“مجموعة قصصية للدكتور محمد العشيرى /إبراهيم عوض
عرفت د. محمد العشيرى فى العام الدراسى 81- 1982م فى لندن إذ كنت انتقلت للسكنى فى العاصمة البريطانية فى آخر سنة لى ببريطانيا كلون من التغيير بعد أن قضيت فى أكسفورد خمس سنوات أثناء دراستى فى جامعتها، التى أوفدتنى آداب عين شمس، حيث كنت أعمل مدرسا مساعدا، لنيل الدكتورية فى النقد الأدبى منها. وكان د. العشيرى وافدا لتوه من مصر للدراسة فى لندن فى اللغويات. وبدا لى مثقفا ثقافة واسعة ويعرف الإنجليزية جيدا. وقد زرناه فى بيته وزارنا فى بيتنا. وكان هو الشخص الوحيد الذى رافقنى من لندن إلى أكسفورد يوم مناقشة رسالتى، وإن كان بعد وصولنا إلى تلك المدينة قد ذهب لزيارة مكتباتها وشراء بعض الكتب منها بينما قصدت أنا كلية سانت أنطونى وقابلت مشرفى د. مصطفى بدوى وصعدت مع مناقشىَّ: د. محمد عبد الحليم الأستاذ بجامعة لندن، ود. هوب وود الأستاذ بجامعة أكسفورد إلى الدور الأول ودخلنا غرفة من غرف المحاضرات الصغيرة وجلس ثلاثتنا فى شبه دائرة على ثلاثة من كراسيّها المتناثرة، وبدأت المناقشة دون جمهور ودون حضور المشرف وسارت فى غاية من اللطف والود، وانتهت كما بدأت فى نفس الجو، وذكر لى المناقشان أنهما راضيان عن الرسالة وسوف يكتبان للجامعة أننى أستحق درجة الدكتورية. وحين فرغت نزلت إلى المشرف فى مكتبه حيث قدم لى عصير برتقال ابتهاجا بنجاحى وشرب هو كأسا من الخمر (الكونياك) فيما أظن. ثم شكرته وانصرفت لأقابل د. العشيرى، وعدنا آخر اليوم إلى لندن.
ولم يكن يخطر ببالى أن د. العشيرى يكتب القصة أو يفكر فى كتابتها، بل إننى إلى أن أتتنى هذه المجموعة منه بصيغة بى دى إف لأقرأها وأكتب كلمة عنها لم يدر فى بالى قط أنه قصاص، وقصاص مُجِيد بل متفوق على كثيرين ممن يكتبونها مثلما هو متفوق فى الأحاديث اللغوية الجميلة التى يلقيها فى قناته على اليوتيوب بلكنته البيبيسيهيّة التى اكتسبها من عمله فى إذاعة لندن العربية إذ اشتغل بها فترة مثلما اشتغل فى بعض الجامعات البريطانية حسبما أعرف. ورغم أننا افترقنا منذ أربعة عقود فإنى حين سمعت صوته فى أحاديثه تلك ورأيت صورته شعرت كأنى لم أتركه وأترك لندن إلا أمس القريب.
ولقد قرأت مجموعته القصصية الحالية فاستمتعت بأسلوبها القوى القادر على سرد كل شىء فيها ووصفه وتأدية الحوار بين شخصياتها والتدسس إلى الخواطر التى تدور فى أعماقهم قدرة تلفت النظر بسلاستها ومرونتها وما تشعه من إيحاءات غنية كثيفة. وقد أرتنى هذه المجموعة من شخصية الزميل العزيز ما لم أكن أعرفه منها، وذلك من خلال وصفه لشخصياته ونقله حواراتهم وتصويره مشاعرهم ومخاوفهم وهواجسهم وتبلبل خواطرهم. وهنا لا بد أن أقول إننى فوجئت بحضور الصلاة فى أكثر من قصة له، وزاد انتباهى لذلك وتقديرى له فنيا ومضمونيا معا أنّ ذكر الصلاة أتى عفويا تلقائيا مثلما يتنفس الإنسان منا، وهو ما لا يوجد عادة فى القصص العربى منذ وقت غير بعيد.
