ثقافة وفنموضوعات رئيسية
عزيز باكوش: ساراتو “المرأة البامبارية” نحت مهيب في ذاكرة الهجرة والصحراء/ عزيز باكوش
لا يتجسد الانتصار الحقيقي للقضايا الوطنية الكبرى، أثناء المعالجة الدرامية والاشتغال التيماتي على الوقائع والأحداث التاريخية من منظور أدبي إلا نادرا. وعندما يحدث ذلك صدفة، يأتي على شكل ممتع وبديع، وبشكل استلهامي عميق ومبتكر مثلما حدث مع رواية ” المرأة البامبارية” للأستاذ الأديب محمود آيت الحاج في باكورة أعماله الأدبية الصادرة عن منشورات غاليري الأدب في 100 في طبعتها الأولى 2024.
يتعلق الأمر بعمل روائي ذي طبيعة اركيولوجية إذا صح التعبير. فهذه التجربة رغم حداثها في السرد تنحت عميقا في طبقات العرق والجنس البشري لتشكل منه سندا إثنيا للتأصيل الاجتماعي واستجلاء الحقيقة التاريخية. إنه الاستبئار الإثني حين يتسلل إلى المعيش على جناح الخيال، متدثرا بالسياسة معطفا براغماتيا. ليمنح للهوية جواز الجرأة والموضوعية. وبالتالي، الكشف عن تفاصيل مريبة مترسبة، وتعرية جذورها من الأعماق. وقد تخصبت في تربة موبوءة ومناخ حار يمنع تدفق الحياة . عالم يتشكل أساسا من حزمة أحقاد وضغائن عسيرة العضم. تكرس نفسها بديلا لكن سرعان ما تصاب بفشل ذريع فتتهاوى مثل فقاعة، وتتفرقع مثل بالونة في الهواء.
لكن قبل ذلك، دعونا نفكك بنية العنوان في رواية المرأة البامبارية. إذا فهمنا ” ساراتو” كامرأة وكيان وجودي عاقل بمشاعر وأحاسيس ومنذور من أجل البقاء، فما علاقتها بالبامبارية؟ هنا تحديدا لابد من الإشارة بأن ” البامبارية هي لغة حوار وتواصل بمنطقة الساحل وسط دولة مالي. أما لماذا ارتبطت عضويا ومجازيا بالمرأة في منجز الأستاذ محمود آيت الحاج، بعد أن اختارها عنوانا لمنجزه الأدبي الثري، فتلك حكاية أخرى نستأنس تفاصيلها الآن.
تسرد الرواية تفاصيل حياة «ساراتو” امرأة إفريقية من دولة مالي، لأسباب سياسية وأيديولوجية ذات صلة بنزاع إقليمي مفتعل يتم تجريدها من هويتها البامبارية المالية، وتنسب لها هوية “الصحراويين” لتصبح من سكان جحيم مخيمات تندوف بالجزائر. وذلك في سياق البحث عن شرعية مزيفة لتحقيق أطماع توسعية من صميم أيديولوجيات الماضي البائد. وهي سفالة سياسية يسهر الجار الشرقي للمملكة على تنفيذها ضدا على القيم والمبادئ وحسن الجوار. عن أهمية هذا العمل وتيمة اشتغاله، وسمو الأفق الذي يرنو لمعانقته، نقرأ في التقديم الذي خصه به الأديب مصطفى لغثيري ” لا يكتفي الكاتب محمود آيت الحاج وهو يلمس في العمق هموم الإنسان وأحلامه المشروعة من أجل اجتراح أفق أرحب، يتيح له ظروف العيش ضمن حياة أفضل، بل يلمس كذلك جرحا غائرا في ذاكرة المغاربة والمغرب العربي عموما، جرح يأبى أن يندمل بفعل الأحقاد المتوارثة، التي حاولت أن تفتت وطنا وتلقي بجزء من مواطنيه في جحيم المخيمات في تندوف، حيث البؤس والأفق الحياتي المفقود.”
من هنا أهمية الموضوع واستلهام تيمته في إطار ما يمكن الاستئناس به في عالم الديبلوماسية الثقافية التي تسند الوطنية والهوية كمبدأ. فبدون عناء سيكتشف القارئ الإفريقي أنه” كان “ولا يزال” يحيا في قارة جريحة، لا سيما منطقة الساحل والصحراء بإكراهاتها الطبيعية وقساوة العيش، فضلا عن لا شعبية اختياراتها في البناء الديمقراطي فأضحت “أيقونة عالمية للهجرة والمعاناة والاستغلال المزدوج، المرتكب حينا من أبناء جلدتها، وحينا آخر من القوى العالمية. إنها إفريقيا الحزن والألم والحلم المشرع على كل الاحتمالات الممكنة.”
