قراءة في قصة الشيخ بكاي القصيرة جدا “زهرة السوسن/ المرتضى محمد أشفاق
النص:
غاب في شلال الشذى المنسكب من زهرة السوسن السمراء، وعانق الزمنَ الذبيحَ في عينين سوداوين تمطران عتابا “أليما”، وتشعلان في القلب حريقا وبركان ندم..
جمع عبيرُ السوسن خيالَ نخلة راسخة الاصل شامخة الفرع، وظِلَّ مهرة أصيلة ضامر، مستقيمة القوام، حَمْحَمَتُها موسيقى الخلود.. رمى العبير بالكل إلى ذاكرة مثقلة تدحرجت هي وماتحمل في فَجٍّ لانهاية له… قال قمر يحرس كثيبا: “لقد كنت شاهدا على أجمل فصل في رواية لن أتركها تستمر مأساة”. ابتسم الصبح وغنى للحلم المستحيل ..
القراءة:
من الذي غاب؟ حدث مضى لكنه مسند لغائب، وليس مسندا لمجهول، أما الشلال المنسكب(وتفيد المطاوعة) فهو منسكب بنفسه، فاعل، مريد، وليس مسكوبا حتى لا يكون مكرها(مفعولا به) وهو دليل على أن الغائب حاضر، نعم حاضر بجسمه، مختطف بروحه وقلبه، أخذه الشذى الذي أيقظ فيه حنينا، وبعث فيه ذكريات، فيها ظلم(ذبيح) وألم(عتاب) وأمل(اشتعال).. الذبيح اسم مفعول على وزن فعيل، بدل الوزن الشائع مفعول… وفعيل أعم من مفعول، وتدل على أن الفعل وقع، بينما تدل مفعول على احتمال أن الفعل وقع أو أنه سيقع… وعانق على وزن فاعل وتدل على المشاركة (حصول الفعل من فاعلين)، فذبيح قاصِّنا لم يمت إذن، أليس الموت هو النهاية؟ أليس موتا أيضا للأمل؟ إذا مات الأمل توقفت المعاناة- وفي المعاناة لذة الانتظار- واندرست الذكرى، لتنمحي إلى الأبد.. يغلب على الفقرة الأولى لون السواد: مادي: السمراء…سوداوين… معنوي: ذبيح..ندم…عتاب..ألم… وبين ألم الذكرى، ومتعة التذكر، الاستحضار وقع تماس بين تنافر المقابلة في تمطران وتشعلان، فالمطر هو الخصب، والخضرة، وعودة الحياة، والشهود بعد الغياب، والحريق بمعناه القريب القحط، هو السواد، هو قتل الخصب، أي أنه فعل ضد المطر، لكنه بالمعنى المراد هو كالمطر لأنه بعث للحنين والذكريات من جديد، اشتعال الذكريات هو قيامها من قبر الذاكرة، من مساحة النسيان… هذه السوسنة كانت بعثا جديدا، عودة للروح، إيقاظا للذكريات والشخوص النائمة، استحضارا للغائب الذي لم يرحل: النخلة وهي رمز الأصالة(راسخة الأصل) الارتباط بالأرض، ورمز الكبرياء والشموخ(شامخة الفرع) والمهرة رمز البطولة(أصيلة،ضامر) تليدة، والضمور دليل القوة والخفة والسرعة حتى تصلح للكر والفر معا، (مستقيمة القوام)، نقية العرق لم تشبها كعاعة الأعراق… والحمحمة هي غناء الجياد، هي رضاها، صوت النصر، وصليل السيوف، وحركة الرؤوس المتدحرجة على صعيد النزال… غاب القاص في العبير، فغرق في عبق التاريخ والجغرافيا وهما في عناقهما الأبدي، الجميل المتمنع على الضعف والانحراف… القمر عدو المحبين، ومفشي أسرارهم، وكاشف خلواتهم، لذلك حتى وهو يستبدل دوره العدائي، ويخلع لامة قتال العشاق(حراسة الكثيب)، أي المراقبة المزعجة والمستمرة للربع الملتقَى، نراه يتوب، ويندم على قسوته(لقد كنت شاهدا) تعددت وسائل التوكيد: اللام، قد، والفعل الماضي، ويستقيل حتى لا يبقى سببا في استمرار المأساة..(كنت: تستدعي: ولم أعد).. لكن عدوا آخر ظهر في ثوب صديق، حاول التوبة فغنى لكن بعد الغروب، أليس الصبح هو نهاية الظلام، وموت الليل صديق المحبين، وكاتم أسرارهم، وحارسهم عن أعين الرقباء، نعم الصبح هو الغروب لأنه النهاية، ولأن الحلم مستحيل…
القصة من كتاب ” الجرح يغني ( يوجد في نواكشوط عند مكتبتي 15/21 وجسور عبد العزيز)