والواقع أن هذا الأمر رغم تفرد د. العشيرى به تقريبا بين القصاصين العرب الحاليين هو الأمر الطبيعى، فنحن مسلمون، وشخصيات قصصنا فى الغالب ناس مسلمون، ومعظم المسلمين يصلون حتى لو كانت صلاتهم شيئا اعتياديا غير نابع من أعماق القلب. فسكوت قصاصينا عن ذكر الصلاة فى أعمالهم أمر غاية فى الغرابة. من هنا تروننى أحتفى بتلك الظاهرة فى قصص الأستاذ الدكتور لا لشىء سوى أن هذا هو الواقع الذى يفقأ العين، ورغم ذلك نرى قصاصينا يتجاهلونه كأنهم يتعاملون فى قصصهم مع شخصيات وافدة من مجرة أخرى غير مجرتنا.
والقصص فى مجموعة د. العشيرى متنوعة: فقصة تتناول موت الأب يحكيها أب مات أبوه فى طفولته لابنه، وهى قصة مؤلمة وأثارت عند العبد لله آلاما قوية جاشت لها نفسى وعينى وكادت الدموع تغلبنى لولا بقية من تماسك رغم موت أبى منذ ستة وستين عاما وموت أمى قبله بثلاث سنوات أو أربع. وقصة تتحدث عن العثور على محفظة منتفخة بالأوراق وتصور الأفكار والأمانى والمخاوف ومشاعر القلق التى تفرى الأعصاب والتى دارت فى نفس العاثر عليها وتكشفت عن خازوق كبير، إذ اتضح فى النهاية أنها تخلو من أى مال، بل كل ما فيها فواتير، وأنها فوق ذلك لزوجته هو.
وقصة عن سلفة اقترضها من موظف معه فى الشغل سببت له خجلا عنيفا ودفعته إلى ألوان من السلوك عجيبة مما يصدر عن المَدِينين الذين لا يستطيعون سداد ديونهم، ومنها اختطاف بطلها فلوس محصل الأوتوبيس كلها على داير المليم (أيام كانت هناك ملاليم قبل أن نصل إلى الوضع الحالى الذى صار الجنيه لا يشترى ما كان المليم آنذاك يشتريه، والمليم كما نعرف هو واحد على الألف من الجنيه) وقَفْزه من الحافلة والبابُ فى سبيله إلى أن يغلق قرب نهاية الخط وكاد أن يطبق على عنقه.
وقصة عن أرملة وابنتها تعيشان فى غرفة واحدة شديدة الضيق والكآبة تنذرهما الحكومة بأنها سوف تهدم البيت الذى تعيشان فيه لأنه مخالف لقوانين البناء رغم أنه مبنى منذ زمن طويل ولا تضع فى الاعتبار ظروفهما القاسية بعد موت عائلهما بالسرطان وضآلة المعاش الذى تركه لهما حتى إن الأم فى ذلك اليوم لم تجد شيئا تطبخه لنفسها ولابنتها سوى أرجل الدجاج التى اقترح بعض الإعلاميين المنحطين على الفقراء أكلها ما دامت أسعار اللحوم والفراخ أكبر من طاقتهم، وتنتهى حياة الأم برصاص جنود الأمن الذين يحاصرون المنطقة بعرباتهم السوداء الكئيبة ويمنعون التجوال بعد الغروب منعا للإرهابيين، كما تقول الحكومة، من التسلل إليها لأن المرأة الفقيرة أرادت مقابلة أحد الضباط لتسليمه ورقة ترجو المسؤولين فيها مراعاة ظروفها هى وابنتها… إلى آخر القصص. وإنى أمام هذه البراعة القصصية أستغرب صدور كل تلك القصص عنه وأقول فى نفسى دون أن يسمعنى: أكل هذا يصدر منك يا دكتور عشيرى، وأنا الذى كنت أظنك طوال هاتيك العقود مجرد لغوىٍّ نصف كُمٍّ مثلما أنا مجرد محاضر فى الجامعة بلا أكمام على الإطلاق؟
والدكتور العشيرى ماهر فى وصف الخواطر والأحاسيس المتداخلة والغامضة والناصلة التى تقف على أطراف النهايات، فلا تستطيع أن تحدد بالضبط: “أوتوبيس رقم كم ذاهبٌ إلى أين؟” كما نقول فى العامية تمثيلا للكلام الذى لا تقبض منه على شىء مفهوم أو محدد. وعلى نفس المنوال تتداخل الأزمنة فى بعض القصص عنده تداخلا عجيبا.
