إشكاليّة الاغتراب في رواية ” رحلة إلى ذات امرأة” للكاتبة صباح بشير/ لميس كاظم
21 مايو 2023، 01:51 صباحًا
شغل موضوع الاغتراب حيّزا كبيرا في الروايّة مذ نشاءتها، جسّد الروائيون حالات الاغتراب بكافة أنواعه داخل بلدانهم وخارجها. انضمت إليهم الكاتبة المقدسيّة صباح بشير في روايتها البكر” رحلة إلى ذات امرأة”، الصّادرة عن دار الشّامل للنشر والتّوزيع عام (2023)، لتسلط الأضواء على اشكاليّة اغتراب الذّات ومدلولاتها على بقية الأحداث، في نصّ روائيّ مسبوك بلغة رصينة وخطاب نثري سلس، ومتن روائيّ يناقش واقع المرأة الفلسطينيّة ومعاناتها في مجتمع يُغيّب حقوق المرأة.
تسحبنا الكاتبة بشير برحلة مشوّقة إلى أعماق ذوات شخصيّات أبطالها؛ لتكشف لنا المستور، فيرتدي البعض منها الأقنعة في صراعاتها ضد بعضها البعض أو مع نفسها، وتعدّ هذه الرّحلة واحدة من أعقد الرّحلات الرّوائيّة، ذلك لأنها تُضمّن النّصّ بخطاب مباشر أو بسيمياء عن أشكال الاغتراب؛ النّفسيّ، الاجتماعيّ، العاطفيّ، الأخلاقيّ، الإنسانيّ، الزّمكاني، السّياسيّ، والكونيّ.
ففي محطات السّرد تنتفض بطلة الروايّة ” حنان” تارة على ذاتها؛ المسالمة، الضّعيفة المواجهة، المسلوبة حقوقها والمنتهكة كرامتها، وتارة أخرى تتصالح معها وتشحنها بقرارات حاسمة في حياتها، وأهمها؛ مواجهة زوجها، عودتها للدّراسة، الطّلاق، الهجرة، والعودة إلى الوطن.
ad
يُدخِل عنوان الرّوايّة “رحلة إلى ذات امرأة” المتلقّي إلى محطة اغتراب النّصّ الأولى، فيثير لديه تساؤلات عن إشكاليّة اغتراب الذّات في التخيّل السّردي، ويحرّك لديه عنصر التّشويق لمتابعة بقية محطّات الرّحلة.
تجدر الإشارة إلى أن الكاتبة بشير وظّفت أسماء أبطال الرّوايّة “حنان، شروق، عمر، ونادر” كدلالة ضمنيّة متطابقة أو متقاطعة مع بُنية السّرد.
تستهلّ بطلة الرّوايّة “حنان” أحداث الرّوايّة من المحطة الاخيرة بلقطة ” فلاش باك” تسردها من شرفة شقتها، واصفة حنينها المتدفّق إلى مدينتها رغم أنّها عانت فيها الويلات، فاضطرّت أن تَهجر مجتمعها، إلا أن الحنين إليها وإلى والدها يحفزّها إلى الهجرة المعاكسة، كتضمين في بينة السّرد لحالة الاغتراب الزّمكانيّ.
شغل حراك الإنتفاضة الفلسطينيّة حيّزا في المتن الروائيّ، وبسببه تعطّلت كافة مظاهر الحياة، فحُرمت حنان من بدء دراستها الجامعيّة التي حلمت بها، الأمر الذي جعلها ترضخ لقرار الأهل وقبول الزّواج التقليدي” لم تهدأ الاضطرابات.. وأعلن الإضراب.. يفرض حظر التّجوال حتى شعار آخر” ص 33. إنها إشارة إلى الإغتراب السّياسيّ الذي أسقطته الكاتبة بشير على أحداث الرّوايّة ذات الطّابع الاجتماعيّ.
حكمت حنان على زواجها التّقليديّ بالفشل قبل شروعه، “وتصبح فكرة الزواج كابوسا بكل تبعاته.. “ولا يبدو سيكون بيننا أي انسجام” ص 62. هذا النّصّ يفضح هواجس اغتراب الذّات عن نفسها التي تحقّقت في ليلة دخلتها، أسهبت الكاتبة في وصف تلك اللّيلة بعدة صفحات لتمنح النّصّ مدلولاته البنيويّة والسّيمائيّة.
