في يوم الأب… / كبرياء رجل

ينسلّ الضوء من بين أصابعي،
كأنّ الفجر قرأ حزني، فتثاءب على مهلٍ، خجِلًا من أن يوقظني على غيابك.

أبي…
يا أول الجهات،
وآخر الحصون،
ويا المدى الذي لا تُدركه الخُطى وإن تقادمت السنين…

لم تكن مجرّد أب…
كنت جدارًا من دفء،
ونخلةً في صحراء عمري،
كنت ماءً في السراب، وسماءً لا تُغادرني حتى حين أمشي منكس الرأس.

غيابك لم يكن غيابًا…
بل انقلاب الفصول في داخلي،
صيفٌ لا شمس فيه، وشتاءٌ لا مطر،
وعمرٌ يتكئ على الفراغ كأنّه اكتمل،
لكنّه مكسور من حيث لا يُرى.

ما زلتُ أراك،
في ارتباك يدي حين أكتب،
في ارتعاشة صوتي حين أقول “كان أبي”،
في محاولتي الفاشلة أن أبدو قويًّا بينما تنهار داخلي قوافل من حنين.

يا من كنتَ إذا دخلتَ الغرفة، سكت العالم،
وإذا نظرتَ إليّ، ارتفعت روحي عن الأرض قليلًا،
وإذا ابتسمتَ، أشرقت الدنيا كأنها بُعثت من جديد.

أُحدّثك الآن، بعد خمس سنين من الغياب،
ولا أدري في أي أرضٍ تنام،
لكنني أعرف أن السماء التي فوقي هي سقفك أيضًا،
وأني إن رفعت يدي بالدعاء، فإنني أطرق بابك من بعيد،
بابك الذي لم يُغلق في وجهي يومًا، حتى حين أغلقت الدنيا أبوابها.

يا أبي…
لو تعلم كم أحبك،
وكم أناديك كل مساء ولا يجيبني سوى الصدى،
وكم أبحث في الوجوه عن ظلّك، وفي الأصوات عن نبرتك،
وكم أبكي سرًّا لأنني أخجل أن أبدو ضعيفًا أمام من لا يعرفك.

لا أحد بعدك يشبهك،
ولا أحد قبلك كان سواك،
وكلّ الذين مرّوا بي، كانوا عابرين من عينيك…
يُشبهون طيفك حين يغفو على أطراف الذاكرة، ويوقظ فيّ كل التفاصيل دفعةً واحدة.

أبي…
لو كان للحنين شكل، لكان وجهي في المرآة.
ولو كان له صوت، لكان اسمي على لسانك.
ولو كان للغياب وزن، لثقلت بي الأرض.

في يوم الأب…
لا دعاء يوفيك حقك،
ولا نصّ يحتملك كاملًا… فأنت المعنى،
وما نحن إلا حروف متعثرة تحاول أن تصفك… فتفشل في كل مرة.

اللهم ارحم أبي بعد أن طال غيابه،
وأنِر قبره كما أنار قلبي في حياته،
واجعل فردوسك الأعلى مأواه، ورضوانك الأكبر لباسه،
اللهم اجزه عني خير ما جزيت والدًا عن ولده،
واجعلني له ولدًا صالحًا لا ينقطع عنه الدعاء،
وارحم سائر أموات المسلمين، من تقادم رحيلهم ومن قرب،
اللهم اجعل لهم في كل قبرٍ نورًا، وفي كل ذكرى سكينة،
وفي كل دعاءٍ نُورًا يبلغهم، ويرفعهم، ويؤنس وحشتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

المصدر: الفيسبوك – صفحة كبرياء رجل.