بارع كذلك فى إبكائك وإضحاكك: فقصةٌ تضحكك من غرابة أحوال الحياة وعبثيتها. وقد ضحكت مع هذا اللون من القصص كثيرا أكثر من أى قارئ آخر لأنى دائما ما أتخيل د. العشيرى “مكلضما” لا يضحك بل لا يبتسم، ولا تسألنى لماذا ولا كيف، فأنا نفسى لا أعرف، ولو كنت أعرف ما انتظرتك أن تسألنى. فكأن ضحكى الكثير تعويض عن عدم ضحكى معه من قبل. وهنا أستطرد كعادتى الرديئة فأذكر أن البطل فى قصة من مجموعتنا هذه كان يسكن فى شارع بركة الفيل بالسيدة زينب، الذى كنت أسكنه بجوار عمارة شهرزاد المطربة المشهورة عقب تخرجى من الجامعة عام 1970م. وهذا أيضا مما جعلنى أضحك أكثر، إذ ذكّرنى بفيلم “العربة الطائشة”، الذى كانت تعرضه فى ذلك الوقت سينما الهلال على مبعدة أمتار من مسكنى ودخلته مع رفيقى فى السكن وظللنا نضحك من أول الفيلم إلى آخره.
وقصة تبكيك كقصة موت والد بطله التى سبقت الإشارة إليها. ومن قوة فن د. العشيرى أننى كنت أقرأ هذه القصة على أنه هو الأب الذى يقص على ابنه الصغير موت والده هو فى طفولته.
والغريب أنه فى إحدى قصصه يتحدث عن بيئة الموظفين الإداريين والكتبة. وسر عجبى من هذا معرفتى أن د. العشيرى قد عين معيدا عقب تخرجه من الجامعة مباشرة فلم يشتغل موظفا من هذا النوع حتى نقول إنه كتب تلك القصة وأجاد فيها لأنه يصف ما خبره فى تلك البيئة طبقا لما يقوله منظرو الفن القصصى ونقاده من أن القصاص لا يبرع إلا داخل المدى الذى يتحرك فيه وخبر أسراره وخالط أبطاله. وهذه الإجادة ترجع إلى قوة الخيال لديه مع الاستعاضة بالأذن والحكايات التى سمعها وبالأخبار والقصص التى طالعها هنا وهناك. وهناك قصة رمزية اسمها “الزيارة” يحكيها بطلها، وهو رجل كبير فى السن اسمه “آدم” قَرَّ فى وهمه أن هناك شخصا هاما جدا سيزوره ذلك اليوم، فارتدى ملابسه منذ الصباح استعدادا لاستقباله حين يأتى، لكنه لم يأت قط رغم رنين جرس الباب والهاتف المتكرر الذى يتضح فى كل مرة أنه ليس رنين الزائر بل أشخاص آخرين.
ومما له مغزاه أن البطل الراوى سمع، وهو يخرج من الصوان ملابسه الأنيقة التى سوف يرتديها فى استقبال الزائر الغامض، صوت زوجته يستغرب منه إخراج ملابسه ويطلب منه أن يعيدها إلى موضعها من الصوان، فأراد أن يشرح لها الأمر وتأتأ ببعض الكلمات، لكنه تنبه إلى أنها قد ماتت. ويلفت الانتباه أيضا حديثه عن ولد له وحيد اسمه “أمل” تركه وسافر إلى أستراليا. أى أن وحدته وعزلته كاملتان، وحياته فارغة من المعنى والأمل ولا شىء فيها يبعث فيها بعض النداوة. فهذه إذن تسمية رمزية رغم أن كلامه عن ابنه الهاجر المهاجر قد جاء عرضا فى كلمتين اثنتين وكأنه غير مقصود. وتنتهى القصة بأن يقفز “آدم” عند الفجر من النافذة ليسقط فى الشارع ويموت بعدما ظل ينتظر زائره الهام طوال كل ذلك الوقت دون أن يأتى، ولكن بعض من التفوا حوله سمعوه وهو يتمتم قبل أن تفيض روحه: “كنت ساذجا. لقد جاء الزائر، لكنه لم يطرق الباب وانتظر فى الخارج”. والزائر الهام الغامض هو الموت، ومعنى انتظاره له بالخارج إشارة إلى انتحاره وموته على أرض الشارع وليس بالداخل. واسم “آدم” رمز على الإنسان. فالبطل فى القصة ليس شخصا معينا بل هو الإنسان الجنس، ومعاناته معاناة وجودية. لقد أرادت القصة أن تقول: وماذا تجدى الحياة وقد خلت من المعنى بموت الزوجة ومهاجرة الابن إلى أقصى العالم؟
وهنا نقطة فنية لا أحب أن تفوتنى الإشارة إليها، وهى انتقال سرد الأحداث فى آخر القصة من البطل إلى “بعض من التفوا حوله بعد سقوطه” إذ الميت لا يتكلم إلينا ولا يحكى لنا شيئا مما وقع له فى الدنيا. وهذا الانتقال السردى حيلة فنية بارعة من الكاتب.
