الوفاء قيمة قرآنية ووصية نبوية لبناء مجتمع صالح / علي محمد الصلابي
الوفاء من أخلاق السلوك الاجتماعية العظيمة، فهو وصية نبوية، وقيمة قرآنية، حيث أولى القرآن الكريم هذه القيمة عناية فائقة؛ لما لها من عظيم الدلالة في تزكية النفوس، وصفاءِ الفِطرة، وسلامةِ الإيمان.
وقد رغّبَ الله تعالى بالوفاء بالعهود بما أعدَّ الله للمتمسكين بهذا الخلق من الثواب، وبما أثنى به عليهم في مُحْكَم الكتاب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 10].وقد فصّل في آيات أخرى عظمة ذلك الأجر فقال: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾[الرعد: 19 ـ 20].
ووردت الأوامر القرآنية بالوفاء بمختلف أنواع العهود والأمانات والحقوق، ومنها الوفاء بالكيل والوزن، وهو المجال الذي يتعلق كليةً بحقوق الآخرين، وما يترتب عليه من قوام حياتهم ومعاشهم، وهو المجال الذي لا سبيل إلى التساهل فيه؛ لأنّه مبنيٌّ على المشاحّة والمقاصّة، فالوفاء فيه يُصْلِحُ للناسِّ أحوالَهم، ويحفظ لهم حقوقهم، ولهذا تكرر الأمر به في القرآن الكريم خمس مرات، منها قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ [الأنعام: 152]. وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾[الإسراء: 35].
وتحدّث القرآن الكريم عن شعيب عليه السلام مع قومه، فقد كان قومه يفرضون على الناس ما شاؤوا من المعاملات التجارية الجائرة، سعياً إلى جني الربح الفاحش، دون مراعاةٍ لما يقع على غيرهم من الظلم والغبن، وقد شاعت فيهم هذه المعاملات، حتى صارت أمراً متعارفاً عليه عندهم، فلمّا بعث الله شعيباً عليه السلام استهلَّ دعوته بمحاربةِ ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والأوثان، ثم ثنّى بمحاربة تلك المعاملات الجائرة، ومن أبرزها: نقص الميزان والمكيال. قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الأعراف: 85].
وأمر الله تعالى بالوفاء بالعقود: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. ومعنى الآية: يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم بأنواع العقود والعهود في إظهار الطاعة، أوفوا بتلك العقود التي التزمتم بها، وإنّما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقوداً؛ لأنّه ربطها بعباده، كما يُرْبَطُ الشيءُ بالشيءِ بالحبل الموثق، فالآية الكريمة تنادي الموصوفين بالإيمان أن يفوا بالعقود التي التزموا بها، ووصفهم بالإيمان تهييجاً لهم على الوفاءِ بالعقود؛ لأنّ ذلك من مقتضيات الإيمان الذي تعلقوا به.
وقد نعت القرآن الكريم أهل الوفاء بأحسن الصفات، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [الرعد: 19 ـ 20]. فنعتهم الله تعالى بأولي الألباب، أي: أصحاب عقول، حيث هدتهم عقولهم إلى وجوب احترام العهود والمواثيق التي التزموا بها لخالقهم في الإيمان والعبادة، والمخلوقين في المعاملات والسلوك، فلا ينقضون عهداً ولا ميثاقاً، ومنها قوله سبحانه في سياق تعداد صفات أهل البر من عباده: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
فوصف الله تعالى أصحابَ هذه الأخلاق، ومنها خُلق الوفاء، بأنّهم أهلُ صدق وأهل تقوى، وذلك لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واتقوا عذابه وعقابه الذي وعد به الناكثين والخائنين، فتأمل مبلغَ هذا الثناء من الملك الجليل المتضمن للتنويه العظيم بأهل تلك الأخلاق الكريمة تجد التعبير قاصراً عن إدراك كنهه، لما ينطوي عليه من الجزاء الكبير الـمعد لأولئك الموصفين بهذه الصفات، إذ هو بحسب مقام المُثني والمثيب، جعلنا الله ممن نال حظاً من ثنائه وجزائه الكريم، فإنّ جزاءه الكريم لهو الجزاء الأوفى، ولا غَرْوَ أن ينـال أهل الوفاء ذلك الثناء وذلك الجزاء العظيم، فإنّهم قد تحلّوا بذلك الخلق العظيم الذي هو من صفات الحق تبارك وتعـالى، فـإنّـه سبحانه ذو الوفاء الذي لا يدانيه وفاء، كما أخبر سبحانه عن نفسه، وهو أصدق القائلين بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 111].