قاربت حنان بين الفستان الأبيض والكفن الأبيض، “اجتاحني إحساس غريب، كأنه الكفن، فالقماش الأبيض يستخدم لتغطية أجساد الموتى وقت تكفينهم وتجهيزهم للدّفن… أدركت حينها أن للموت اشكالا عديدة”. ص 91. هذا السيمياء يثير سؤالا لدى المتلقّي لمعرفة أي شكل من أشكال الموت؟ وفي الوقت عينه إشارة واضحة إلى اغتراب مشاعرها عن زوجها. تكاد تلك الليلة التي يفترض بها أن تترسّخ بذكرى جميلة، تتحول إلى ليلة إعدام على حد وصفها، “هل ينام المحكوم عليه بالإعدام ليلة إعدامه والحبل ينتظر رقبته صباحا؟” ص 95. رغم قساوة الوصف إلا أنه سيمياء يشير لحالة الاغتصاب التي قد تتعرّض له المرأة العربيّة ليلة زفافها، فقد تركت تلك الليلة ندب سوداء في ذاكرتها ورسمت مستقبلا حزينا لعلاقتها الزوجيّة، بعد أن اغترب جسدها عن جسد زوجها “عمر” لعدة اسابيع فأوغل في إهانتها، “كان يعاملني كجارية من سبي الجاهلية” ص 102. إنها إشارة إلى الإغتراب الإنسانيّ والأخلاقيّ، وما نجم عنه من اغتراب اجتماعيّ بين حنان وعائلة عمر، الذين اصطّفوا إلى جانب ابنهم المتخبّط في سلوكياته السّلبيّة محاولا فرض سطوته على زوجته.
اتّسعت دائرة الاغتراب خارج حدود عائلة عمر لتصبح ككرة الثلج، فشملت عائلة حنان أيضا، بسبب حواراتها المستمرّة مع أمّها لطلب الطّلاق الذي رفضته، ومنعتها من إعلام والدها بالأمر، وكتحصيل حاصل اغترب المكان بين حنان وعمر فأمست المسافات الاجتماعيّة بينهما بعيدة، فعاش كلّ منهما مغتربا عن الأخر.
تعسّر على حنان حلّ مشاكلها فاستسلمت للأمر الواقع وعاشت بؤس الحياة الزّوجيّة لائذة بصمت حزين، لم يبق لها سوى عالمها الخاصّ، تتذكّر فيه حبيبها الذي استشهد في الانتفاضة فغادر الحياة دون أن يبادلها الحبّ العذريّ، “تعود بي الذّكريات إلى الشّهيد خالد، ثمّة حزن ينساب إلى روحي كلما تذكّرته، يسكنني الحنين إليه، حنين شفيف يرشح من مسام الرّوح، فأعيش الفقد وحرقته، ورغبة محمومة في العودة إلى تلك الأيام البريئة التي غابت وانتهت” ص 99.
هذه النّستالوجيا استعانت بها حنان في رحلة اغتراب النّفس عن ذاتها كملاذ تطبّب فيها جروحها الدّاخليّة، تكرّرت هذه الإشارة مرارا في المتن الرّوائيّ كإشارة إلى الاغتراب العاطفيّ، وتضمين اسم الشّهيد لحالة الاغتراب السّياسيّ.
أصبحت ولادة طفلة حنان الوحيدة “شروق” هي شعاع الأمل التي أشرقت على يوميات حنان؛ لتدفئ مشاعرها وترسم البّهجة على وجهها وتخفّف عنها هول معاناتها، فكرّست جلّ وقتها لها، اعتقدت حنان أن وجود شروق في عائلة زوجها سيخفف وطأة الاغتراب الاجتماعي، إلا أنه زاد في تعميقه، خاصة بعد أن اجهضت حنان طفلتها الثّانيّة، فجاء حديث أم عمر جليّا “لقد زوجّنا عمر ليمتلئ بيتنا بالأولاد الذّكور، يبدو أنك لا تنجبين إلا الإناث” ص 106.
يكاد اعتراض حنان السّري ليس الأول من نوعه، كان أبلغه عندما حرق عمر وأمه كتبها، فحاورت ذاتها بمنولوج داخلي عمّق اغترابها الفكريّ عنهما، “لم يعلما أنّني شعرت بألسنة النّار تلك، تأكل قلبي، شعرت بجسدي جثة هامدة” ص 134.
أود التنويه إلى أن الكاتبة بشير كررت أشكال الموت في المتن الرّوائيّ لتمنحه ثقل مدلولاته وتستخدمه كسيمياء لحالات الاغتراب.
