ثقافة وفن
تحليل الكاتب المرتضى محمد اشفاق لاحدى قصص الكتاب “الجرح يغني” لمؤلفه الشيخ بكاي
القصة:
صوت:
-“سأسمعك صوتي…”
-” وهل للقمر صوت؟”
-“صوته ابتسام العطر يلقي به النسيم إلى الليل…”.
-“طوبى للساكنين عيون الفجر…”.
انهمر الطوفان…
طغى الموج…
تكررت كلمة صوت في القصة ثلاث مرات: -مضافة إلى ياء المتكلم(مفعول به)
– نكرة منقطعة عن الإضافة، مجردة من التعريف(مبتدأ متأخر)..
- ثم مضافة إلى ضمير الغائب(مبتدأ متقدم)…
لذلك تحددت هوية القصة:(صوت)…
بدأت القصة بحرف تنفيس دال على قرب حدوث الفعل، وجاءت الجملة الفعلية مكتملة العناصر، فعل، وفاعل مضمر، ومفعول به هو ضمير المخاطبة، وأنوثة الضمير مستوحاة من السياق…
جاء الفاعل مضمرا ربما لتأجيل خلوة مرتقبة، وطاعة لما يقتضيه حياء المرأة، والتخفي يناسب حال المحب حين يذهب للقاء الحبيب، وناب الصوت عن الذات منحا لفرصة التخيل، ورسم صورة بمعايير خيال المخاطبة…
العبارة(صوته ابتسام العطر)، صار فيها الصوت يُرَى ويُشَمُّ، وجاءت الصيغة جامعة لثلاث حواس: حاسة السمع:(صوته)، حاسة البصر:(ابتسام) وهو حالة تشاهد ولا تسمع، ثم حاسة الشم:(عطر)، وبهذا تسد كل المنافذ أمام المخاطبة حتى لا تنشغل بغيره فما في الحب شريك، لأن الحبيب يغفر كل شيء إلا أن يشرك به…
ذِكْرُ القمرِ استدعاءً لِلَّيل، لكن أليس القمر كاشفا، فاضحا لخلوات المحبين؟ استطاع القاص أن يتجنب عدوانية القمر، فحجب أنواره، ومنحه الصوت، وهو صوت خافت هادئ يتناسب مع حامله(النسيم) الذي يربت بلطف على أكتاف النائمين ليغيبوا في سبات عميق…
هو صوت مرئي، مشموم يحمله بريد الليل إلى الليل، النسيم هو صوت الهدوء، ومحرك الأشجان، وناقل همس الأطياف، والكائنات الجميلة، أما الليل فهو مستودع الأسرار، وصديق المحبين…فيه يسطر العشاق أجمل ما عاشوا، آمنين من أعين الرقباء…
ويتواصل التخفي(طوبى للساكنين عيون الفجر)، فمن دخل العين لن تراه، لأن القرب حجاب،(كأنك في جفن الردى وهو نائم)، فنحن لا ندرك الأشياء إلا بمسافة بين المشاهِد والمشاهَد، وكلما دقت المسافة انعدمت الصورة، وإذا انعدمت الصورة حل الأمان، وإذا حل الأمان استمر الوصال…
جاءت(عيون) مفعولا به لاسم الفاعل العامل عمل فعله(الساكنين) بدل الفعل مباشرة، فتناسب ضعف العامل النسبي مع ضعف المفعول به، فالعيون رقيقة شفافة لا تتحمل الفعل المباشر…
كانت المقدمات تمهيدية، اتسمت بالتسويف(السين) أولا، ثم التخفي(الضمير المستتر)، ثم الوسيط(النسيم)، وزيادة التعمية(الليل)، لكنه كان الهدوء الذي يسبق الطوفان، فاكتسح متاريس التهيب، والتردد، ووسوسة الخوف والانكشاف، ثم طغى الموج ليحول بين زمنين، ماض بأحلامه وحاضر بإنجازه، بين فصل ووصل..
يوجد الكتاب في مكتبتي “جسور عبد العزيز” و 15/21 بنواكشوط.