كما أنّه من صفات أنبياء الله (عليهم الصلاة السلام)، فهذا نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام قد ضربَ المثلَ في الوفاء، إذ وفىّ وفاء لم يُعرف أحد من البشر أن ابتلي بمثله، وذلك حينما أمره الله تعالى بأن يذبح ابنه، فلذة كبده بيده، فما كان منه إلا أن امتثل أمر ربه، وطاوعه ابنه على أمر ربه، وتلّه للجبين، ليحقق أمر الله، فلمّا علم الله صدقه ووفاءه فداه بِذِبِحٍ عظيم، وناداه معبراً عن رضاه عنه، وعن وفائه بقوله: ﴿ياإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: 104‑105].
وكذلك نبيُّ الله يوسف عليه السلام، فإنّ خُلقَ الوفاء حمله على أن ينسى ما عمله إخوانه معه من مكر وخديعة؛ بحيث كانوا يهدفون إلى أن يلقوه حتفه حينما ألقوه في غيابة الجُبّ، ناهيك عمّا أورثوه أباهم نبيَّ الله يعقوب عليه السلام من حزن عميق على فقد ابنه يوسف عليه السلام؛ حتى ابيضت عيناه من الحزن، ومع ذلك فلمّا وفد إليه إخوته بعد أن مكنه الله من خزائن الأرض، قال تعالى: ﴿أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ [يوسف: 59]. هذا هو الوفاء بحقوق الناس عامة، والإخوة والأرحام منهم خاصة، وهذا هو الخلق الكريم اللائق من نبي كريم.
وأعد الله تعالى لأهل الوفاء الأجر العظيم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الدهر:5‑7]. فسمّاهم الله تعالى أبراراً، ومعلوم أنّ الأبرار لهم صفات كثيرة تدل على عظمة إيمانهم وتعبدهم، ولكنْ لم يذكر الله تعالى في هذه الآية الدالة على مبلغ ثوابهم وأجرهم إلا صفة الوفاء والخوف، وذلك لأنّ هذا الوصفَ أبلغُ في التوفر على أداء الواجبات، لأنّ مَنْ وفّى بما أوجبه الله على نفسه لله، كان أوفى بما أوجبه الله عليه بالأولى، وذلك يدل على قوة الإيمان، إذ لا يدفع إلى الوفاء بالنذر إلا قوة الإيمان، وتفاوتُ الناسِ عند الله تعالى إنّما يكون بحسب قوة إيمانهم وضعفه، كما دل عليه قوله تَعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. جعلنا الله من أهل الوفاء والتقوى بمنه وكرمه.
إن الوفاء من أهم مقاصد القرآن الكريم، ومن أسمى القيم الأخلاقية في الإسلام، وتتجلى أهميته كقيمة أساسية تحكم العلاقات الإنسانية والاجتماعية المستقيمة، فالوفاء جسرٌ يربط بين الإنسان وربه وبين الفرد ومجتمعه،حيث يدفع العبد للوفاء بالتزاماته تجاه خالقه في العبادات والمعاملات،وهو الضابط لسلامة المجتمع ونظامه، من خلال حثّه للمسلمين على الوفاء بالعهود والوعود، سواء في الحياة الزوجية والأسرية أو في أماكن العمل أو الأسواق أو غيرها.