ولكنه للأسف قد فاته اللجوء إلى تلك الحيلة فى قصة “السجين”، وهى القصة التى نتش بطلها فلوس محصِّل الحافلة وقفز من الباب قبل أن يطبق مصراعاه على زمارة رقبته ناجيا فى اللحظة الأخيرة بمعجزة، إذ تنتهى تلك القصة بهذه الفقرة: في المساء وقبل أن يطلع النهار الذي سأعود فيه إلى عملي مرة أخرى كان موعد الدواء. ليس بالعلبة سوى شريط واحد به عشر حبات. وقبل أن أنام كان الشريط على الأرض فارغا تماما”. والذى فهمته أنه قد مات منتحرا. فمن حكى لنا القصة إذن؟ والعجيب أن القصة رغم هذا قصة “رائعة بارعة” على طريقة طه حسين فى تجنيساته الجميلة المعروفة عنه، ففيها كل عناصر القصة المتميزة ما عدا هذه الملاحظة التى لم تفسد علىَّ رغم ذلك متعة القراءة. وأود الآن أن أقف أمام إحدى قصص المجموعة لأطبق عليها طريقتى فى التناول النقدى، ولسوف تكون هذه القصة هى القصة الأولى لأنها أعجبتنى إعجابا خاصا، ولأن قصاصنا قد أطلق اسمها على المجموعة كلها مما يعنى أنه معتز بها. وهى قصة متميزة بلا ريب، إذ تخلو من السرد والوصف والحوار، اللهم إلا ما يعتمل فى نفوس شخصياتها جميعا من خواطر: فالأب قد مات، والأم فى لحظاتها الأخيرة تتذكره وقد تناهى إلى سمعها وهى فى غرفتها لغط أصوات أبنائها وهم يختلفون ذاكرةً كلا منهم بصفاته وملامحه المميزة له عن سائر الأبناء: فصفية لم تتعلم بل بقيت فى البيت تساعد أمها فى أشغاله وتخدم إخوتها وتشعر بالفارق العقلى بينها وبينهم، وبخاصة حين تسمعهم يتناقشون فى بعض أحوالهم مما لا تستطيع مجاراتهم فيه بما يحويه من مفاهيم ومصطلحات لا يستوعبها عقلها. وشوكت خريج الأزهر ومتمسك بالنصوص الدينية يفهمها بطريقته ويرى أنه هو الفهم الوحيد السليم. وعائشة أختهم متعلمة، وكانت تشكل هى وصفية فى صغرهما قبل أن يمايز التعليم بينهما كيانا واحدا. وطاهر حاصل على الدكتورية من فرنسا، وصارت رؤيته للقضايا والمشاكل متأثرة بالغرب أو هكذا يراه شوكت الأزهرى. وقد تمثل هذا كله فى كيفية التعامل مع وفاة الوالدة: فهل يا ترى يكتبون لها نعيا فى الصحف؟ وإذا فعلوا فهل يذكرون اسمها أم يقال: حرم المرحوم فلان، وأم علان وترتان دون التصريح به؟ الأزهرى يرى أن النعى والمَعْزَى لا معنى لهما فى الدين، فهو إنفاق للمال فى غير موضعه، كما أنه تفاخر بالأنساب، والله ورسوله لا يرضيان ذلك. وإذا كان لا بد فليقولوا فى النعى: “حرم المرحوم فلان الفلانى” حفاظا على سمعة الأسرة. وقد انتصر الرأى الذى أبداه الأخ الأزهرى فلم يكتب نعى فى الصحف بل فى أوراق قليلة طبعت فى مطبعة شعبية لم يذكر فيها اسم الأم بل نسبت إلى زوجها.
