قراءة في قصة الشيخ بكاي القصيرة جدا “مدْفَن” / النجاح بنت محمذ فال
-“سأدفنكِ وأستريح”، قال في إحدى نوبات الوعي التي تنتابه أحيانا، موجها الكلام إلى الجثة المتحللة التي تقبع داخل قلبه..
غرز الميتُ -كعادته منذ مات – مخلبا حادا في جدار الوجع .. حركه إلى أعلى وأسفل .. وصاح بأعلى أصوات الميتين:
-” لن تستطيع…”.
طغى “الدم” موجا أغرق “المدفن”، وامتزجت رائحة الدم بالحَنوط..
قال مدفن: ” أمن العدل أن يعذب القبر بدلا من الميت ؟”
سمع صوت نفخة..
رأى النفخة تدور حول كفن أبيض صقيل تدحرجه…
امتلأ أنفه برائحة “الحَنوط”، وشعر بضيق قاتل وأنفه يشرب الكافور والعنبر من القطن المتطاير حوله..
من بين صرير الريح و روائح الموت هفَّتْ نسمة تحمل نفحة عطر يعرفه تمام المعرفة..
انتفضت عظام الميت.. كُسيتْ وردا، وسافرت في الماضي…
عاد إلى الغياب في صحراء القلق أنينا على شفة نايٍ حزين..”
القراءة:
ندفن الكنوز الثمينة فى الأرض كما ندفن انفسنا واحيانا ندفن الذكريات الجميلة فى مخابئ الشعور ، لكن ضيفة المدفن هنا انثى استقرت في القلب في استمرار لسكون تم التعبير عنه بالجثة لأنها ماتت فيه أصلا مما جعل القلب مدفنا “قال في إحدى نوبات الوعي التي تنتابه أحيانا،موجها الكلام إلى الجثة المتحللة التي تقبع داخل قلبه”..
ياتى الفعل قال ليحيل إلى البطل الذي يعاني احتلال سكن قلبه في ياس من القدرة على طرده لأنه مات ! ولا سبيل لطرد الموتى.
لكن النكاية بهذه الحبيبة ذات العواطف المتجمدة الى درجة الموت تجعل دفنها راحة !
وهو نمط من الغزل العذري دأب عليه الاقدمون مثل عمر بن ابي ربيعة في قوله :
إِن لَم يَكُن لَكِ رَحمَةٌ وَتَعَطُّفٌ
فَتَحَرَّجي مِن قَتلِنا أَن تَأثَمي
لَم يُخطِ سَهمُكِ إِذ رَميتِ مَقاتِلي
وَتَطيشُ عَنكِ إِذا رَمَيتُكِ أَسهُمي
لكن في القلبه الذي استحال مدفنا يعج بسمات الميتين خاصة أنه من خلال العلاقة الإسنادية مدفن يحوى من له موت متعدد : موت تلقائي : ( كعادته منذ مات )
وموت إرادي :
(غرز الميتُ -كعادته منذ مات – مخلبا حادا في جدار الوجع .. حركه إلى أعلى وأسفل .. وصاح بأعلى أصوات الميتين:
-” لن تستطيع…”. )
إنه القتل بمخالب الحب المستمدة من مخزون الذاكرة من خلال تعدد العلاقة الإسنادية الدالة على الماضي (قال ، غرز ، صاح ، مات….)
وهو في مخيال الأديب العربي القديم مستمد من غليان العواطف والشوق بالحبيبة كماهو عند عمر بن أبي ربيعة، لكنه في مخيال الأدباء المحدثين نقمة من الحبيبة التي احتلت قلب المحب دونما تشاور ! والحال ان الحب عند بعضهم متبادل او لا يكون !
وهي مسحة ربما تنسجم مع مستوى التخييل في رواية موسم الهجرة إلى الشمال فى رؤية كاتبها الطيب صالح من خلال ممارسات بطل الرواية مصطفى سعيد اتجاه حبيبته:
(كل شيء حدث قبل لقائي إياها كان إرهاصا وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذارا لا لقتلها بل لاكذوبة حياتي)
فهل القتل في موسم الهجرة إلى الشمال هو الدفن في القصة القصيرة جدا “مدفن”؟
وتأتي هنا قدرة القصة القصيرة جدا على الإمتاع بما تحمله من تفوق مرده إلى الإيحاء والتخيل بحيث يغدو مدفنُُ ساحة صراع ولقاء محبين ..
مسرح انتقام تتعالى فيه أصوات القتلة في زمن اللاوعي ، حين تغدو نوبات الوعي غيابا والموت نشورا
قال في إحدى نوبات الوعي التي تنتابه أحيانا،
وحين تكون المشاعر عصية على الموت مع انها ماتت منذ بدأت (غرز الميتُ -كعادته منذ مات – مخلبا حادا) لكن الموت لم يغيب القدرة على الاستمرار؛ كنوع من الخلود ..
أمام سطوة الزمن ذات التجليات المختلفة ..حيث أنه من سمات القصة القصيرة جدا التناقض والتضاد ..
جاءت النفخة التي سمع صوتها قبل ان يراها وذلك نظرا لقوة تأثير صوت الحبيبة- الموت ؛
والنفخة ريح مشحونة بالمداليل الاسطورية بواسطتها استعاد الوعي من غفلة الزمن ، منتقلا من حالة( نوبات الوعي ) إلى رحلة النشور بفعل الزوبعة ذات المناحي الاسطورية الموريتانية بحملها مواكب جنية استمد منها قوة خارقة جعلت الكفن الأبيض الصقيل وكل أدوات الموت تتطاير من حول الميت المستقر في القلب ليستعيد من جديد حياته خارج زمان الوعي :
( بين صرير الريح و روائح الموت هفَّتْ نسمة تحمل نفحة عطر يعرفه تمام المعرفة..
انتفضت عظام الميت.. كُسيتْ وردا، وسافرت في الماضي…)
لتبدا رحلة البعث داخل المدفن وتكسي العظام وردا فتحل حياة جديدة بفعل تلك الزوبعة-النفخة الاسطورية!
لكن طبيعة القصة القصيرة تبقى متازمة ذات ملامح كئيبة مهزوزة ولذلك عاد البطل إلى زمن الغياب والشوق الحزين كمظهر للماساة الوجودية للفرد التي تجعل مصيره ناء عن إرادته :
(عاد إلى الغياب في صحراء القلق أنينا على شفة نايٍ حزين..)