وبرأي مصطفى لكثيري فإن رواية “المرأة البامبارية” تبرز عدة ملامح لقضايا إنسانية ورمزية، وتطرح أسئلة لها علاقة بحقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق في العيش وفي حياة كريمة، في مخيمات العار بتندوف “. لقد أصبح الرأي العام الإفريقي والدولي يعي جيدا تفاصيل هذه الحبكة السياسية المخدومة لتحقيق أطماع توسعية. فبسبب الرغبة في إطلالة على المحيط الأطلسي، تجشمت الجارة الشرقية للمملكة عناء إنشاء كيان انفصالي وهمي منذ أواسط السبعينيات، ودعمته ووفرت له كل السبل من مال وسلاح وسفريات عبر طائرة رئاسية وذلك بهدف فرملة عجلة التنمية بجارها العدو الكلاسيكي. وبالتالي خلق مناخ من عدم الاستقرار بمنطقة شمال إفريقيا. ولم تدخر جهدا في هذا الاتجاه، حيث تبنت أطروحته وترافعت عنه في عدد من المحافل الدولية بغلو غير مسبوق. حتى أنها شبهت كيانا إرهابيا انفصاليا بالقضية الفلسطينية. كل ذلك من غاز الجزائر ونفطها، وعلى حساب قوت الشعب الجزائري الشقيق. لكن بفضل حنكة المغرب وذكاء دبلوماسيته بالذخيرة الحية والصامتة، أفشل كل مخططات خصوم وحدته الترابية وأذابها بنجاح متصاعد.
تبرز قضية الصحراء المغربية قضية مركزية في الرواية كما هي في واقع حياة المغاربة. على أن مقاربة الكاتب الأدبية لهذا المحور لم يأت من فراغ سياسي أو معرفي. أو تولدت دون إسناد تاريخي بالوقائع والأحداث. بل تسلحت بما يكفي من الحجج والإسنادات التاريخية والقانونية . و تمت عبر محاور متعددة، يتقاطع فيها الاجتماعي بالتاريخي الإنساني بالوجودي والحقيقي بالوهمي. يقول المؤلف في هذا الصدد “اطلعت على الكثير من القضايا الخاصة بالصحراء المغربية وجبهة البوليزاريو الانفصالية، بحكم اشتغالي على كتابة السيناريو في المجال الصحراوي”. ويتابع مضيفا “يعني هضمت كل ما يتعلق بموضوع الصحراء ” المغربية” ورأيت كيف يمكنني أن أقدم هذا العمل بطريقة واضحة وواقعية. ليتمكن عموم القراء من استيعاب مدى أهمية الأبعاد الإنسانية في مخيمات تندوف الجريحة. ليكشف أن هذا العمل الروائي كان في السابق عبارة عن سيناريو وثائقي سينمائي مشترك بيني وبين السيناريست والمخرج جلال بالوادي قبل أن أقرر تحويله إلى عمل أدبي”
وذلك من خلال ” تفاصيل حياة امرأة إفريقية من دولة مالي، تُجرد من هويتها البامبارية وتنسب لها هوية الصحراويين لتصبح من سكان جحيم مخيمات تندوف بالجزائر. فضلا عن ذلك، تميط الرواية اللثام عن واقع العبودية والقهر والحرمان الذي يعاني منه المحتجزون “الصحراويون المغاربة” منذ سنوات خلت في مخيمات تندوف التي تفتقر للحرية ولأبسط شروط العيش الكريم ” تحت سيطرة شرذمة من الإرهابيين وتوجيه وتحت مراقبة الجيش الجزائري.
- وبرأي مصطفى لغتيري “يتفاعل الكاتب في رواية “المرأة البامبارية” بين فضاءين مختلفين: فضاء الأدغال الإفريقية بدولة مالي حيث تعاني هذه المرأة” ساراتو” من الإثنية والعرقية التي ستتسبب لها في المعاناة مما يضطرها للرحيل عن قبيلتها. وفضاء مخيمات تندوف بالتراب الجزائري حيث ستجد” ساراتو” نفسها واحدة من سكان مخيمات تندوف بعد استغلالها من لدن تجار البشر ومبادلتها بالمواد الغذائية التي تتلاعب بها جبهة البوليزاريو الانفصالية. يتجلى في الرواية واقع العبودية والقهر الذي يعانيه سكان تندوف، حيث يسلط الضوء على قضايا الاتجار بالبشر وتجنيد الأطفال وترحيلهم إلى دولتي كوبا وإسبانيا، مع إماطة اللثام عن معاناة سكان المخيمات وتقديم صورة واضحة للتحديات الإنسانية الكبيرة بالمنطقة. ليخلص في نهاية المطاف الى ان ر واية” المرأة البامبارية” مختلفة في انتصارها لقضية المحتجزين الصحراويين في تندوف، وفي تعريتها لواقع الحال في هذه المخيمات، كما عرت عن واقع تجريد الأفارقة من هويتهم ونسبهم هوية الصحراويين لملء المخيمات بهم، باعتبار ذلك يشكل جانبا من الجوانب الكبرى التي تبنتها هذه الرواية، ونبهت إليها وإلى عدم إغفالها، لما لها من أهمية ومعنى، وخصوصا على مستوى إطلاع شعوب العالم على مختلف مظاهر المعاناة التي لا تزال فصولها متفاقمة وممتدة في مخيمات تندوف بالجزائر.”