البعد السياسي والإجتماعي في المجموعة القصصية “صدر الحكاية” للقاص الجزائري قلولي بن ساعد
خديجة مسروق
إذا كان الأدب سابق للنقد ولا يمكن لهذا الأخير أن يوجد إلا بوجود الأدب . النقد أيضا يعد وجه ثان للإبداع الأدبي و لولاه لبقي الأدب حبيسا بين دفات الكتب، فهو إبداع آخر وبالتالي يمكن القول إن العلاقة بينهما علاقة تكاملية.
وكم هو جميل أن يجتمع النقد والإبداع الأدبي في شخص واحد. إذ يمكن للناقد أن يكون مبدعا في مجال الكتابة الأدبية الشعر، القصة، الرواية ..) لكنه من العسير أن يصبح الكاتب ناقدا.
من الفلسفة إلى الأدب ومن النقد إلى الإبداع القصصي. الأكاديمي “ قلولي بن ساعد “ ناقد ومفكر وأديب فرض حضوره على المشهدين النقدي والأدبي في الجزائر وخارجها اعتنق مذهب الكتابة القصصية ليؤكد جدارته في هذا المجال.
والإبداع الحقيقي هو قدرة الكاتب على استنطاق الواقع ليخلق منه نصوصا مميزة وينقلها للقاريء بكل أمانة و موضوعية. وهذا ماحدث مع القاص “ قلولي بن ساعد” الذي انطلق من مسقط رأسه بـ “ الجلفة “ لصياغة مجموعته القصصية “ صدر الحكية “ التي سأقوم في مقالي هذا بقراءة متواضعة لها .
ومن المعلوم أنه لا يوجد نص أدبي يخلو من الإيديولوجيا، التي عُدّت من العناصر الأساسية المكونة للإبداع الأدبي .و ما الكتابة الإبداعية إلا صورة معبرة عن العوالم الداخلية للذات الكاتبة . يطرح القاص “ بن ساعد “ مجموعة من التأملات الفكرية والفلسفية ،كيف لا وهو المطلع على كبار الفلاسفة وعمالقة الأدب في العالم .
“ صدر الحكاية “ اشتملت على أربع عشرة قصة. عاد من خلالها القاص إلى الماضي، إلى ما يقارب ثلاثة عقود من تاريخ الجزائر لرصد التحولات التي شهدها المواطن في تلك الفترة .. عبّر عن رؤية مناهضة للإيديولوجيات السائدة آنذاك . كما حاول أن ينقل للقاريء صور عن انهيار أحلام الجزائري في التطلع إلى حياة كريمة في جزائر الاستقلال .
يدور الفضاء العام للمجموعة القصصية في قرية “ زنينة “ الواقعة بـ” الجلفة “، حيث جعل القاص من قريته محورا أساسا تدور حوله أغلب أحداث هذه القصص .
“صدر الحكاية “ واحدة من قصص “ قلولي بن ساعد” التي اختارها عنوانا لهذه المجموعة القصصية. تطغى عليها المسحة الروحانية . بطلها أحد الدراويش كان يتنافس أهل القرية على إطعامه ووالقيام بكلما يحتاجه تيمنا و تبركا به . “ احميدة العفريت “ كان وحيد والديه، حدث أن قتل حمامة بيضاء بالبندقية حين كان يافعا فعاتباه و جميع الجيران و اعتبروا مافعله جرما كبيرا لأن الحمام لا يقتل . فأصيب في عقله ..
كاد الفقر أن يكون كفرا .. و المرأة مهما كانت ضعيفة لا تُؤتمن إذا ظُلمت، لأنها ستحاول أن تدافع عن حقها ولو أُهلكتْ دونه .” مايسة “ قصة امرأة فقيرة بائسة، عاشت أبشع أنواع الظلم و الافتراء (من اغتصاب وفقر وقهر ..) من قبل بعض الوحوش البشرية . بعد سنوات من التشرد فتحت السعادة أبوابها أمام “ مايسة “، تزوجت من شيخ ثري لتستقر في منزل يأويها و كان زوجها يوفر لها كل ما تحتاجه .
غير أن يد القدر لم تمنحها وقتا طويلا لتسعد بتلك الحياة الجميلة التي لم تعرفها من قبل . مات زوجها وأصرّ ابنه أن يحرمها من حقها في الميراث ، فلم يكن أمامها إلا أن توغل في أعماقه سكينا حادا لتتركه جثة تسبح في بركان من الدماء و تسلم نفسها للشرطة .تقضي عشر سنوات نافذة خلف القضبان، خمسة منها قضتها في مصحة الأمراض العقلية .
الوحوش البشرية لا يقتصر وجودها في أماكن معينة . الفساد في المؤسسات التربوية ظاهرة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها و الفسدة هم فئة من البشر فقدوا إنسانية الإنسان يمكن أن تتحول على أيديهم هذه المؤسسات من منارات للعلم إلى أماكن لممارسة الرذيلة . القاص حاول إماطة اللثام عن بعض مظاهر الفساد الموجودة في الجزائر كما هي موجودة الوطن العربي، و التي تعد من الموضوعات الحساسة التي يتجنب بعض الكتاب الوقوف عندها ..