والقصة تعكس وجهات النظر المختلفة تبعا للمستوى التعليمى الذى ناله كل من الأبناء ونوعية التعليم. وقد وفقت القصة فى تصوير هذا الاختلاف، وإن كان يتعلق بقضية ليست ذات شأن اجتماعى أو دينى كبير، لكنه اختلاف على كل حال. وهناك خلو القصة، مثلما وضحت آنفا، من السرد والحوار والوصف، إذ ليس أمامنا إلا الخواطر الصامتة التى تدور فى رأس كل من أفراد الأسرة والتى نفهم منها كل شىء. وهى بذلك أقرب إلى المسرحية منها إلى القصة، لكنها مسرحية صامتة لولا عرض الكاتب لما دار فى الأذهان.
وأنا أستطيع أن أتفهم رأى كل منهم، لكن لا بد أن يكون لى موقف. ولست أرى فى النعى، وباسم الأمر الحقيقى، ما يمكن أن يسىء إلى الأم أو الأسرة، فليس فى القرآن ولا فى الحديث ما يمنع هذا. وقد كان الرسول يعاتب أصحابه إذا لم يؤاذنوه بمن مات حتى لو كانت امرأة مسكينة ليست بذات أهمية اجتماعية. وتذكر الأحاديث والسيرة والتاريخ أسماء نساء النبى مجردة، فيقال: خديجة وعائشة وحفصة وصفية وزينب ومارية القبطية… دون أى حرج. ومن تكريم الإسلام للمرأة أنه ينسبها لأهلها لا لأهل الزوج فيقال مثلا: جيهان صفوت رءوف لا جيهان السادات كما يفعل رؤساؤنا وزوجاتهم نزولا على شعورهم بالنقص وتصورهم أنهم إن فعلوا ذلك صاروا متحضرين كالغربيين، وهيهات! وحين تموت أية واحدة منهن كانوا يذكرون اسمها صريحا دون جمجمة. والتقاليد لا الدين هى التى ترى كتمان أسماء النساء لَدُنِ الموت ولَدُنْ غير الموت. فكيف بعد هذا كله نتصور أن من العار تصريح الزوج باسم زوجته؟
والحضارة الغربية ليست كلها معيبة كما يظن الأخ الأزهرى بل فيها جوانب عبقرية كالتفانى بوجه عام فى طلب العلم والحرص الشديد على النظام والنظافة والتمسك التام بالتخطيط للمستقبل البعيد والتبتل المرهق فى العمل وإتقانه والسعى الحثيث على المعاش والطموح إلى المعالى والتوثب الفكرى والاكتشافات العلمية المذهلة والشورى والتقدم الصناعى… وثمار تلك الحضارة غنية عن الذكر، فالعالم كله يراها متألقة ساطعة. ولست فى حاجة بعد هذا إلى تسطير قائمة بعيوب تلك الحضارة لكن محاسنها العظيمة تغشيها فلا تؤتى عملها المتوقع الآن بل تأخذ وقتا. والعجيب أن هذه القيم الغربية الطيبة هى كلها قيم إسلامية حض عليها القرآن والرسول، ومع هذا لا يهتم المسلمون الحاليون باتباعها بل لا يريدونها أصلا فى الوقت الذى يمجدها الغربيون دون أن يؤمنوا لا بالإسلام ولا بغيره بل بعقولهم فقط. أى أننا رغم حظوتنا بدافعين للتقدم والتحضر، وهما القيم الدينية من ناحية والعقل البشرى والرغبة الفطرية فى التقدم والترقى والعيش الكريم من الناحية الأخرى، قد استسلمنا بل لذنا بالتبلد الحضارى بينما هم تقدموا وتحضروا وقَوُوا وسادوا واحتلوا بلادنا وأذلونا بعقولهم فقط، أى بدافع واحد لا بدافعين مثلنا.
وإذا سألنى القارئ: “إلى من تنحاز من بين أولئك الإخوة؟” أجبت فى التو ودون تفكير: إلى صفية، التى لم تنل من التعليم ما ناله إخوتها، وكانت تخدمهم طوال العمر، وتشعر بالنقص تجاههم وتجاه تعليمهم، وفاتها قطار الزواج وكتم الحزن والرثاء الذاتى أنفاسها، فوضعت همها فى الأكل حتى سمنت. والله إنى لمتألم لها كأنها ابنتى. يا للحياة وتعقيداتها وما فيها من صعوبات وأوجاع وبلايا حارت البرية إزاءها ولم يستطع أحد، لا فيلسوف أو حكيم ولا غير فيلسوف وحكيم، حلها إلا بمحاولة التخفيف من عقابيلها المزعجة والمؤلمة والنصح بالصبر والتحمل والتجمل!
الدكتور إبراهيم عوضأستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس ( من صفحة الدكتور العشيري)