكورة النافشة ريشها، التي تفتح أزرار قمصانها لكي تبدو السلاسل الذهبية الضخمة، وما فاض من عشب، وتضع في أصابعها خواتم بأحجار لافتة للنظر، رجولة الساعات الثمينة، والسيجار الفخم التي تشهر أناقتها، وعطرها، وموديل سيارتها وماركة جوالها، كي تشي بفتوحاتها السابقة، وتغرينا بالانضمام إلى قائمة ضحاياها”.
إن شعرية اللغة في ” ذاكرة الجسد ” ليست قيمة جمالية، بقدر ما هي قيمة وظيفية ذات دلالة تلخص من خلالها الكاتبة التفوق الأنثوي الموازي للفحولة الذكورية في محاولة لإعادة بناء الوعي الجمالي والنقدي والثقافي، على أساس يستند إلى معطيات حضارية وحداثية تعيد للأنوثة موقعها الذي تستحقه على أسس نقدية حقيقية.
لقد حققت مستغانمي في هذا النص انزياحا كبيرا في مفهوم البطولة في الرواية، فخالد ليس سوى بطل تقليدي رغم كونه الراوي، فقد قوضته الكاتبة، وجعلته مجرد كاتب لرغاباته فقط، ومنحته يدا واحدة فقط ليكتب بها، وجعلته رجلا ناقصا تابعا، جعلته ينكتب في النص صاغرا ناقصا خاسرا، تقول على لسان خالد: “ولا بد أن أعثر أخيرا على الكلمات التي سأنكتب بها، فمن حقي أن اختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي لم اختر تلك القصة (ذاكرة الجسد)، لقد جعلته كائنا ورقيا، رجلا من ورق اصطادته كتبته بحرف أسود داخل هذا البياض “
وبهذا المستوى من الخطاب اللغوي استطاعت مستغانمي أن تنتقم للأنوثة من الرجل الفحل، حيث الكاتبة هي البطلة المكتوبة المستحيلة على الراوي الشبقي، وهي المرأة التي حلم بها خالد زوجة له، أي المرأة التي عشقتها ثقافة كانت على الدوام متنكرة لها، ومن أجل ذلك غيرت قوانين اللعبة من خلال تأنيث الخطاب السردي، والارتقاء به عن كون الأنوثة مجرد موضع للغزل والتسليع في الفنون كافة، إلى مستوى متفوق من تأنيث السرد لإحداث التوافق بين اللغة الأنثى وفقا لطبيعة العشق الانثوي من حيث الشدة، وبهذا استحقت اللغة دور البطولة في النص، من خلال إعطائها دورا وظيفيا بما تعنيه اللغة كطرف في صراع الأنوثة والذكورة.
تؤسس مستغانمي بهذا المستوى من الخطاب لوعي جديد باللغة عبر كسر هيمنة الذكورة على الخطاب اللغوي بمجمله والانفكاك من الموروث الذي أسس للأبوية البطريركية في الثقافة واللغة والأدب و النقد على حد سواء، لاستعادة التوازن في المنطق الثقافي واللغوي من خلال استحداث أنوثة مقابلة للفحولة.
إن المتتبع لنتاج أحلام مستغانمي الروائي اللاحق لرواية ذاكرة الجسد سيجد موضوعة الأنوثة السردية هي مشروع تتبناه وتسعى من خلاله للارتقاء بصورة الأنوثة وانتشالها من النمطية التي تشيئها وتجعلها مجرد صورة جميلة على غلاف مجلة، أو مجرد موضوع للنص الشعري لتصبح فاعلا حقيقيا في النص بمعايير الأنثى المتفوقة، والمكافئة للفحولة الذكورية في الثقافة والفن.