لكن هذا لا ينفي أن كثيرا من السرود العربية تقف على هرم المتغيرات لرصد الواقع و تعريته، و تدوين الحقائق دون تزييف أو تحريف. وهناك أمناء فعلا وُجدوا من أجل قول الحقيقة دون أقنعة . “ قدور بومحيزمة “ شخصية من شخصيات القاص “ قلولي بن ساعد “ الذي عده مرجعية تاريخية، جسد دور “ الطائر الذي بدّد سراديب الصمت “ يعامله بعض الناس على أنه مجنونا .لكن يبدو أنه أعقلهم جميعا “ إنه ينام الآن على مادة دسمة لقول الحقائق المرة التي ميزت مساراتنا منذ فجر الثورة والإعداد لها من دون مساحيق النفاق الإجتماعي السائدة بجزائر اليوم “1 ..
زاوج القاص في سرديته بين التصريح والتلميح المتعمد لتمرير رسالته للقاريء . وبأسلوب بلاغي فخم تواشج فيه البعد السياسي مع البعد الإجتماعي ــ كظاهرتين إنسانيتين ــ ليشكل منه نسيج مجموعته القصصية “ صدر الحكاية “. وكان للعناصر الثقافية نصيب في الحضور كـ “ العادات و التقاليد و الخرافة و المقولة الشعبية وبعض أسماء الصوفية ..” كما لم تخلُ هذه النصوص من أدوار الحب و العاطفة بدا فيها الكاتب وصّافا في تعابيره بارعا وكأنه شاعر جاهلي ينظم الشعر عن سليقة ..
المرأة المتحررة يمكن لها أن تتخلى عن كل شيء ولو كان شرفها كي تثبت ذاتها قصة “ نائبة “ بطلتها مناضلة في حزب سياسي كانت تمارس الغواية ليكتمل لديها معنى الحرية . تمنح جسدها بسخاء ارضاء للساسة المسؤولين كي تتحصل على مقعد في البرلمان .. والمرأة تعدّ “آخر “ بالنسبة للرجل .الكاتب العربي ظل يمارس عملية الإقصاء في كتاباته في تصويره لعلاقة الأنا بالآخر فيُعلي من شأن الذات و يبرز محاسنها و إيجابياتها و يقلل من شأن الآخرمهما كان هذا الآخر .
“حنين “ جسد فيها القاص ثنائية “الأنا “ و” الآخر” . “ ماري “ كانت ثمرة اختلاء “ الحاج المشري “ بـ “جاكلين الرومية “ التي كان يعشقها بجنون . بعد رحيل القوات الفرنسية من الجزائر أخذت “جاكلين” ابنتها “ ماري “ إلى باريس و لم يعد “ الحاج المشري يعرف عنهما شيئا .
بعد ثلاثين سنة تعود” ماري إلى الجزائر لتلتقي بأهلها . و تعمل على تسوية وثائقها لتكمل حياتها على الأرض التي ولدت فيها . لتمثل صورة لقاء الشرق بالغرب .. قصة “ حنين “ صورت “ الأنا الجزائرية “ تجسدت في شخصية “ الحاج المشري “ الذي يتمكن من المرأة الغربية عن طريق الجنس .و” .جاكلين “ التي مثلت صورة “ الآخر “ . فكانت في موضع الضعف و الهزيمة بينما بدتْ “ الأنا “ في موضع القوة ..
مع أن القا اخترق أهم عنصر في البناء القصصي في أكثر من قصة في اشتمالها على أكثر من حدث، والقصة لابد لها أن تقوم على حدث واحد إلا أن تجربته هذه تؤكد على امتلاكه لطاقة سردية رهيبة تراهن على نجاحه في مجال السرد القصصي .
في مجموعته القصصية تعرض “ قلولي بن ساعد “ لمجموعة من القضايا ذات البعد السياسي و الإجتماعي انطلاقا من الواقع ، وركز في ذلك عن الكشف عن هموم المواطن الجزائري البسيط الذي يعاني التهميش و البيروقراطية .
كان يخاطب ذاته، يقف أمامها ليهرب منها إليها.و الماضي لا شك أنه يحمل الشقاء و السعادة و مهما حاول الفرد استرجاع اللحظات السعيدة فقط فلن يحصل له ذلك . فالذاكرة في الغالب لا تحتفظ إلا بالأشياء الموجعة كما يقال . يتساءل القاص “ لا أدري حقا لماذا حين أخلو إلى ذاتي تهجم عليّ أصداء الطفولة دفعة واحدة .. أجد نفسي عاجزا على مواجهتها، أو تجاهل صورها … تتوجس بداخلي كطيف لاشيء يحمله معه غير كتاب الماضي و صخب الذاكرة، و نداء الأقاصي “ ..2
ومع ذلك تبقى الطفولة أجمل مرحلة يمر بها الإنسان يحن إليها كلما تزاحمت أمامه الذكريات .لذا كانت “ صدر الحكاية “ مهداة إلى ذكرى طفل يدعى قلولي بن ساعد..