ثقافة وفنموضوعات رئيسية
الكلمة حين تنزل عن عرشها / كبرياء رجل

في زمنٍ ما، كانت الكلمة سيّدة.
تجلس على عرشها المذهّب في عقول النخب، ترفل في جلابيب المعنى، ترفرف بأجنحة الرمز، وتأمر القلوب فتنبض، وتأذن للعقول فتشتعل.
لم تكن تُشترى ولا تُباع، بل تُكتسب كالنار المقدسة، وتُصاغ كالذهب من ركام التجربة، وتُلقى في وجوه الجهل كالصواعق.
لكن العروش لا تدوم، وإن كان العرش من حبر.
لقد حذّر ابن خلدون، وهو ينصت لصوت الحضارات في لحظة انطفائها، من اللحظة التي تتخلى فيها الكلمة عن مهابتها، وتُجبر على النزول من عرشها لتقف عارية على ناصية السوق، تساوم على معناها، وتتحوّل من نبوءة إلى “محتوى”، من رؤيا إلى ترفيه، من شعلة إلى شاشة.
أيها الأدباء، يا من تحملون الكلمة كما تُحمل الشعائر:
أترون كيف صار الشعر يُقاس بعدد “الإعجابات”؟
وكيف غدت الرواية مهرجانًا للغلاف والتوقيع، لا للمعنى والجرح؟
وكيف أصبح الخيال مشدودًا كدُمية خيطية إلى يد المتلقي الكسول؟
إننا نعيش عصر “نهاية الكاتب” لا بمعناه النيوليبرالي، بل بمعناه القيمي: لقد انكسر السُند، وضاع الورَثة.
الكاتب اليوم يُطلَب منه أن يكون خفيفًا كالدخان، لامعًا كواجهة متجر، سهل الهضم كالإعلانات، سريع النسيان كالأخبار العاجلة.
تُغتال الجملة إذا أبطأت، ويُقصى العمق لأنه لا يُساير المزاج، ويُكفَّر التجريب لأنه لا يُطرب الذوق المستقر.
ابن خلدون لم يكن يتحدث عن السياسة فقط حين قال إن الدول تمرض حين تسمن وتضعف حين تتزين، بل كان يشير، في عمق رؤيته، إلى أن البلاغة تموت حين تغدو للعرض لا للمعركة، وللصدى لا للصوت، وللصورة لا للفكرة.
هل بقي لنا – نحن، كتبة الأطياف وظلال الحروف – أن ننسحب بصمت؟
أن نُسلِّم الكلمة لمن لا يعرف وزنها، ولا يفرق بين استعارة مجنّحة و”فلتر” رقمي؟
أم أن نعيدها إلى عرشها، لا بالقوة، بل بالكتابة، لا بالصوت، بل بالصدى الذي لا يخبو؟
لنقاوم، إذًا، لا بالسيف، بل بالقلم الذي لم يتخلّ عن هيبته.
لنقاوم بالحبر الذي لا يزال يعرف كيف ينزف، لا ليُلوِّن، بل ليكتب تاريخًا آخر في هوامش هذا الزمن الضائع.
المصدر: الفيسبوك صفحة كبرياء رجل
تجلس على عرشها المذهّب في عقول النخب، ترفل في جلابيب المعنى، ترفرف بأجنحة الرمز، وتأمر القلوب فتنبض، وتأذن للعقول فتشتعل.
لم تكن تُشترى ولا تُباع، بل تُكتسب كالنار المقدسة، وتُصاغ كالذهب من ركام التجربة، وتُلقى في وجوه الجهل كالصواعق.
لكن العروش لا تدوم، وإن كان العرش من حبر.
لقد حذّر ابن خلدون، وهو ينصت لصوت الحضارات في لحظة انطفائها، من اللحظة التي تتخلى فيها الكلمة عن مهابتها، وتُجبر على النزول من عرشها لتقف عارية على ناصية السوق، تساوم على معناها، وتتحوّل من نبوءة إلى “محتوى”، من رؤيا إلى ترفيه، من شعلة إلى شاشة.
أيها الأدباء، يا من تحملون الكلمة كما تُحمل الشعائر:
أترون كيف صار الشعر يُقاس بعدد “الإعجابات”؟
وكيف غدت الرواية مهرجانًا للغلاف والتوقيع، لا للمعنى والجرح؟
وكيف أصبح الخيال مشدودًا كدُمية خيطية إلى يد المتلقي الكسول؟
إننا نعيش عصر “نهاية الكاتب” لا بمعناه النيوليبرالي، بل بمعناه القيمي: لقد انكسر السُند، وضاع الورَثة.
الكاتب اليوم يُطلَب منه أن يكون خفيفًا كالدخان، لامعًا كواجهة متجر، سهل الهضم كالإعلانات، سريع النسيان كالأخبار العاجلة.
تُغتال الجملة إذا أبطأت، ويُقصى العمق لأنه لا يُساير المزاج، ويُكفَّر التجريب لأنه لا يُطرب الذوق المستقر.
ابن خلدون لم يكن يتحدث عن السياسة فقط حين قال إن الدول تمرض حين تسمن وتضعف حين تتزين، بل كان يشير، في عمق رؤيته، إلى أن البلاغة تموت حين تغدو للعرض لا للمعركة، وللصدى لا للصوت، وللصورة لا للفكرة.
هل بقي لنا – نحن، كتبة الأطياف وظلال الحروف – أن ننسحب بصمت؟
أن نُسلِّم الكلمة لمن لا يعرف وزنها، ولا يفرق بين استعارة مجنّحة و”فلتر” رقمي؟
أم أن نعيدها إلى عرشها، لا بالقوة، بل بالكتابة، لا بالصوت، بل بالصدى الذي لا يخبو؟
لنقاوم، إذًا، لا بالسيف، بل بالقلم الذي لم يتخلّ عن هيبته.
لنقاوم بالحبر الذي لا يزال يعرف كيف ينزف، لا ليُلوِّن، بل ليكتب تاريخًا آخر في هوامش هذا الزمن الضائع.
المصدر: الفيسبوك صفحة كبرياء رجل