قراءة في قصة الشيخ بكاي القصيرة جدا “بلقيس” / النجاح بنت محمذ فال
“أطلت من قمة الجبل البني الأسطوري المعمم بالرمل الصقيل طيفا يسبح في زرقة الحلم….،
بنت من الورود قصرا.. وشقت أنهار عطر أقامت على ضفافها عرشا عظيما تَراقَصُ حوله صبايا الجن..
تَشَرَّبَ الكونُ الساهي من صوتها الابح الدافئ ونايها العذب أنغامَ الجنان…
ثم اختفت، وعادت مزنةً تسوق الساريات الحالمات – فجرا- بزرع الحياة في الارض
الجَروز…
أيقظت أشعة الشمس الآثمة نُوَّما..
دوى صفير الريح.. اهتزت الارض..
انهار القصر والتحمت شظاياه بشظايا عرش بلقيس المشتعل بالعطر الجاري في أنهار الكذبة الكبرى…
وضُحىً أطلق قمر ابتسامة…
وقال نجم: ” الحقيقة هنا”…
القراءة:
للجن مقامهم فى ملاحم القصص الاسطورية حتى مع النبيئين مما ينسجم مع تراقص صبايا الجن زهوا في قصر ملكة الحب فى قصة بلقيس ذات الملامح الاسطورية
(أطلت من قمة الجبل البني الأسطوري المعمم بالرمل الصقيل طيفا يسبح في زرقة الحلم الازرق )
ياتى فعل أطل هنا ليؤسس لمسار اسطورى.. لحب صقيل منبعث من عالم مغاير لعالم المحب .. حب ما لبث ان امتطى ثنايا الزمن مستقرا فى زرقة الاحلام ،..
لم تكن ملكة الحب هنا كغيرها من الملكات. إنها ثورة خلاقة أسست لاستيطان قلب المحب بكل آليات البقاء من خلال العلاقات الإسنادية (بنت ، شقت ،أقامت ) واستقرت في ثنايا الزمن ..استوطنت القلب : (وشقت أنهار عطر أقامت على ضفافها عرشا عظيما ). ولها ان تكون كذلك فى خضم موروث عربي إسلامى يزخر بقصة بلقيس ملكة سبأ التى جاءت إلى سليمان ولما لم يحضر في استلهام من حضور بلقيس يبدو البطل فى اناه اللاشعوري غارقا في حلم ازرق بوصال صنيعته أنثوية حين يحدث انزياحا من عفريت الجن الذي عرض على النبي سليمان إحضار عرش بلقيس إلى صبايا الجن ..
ولتتكتمل المأساة تختفي (ثم أختفت،) لكنها ما تلبث أن تعود كما اختفت في تسارع للأحداث بموجبه يتسنى الوصال ..
ومع ما حملته تلك العودة من ملامح الشعور بالانشراح، شكلت المقابلة أبرز ملامحه ، حيث الارض الجزور مقابل الساريات الحالمات ، فى مقارنة بين حاجة الأرض للغيث وحاجة البطل إلى ملكة حبه الغازية:
(وعادت مزنةً تسوق الساريات الحالمات – فجرا- بزرع الحياة في الأرض
الجَروز…) فإنها ما تلبث ان تختفي من جديد لكن الاختفاء هذه المرة صاحَبه سخط المحب فانجر إلى استحضار غضب الطبيعة نقمة منها (دوى صفير الريح.. اهتزت الارض..
انهار القصر).
وعندئذ يداعب البطل وجدانه وتنزاح العلاقة الإسنادية التي غدت الافعال فيها مسندة إلى غير المستوطنة ربة القصر بحيث وردت :
- إما مسندة إلى الطبيعة (أيقظت
أشعة الشمس الآثمة نُوَّما، دوى صفير الريح..)
- أو واردة فى صيغة الأفعال الدالة
على المطاوعة (اهتزت الارض،
انهار القصر ، التحمت شظاياه… )
كل ذلك من أجل إضفاء الصور الحالمة على الملكة المستوطنة وإزاحة الصور ذات الملامح السوداء عنها ..
ومع ذلك لا يفارق القصة غضب المحب وتشظيه جراء غياب الوصل فيحيل القصر إلى شظايا بفعل كل القوى التدميرية … وهنا يتدخل اللاشعور ليحمي القصر محيلا إياه إلى عالم الخلود ، كعرش بلقيس الذي خلده الذكر الحكيم تناقض تتطلبه القصة القصيرة جدا بمقتضاه يخلد القصر ويأمن الزوال !
لكن سيلا من الغضب ينصب على بلقيس فى تجليها بديلا عن المستوطنة الغازية التى هي بمنأى عن العتب ولو انه من موروث المحبين …
ولكنه هنا التصق ببلقيس التي وردت فى صيغة المعرفة بينما تلائم صفة النكرة تلك المستوطنة (أطلت ) في حين تلتصق صفة الكذب بقصر بلقيس (بانهيار الكذبة الكبرى )
تتدرج الكذبة الكبرى هنا في المفاهيم الفلسفية والعاطفية فهي تصور يرسم للحياة بوجه عام
ثم إن الكذوب صفة أطلقها ادباء العربية على الحبيبة كنوع من :
الحسرة لغياب الوصل :
تعجبت من حبي لعويش ضلة
على أنها زلاء كذابة حمقى
وأي فتاة اعجبتك ملاحة :
إذا أقلعت منها يقل الذي يبقى
- أو إجلالا لقيم العفة..
ورغم كل ذلك تبقى كذبة الحب تلامس الحلم الازرق للبطل الذي ظل يتوارى خلف ستار الراوى لى أن تمده الذاكرة بلقطة وصل قديم ظلت القصة قادرة على تجددها زمانا
(وضُحىً أطلق قمر ابتسامة…) ، و إن بقي المكان بين عوالم النجوم : (وقال نجم: ” الحقيقة هنا”…)
حقيقة لفها ظلام الرمزية حتى آخر القصة ، إلى أن تجلت شخوصها فىي:
- القمر الذي يعبر عن البطلة الغازية التي أسست بنفسها قصرا فى مملكة القلب في غياب أي تنسيق مع البطل الذي ظل يتوارى حتى آخر القصة
– النجم حين تجلى الموحى بالمحب فى تقريره لحقيقة الحب بعد أن كان اكذوبة ومع انه يتضاءل أمام القمر بفعل سطوة الحب وتجلى اشراقة ابتسامة القمر ..
لكن النجم البطل اهتدى إلى الحقيقة التي أوحت به إشراقة الابتسامة !
والنجوم من أدوات الاهتداء “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ”).
١١١
Q