الأمير سيد أحمد ولد أحمد العيده(ثنائية الحب والحرب)/ باته بنت البراء
هَـاذَ مِنْ لِحْـزِيـمْ إِلْلِّي جَـادْ
وِالْفِگْــدْ الدَّايِــمْ والتُّوجَــادْ
وِالْمَـشْـيِ ؤُلُگُــوفْ ؤُلِگْـعَادْ
بَيْـنْ أَگْــدَرْنِيتْ ؤُتِشِلِـيـــتْ
الطَّلْحَـايَه وِاحْـنُـــوكْ الْوَادْ
عَــرَّفْـنِي يَـمُــولْ التِّـلِيـــتْ
إِنَّكْ مَــالِكْــنِـــي، وِإِنَّــكْ زَادْ
اتْصَرَّفْ فِيَّ كِيفْ ابْغَيْـتْ
لن يتردد قارئ النص في القول إن صاحبه برح به الشوق وآلمه الفراق، وأنه تردد بين الأمكنة المذكورة وكأنه يترصد لقاء أو يُمنِّي النفس بزورة أو نظرة. لكن سياق النص التاريخي قد يضيء جانبا عن هذه المعاناة التي لم يشأ الشاعر أن يبسط القول فيها، ولا أن يوضح ملابساتها، وإنما سجلها خاطرة شعرية شديدة الإيجاز وبالغة التأثير.
هذا ما يجعل التعريج على السياق التاريخي للطلعة مشروعا، فالأمير المجاهد سيد أحمد ولد أحْمَد العَيْدَّه قال الطلعة بعد مواجهة شرسة مع جنود المستعمر في وقعة “أم لحنوك” المعروفة، قريبا من تشيت العام 1912م، والتي أبلى فيها بلاء حسنا.
وقد ظل جنود المستعمر يترصدونه في كل مكان، ويتتبعونه أينما توجه، فاختاروا الزمان والمكان المناسبين للإيقاع به بعيدا عن أرضه ومقر إمارته ب (آدرار)، فأعدوا العدة والعدد وباغتوه وهو في قلة من فرسانه، بعيدا عن موطنه ومركز قوته.
احتكم الأمير كعادته إلى المواجهة واستبسل في القتال، فأصيب إصابة بليغة في قدمه، مما اضطره إلى مناورة العدو والانسحاب بجنوده إلى المجال الصحراوي الواسع الواقع ما بين تِشِيتْ وتَگَـانِتْ.
هكذا ظل الأمير سيد أحمد يجوب المنطقة مترددا بين الأماكن التي عدد، منتظرا أن يُبِلَّ من إصابته ويستعد لمواجهة جديدة، والعواطف المشبوبة تسكنه، والأحاسيس المختلفة تنتابه، فتأتي الطلعة محملة بما يعمر قلبه من كبرياء نبيلة لا تلين، وحب صادق وإيمان عميق بالله تبارك وتعالى.
لم يشر الشاعر إلى إصابته البليغة ولا إلى رحلته المضنية في بلاد غريبة عليه، ولا إلى ترقبه العدو كل حين، فنفسه الأبية تأبى أن تؤثر الأحداث في عنفوانها، أو تنسيها فتوتها، وهكذا يأتي مفتتح النص حديثا عن معاناته العاطفية وكأنه إنسان خلي البال، متفرغ للمواجد وهو القادم من ساحة القتال والمصاب إصابة مضنية، والبعيد عن موطنه الأصلي:
اذَ مِنْ لِحْـزِيـمْ إِلْلِّي جَادْ ** وِالْفِگْــدْ الدَّايِمْ والتُّوجَادْ
ويذكرنا موقفه بالموقف البطولي الرائع الذي يلتبس فيه الحب بالموت التباسا بديعا في معلقة عنترة بن شداد:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ** مني، وبيض الهند تقطر من دمي
فالشاعران يشتركان في الإصابة بساحة الوغى، والشوق الجارف إلى المحبوبة، مما يؤكد أن أيا منهما لا يأبه بالموت ولا يتنازل عن مميزات الفارس الأصيل.ويأتي وصف التردد بين الأماكن المترامية، ومواصلة السير فيها إحالة ضمنية إلى ما يقاسيه الشاعر من صعوبة في المشي وهو الجريح، وما يمتلكه من إصرار على عدم الاستسلام:
وِالْمَشْيِ ؤُلُگُــوفْ ؤُلِگْـعَادْ **
بَيْـنْ أَگْــدَرْنِيتْ ؤُتِشِلِيتْ
الطَّلْحَـايَه وِاحْنُوكْ الْوَادْ ** ..