استمر الاغتراب الجسدي بين حنان وزوجها ينمو بوتائر سريعة، وبعد أن طفح الكيل أعلنت حنان اغترابها العاطفيّ عنه، “قد تقدّم المرأة نفسها مرغمة فتبدو علامات الاستمتاع الظاهرية.. “المتعة الحقيقة تحتاج إلى تناغم الروح والجسد، والحبّ من كلا الطرفين”. ص 139.
حالما قرّرت حنان الطّلاق اشتعل سعير حرب الاغتراب الاجتماعيّ ضدها بجبهتين، الأولى؛ زوجها وأهله الذين شوّهوا سمعتها متّهمين إياها بالخيانة الزوجيّة، والثّانيّة؛ عائلتها بقيادة أختها غادة التي حرّضت أخواتها ضدّها فناصروا ادعاءات طليقها.
افتقرت شخصيّة حنان إلى الوسائل الدفاعيّة الكافيّة، التي تؤهلها الصّدّ لهاتين الجبهتين، فوجدت نفسها مضطرّة أن تهجرهم، فغادرت الوطن لتدشّن بذلك الاغتراب الكوني، “ولأنني لا أريد أن أحقد أو أكره أو أجرح أحدا، قرّرت الابتعاد والهجرة” ص 199.
توقعت حنان أن عوالم باريس المثيرة ربما ستغير حياتها نحو الأفضل وستحرّرها من هواجس اغتراب الذّات، إلا أنها واجهت الاغتراب الأشدّ صعوبة، ألا وهو اغتراب الهوية وانعزالها عن المجتمع، “كنت أعود إلى البيت منهكة منكسرة، أجرّ خطى الإخفاق والخذلان” ص231.
وفيما بعد وجدت بصيص أمل في عملها الجديد، فاستعادت توازنها الذّاتيّ وثقتها بنفسها، وحين رقّ قلبها لشاب وسيم وقعت في غرامه اغتربت مع امّها اغترابا أخلاقيّا، “لا تحكمي على الموضوع بسرعة فليس كل ما يلمع ذهبا، لن ينظر لك النّاس نظرة سويّة إن فشلت هذه المرة” ص234. نعم، كان الحوار صادما لها وفي ذات الوقت أثار تساؤلات داخليّة أكّد اغترابها النفسيّ، “هل يمكن أن تتكرّر مأساتي مع طليقي فأعيش تجربة فاشلة؟ “أشعر ببعض الدّوار ودوامة عميقة تدوّي من حولي” ص 236.
عاد إليها الاغتراب النّفسيّ ذاته بعد سفر زوجها المفاجئ، “شعرت بالكآبة والوحشة، لا أريد العودة إلى الوحدة مرة ثانية.. هل سيعود سوء الحظ.. أيعقل أن تدور بي الدّائرة من جديد” ص 257. حاكمت اغترابها كقدر يخرج عن إرادتها، وحالما حسمت أمرها بالهجرة المعاكسة شعرت بالاغتراب المركّب الذي ستعاني منه، “كثير من الصّور كانت تمر أمامي؛ الوطن الجريح، شروق، والدتي، إخوتي، وغادة التي تنتظر وقوعي مرة ثانيّة، وحتما عمر الذي لن يترك فرصة للإجهاز علي” ص 258. وتضيف حنان إليه اغترابها الزّمنيّ “لم أعرف كم من الوقت مضى عليّ وأنا على هذه الحال” ص 258.
تتحدّى حنان اغترابها المركب وتعود لوطنها، “شعرت أن هناك ما يشدني إلى الوراء، لم أرد النّظر إلى الخلف فصعدت الطائرة بسرعة” ص. 269.
تُنهي الكاتبة بشير متنها الرّوائيّ من ذات الشّرفة التي ابتدأتها بمناجاة وطنيّة كدلالة على الاغتراب السّياسيّ، “أيّها الفلسطينيّ، تعال وانزع غربتك الملطّخة بأوجاع الحياة، تأكّد من نبضات مدينتك ولا تغادرها، فهي تتألّم بصمت” ص 270 وتختمه بهذا النّصّ الذي يجمع الحنين والحزن والتّحدي والمعاناة، “كانت عودة مشتهاة وحزينة في ذات الوقت لأن تعود الرّوح إلى أرضها وأهلها، وحزينة لأن العودة ناقصة، فما زال الوطن جريحا، وهي حقيقة مؤلمة موغلة في الحسرة.” ص 271.