فكل الأماكن المذكورة شاهد ماثل على رفض الأمير الشجاع الاستسلام للألم أو اليأس، وعزمه الأكيد على المواصلة رغم الإصابة.
وإذا كان النص لا يحيل إلى أي ذكر للجراح ولا شراسة الأعداء، فإن الموقف المذعن بالعبودية المطلقة لله تبارك تعالى يأتي شاهدا على أن الأمير سيد أحمد لا يذعن بالعبودية المطلقة إلا لخالقه تعالى ، ولا يستسلم إلا لقضائه وإرادته، وهو ما أوفى التعبير عنه في مختتم النص حين يقول:
……………………………….. ** عَــرَّفْـنِي يَـمُــولْ التِّـلِـيـتْ
إِنَّكْ مَالِكْنِي، وِإِنَّــكْ زَادْ
اتْصَرَّفْ فِيَّ كِيفْ ابْغَيْتْ
فتصريف الله قضى أن يجعله يسقط جريحا، ويبقى محاصرا في بلاد بعيدة، وهو ما يذعن له حق الإذعان، وبالمقابل يرفض ما سواه ولا يرضى الخضوع له. وهذا الموقف البطولي الفريد يحيلنا إلى مواقف شعراء الجهاد أيام الفتوحات الإسلامية وهم يواجهون الجيوش الزاحفة، ويرابطون في الثغور وعند بوابات الحصون، بعيدا عن أوطانهم وذويهم.
يصف الشاعر بشر بن ربيعة الخثعمي حالته النفسية وهو يخوض معارك القادسية، وقد ألم به وهنا طيف زوجه الحبيبة في أقاصي ديار فارس، فاستثار شجونه وأشجاه:
ألَــمَّ خَـيَــالٌ مِـنْ أُمَـيْـمَـةَ مَــــوْهِــنًـا / وَقَـدْ جَعَـلَـتْ أُولَى الـنُّجُـومِ تَغـُـورُ
وَنَـحْـنُ بِصَـحْـرَاءِ الْعُـذَيْــبِ وَدَارُهَـا/ حِجَـازِيَّــــةٌ، إنَّ الْمَـــحَـــلَّ شَـطِـــيــرُ!
وَلَا غَـرْوَ إِلَّا جَوْبُهَا الْبِيدَ فِي الدُّجَى/وَمِـنْ دُونِـنَــا رَعْــنٌ أَشَــــمُّ وَقُــــورُ
إِذَا مَـا فَـرَغْـنَــا مِـنْ قِـــرَاعِ كَـتِـيـبَـــةٍ ** دَلَـفْـنَــا لِأُخْـــرَى، كَالْـجِـبَــالِ تَسِيــرُ
عَشِيَّةَ وَدَّ الْـقَــوْمُ لَـوْ أَنَّ بَعْـضَهُـمْ/ يُـعَــارُ جَـنَـاحَـيْ طَــائِـرٍ فَـيَـطِـــيــــرُ
فزيارة طيف الحبيبة يأتي في ظروف عصيبة يتربص فيها الموت بالشاعر ولكنه لا يأبه له ولا ينفك يتشبث بالحياة والجمال، يعانق الحب ويتغنى بالشعر وهو الواقف في ساحة القتال.
إن كلا النصين يقدم وصفا وافيا لحالة الشاعر المجاهد، وما ينتابه من حالات نفسية متعاقبة، وما يعمر قلبه من إيمان عميق بالله خالقه، وما يمر به من لحظات عصيبة، لا تفل من عزيمته، ولا تجعله يلغي أولوياته في الحياة غير مبال بالموت المحدق.
هي لحظات شعرية يمتزج فيها الحب بالموت، ويظل الحب الأقوى والمسيطر؛ فيأتي متصدرا اهتمامات الشاعر، ومُفتتحا نصوصه الخالدة.