بداية الشنآن مع عبد العزيز بو تفليقة..بداية الشنآن مع عبد العزيز بو تفليقة/ محي الدين اعميمور
مقتطفات من كتاب “الفرص الضائعة”
تعتبر قوة المسؤول السامي مرادفة لحريته في التعيين والعزل والتغيير، وبالنسبة للوزير على وجه التحديد، يجب أن يتأكد الجميع أنه على اتصال عضوي مستمر برئيس الدولة، وخصوصا إذا كانت مهمته أن يكون، بحكم المنصب، متحدثا باسم الدولة كلها، وغياب الاتصال المنتظم أمر لا يمكن التستر عليه طويلا، وهكذا تتآكل هيبة الوزير تدريجيا إلى أن يصبح، كما يقال، خضرة فوق عشا.
كنت عينت وزيرا للثقافة والاتصال في أوت 2000، ولم أكن التقيت بعدُ برئيس الجمهورية على انفراد في جلسة عمل، وأسوأ من ذلك، حدث ما يشبه الصدام معه بعد نحو شهر من تعييني، وذلك في قضية عُرفت باسم قضية “أركادي” (ألكساندر، وهو مخرج فرنسي له علاقات متينة بأوساط جزائرية لم أكن من بين خلصائها، ويذكر البعض اسم الكاردينال كمرجعية نفوذ للفنان الفرنسي) .
كان أول ما عرفتُه من بعض إطارات الوزارة أن العملية هي تنظيم تظاهرة فرنسية تحمل عنوان “مهرجان سينما الصيف” تنطلق تحت رعاية رئيس الجمهورية بل وبإشرافه شخصيا.
ورأيت أن الأمر يدخل في إطار نشاطات وزارة الثقافة فانتظرت تعليمات واضحة من رئيس الجمهورية، وعندما تأخر ذلك، رحت أبحث عن برامج الحفل وقائمة الأفلام التي سوف تعرض، ولم أجد شيئا يُذكر، حيث أن عملية الإعداد الفني تمت بصفة حصرية بين المخرج الفرنسي وعدد من الجزائريين الخواص المرتبطين بمتحف السينيما من جهة، ومن جهة أخرى عناصر من رئاسة الجمهورية، لعلها كانت أقرب مساعدي الكاردينال، أو هو شخصيا.
(..) وجاء من يبلغني بأمر بالغ الخطورة، وهو أن الرئيس قرر أن يستجيب لطلب الجانب الفرنسي ويمنح وساما وطنيا للممثل الفرنسي، وصدمتُ، حيث كنت أعرف أنه ليس هناك من أعضاء الحكومة من يحمل مثل هذا الوسام، وهكذا اتصلت بزميلي محمد الشريف عباس وزير المجاهدين لأحذر من إعطاء وسام كهذا لرجل لم يعرف عنه نشاط متميز في خدمة الثورة الجزائرية، واقترحت التفكير بسرعة في استحداث وسام لأصدقاء الجزائر، وقلت له بصراحة إن عليه أن يطرح الأمر على من يراه وأن ينسب الأمر لي إن أراد.
وأنا أتصور أن بعض من بلغهم ذلك أو تنصتوا عليه تطوعوا بنقل موقفي من الأمر كله إلى الرئيس، وبطريقة لعلها استثارت غضبه.
وأتذكر هنا ما حدث بعد عدة سنوات، فقد قال لي عبد القادر حجار سفيرنا بالقاهرة بأن البشير بو معزة، رئيس مجلس الأمة، قال له آنذاك بأنه : “كان على وزير الثقافة (أخيكم) أن يستقيل فورا احتجاجا على قرار الرئيس”، وقلت على الفور لحجار بأن بو معزة على حق، فالمواقف الوطنية كلٌّ لا يتجزأ، ولكنني، وبعد عدة دقائق من الحوار، تراجعت، فقد أحسست بأن أسبقية الاستقالة، إذا كان لا بد من تسجيل موقف وطني، تقع أولا على عاتق رئيس مجلس الأمة، وهو الشخصية الثانية في الدولة ورجل حزب الشعب الجزائري ومؤسس جمعية 8 مايو والشخصية القيادية في جبهة التحرير الوطني.
وعندها فقط كان يمكن أن تطلب الاستقالة من آخرين ليس أولهم وزير لم يقضِ بعدُ شهرا كاملا على كرسي الوزارة، أما أن يكتفي رئيس مجلس الأمة بتعليق يوشوش به لأحد الرفقاء فهو أمر ينزل بمستوى الرجل، خصوصا وأنني لم أسمع أن سي البشير انتقد موقف الرئيس في قضية الوسام.
وهكذا سجلت الأمر على حساب الموقف السلبي الذي أخذه مني بو معزة دائما، وأظنه مرتبطا بعملي مع الرئيس هواري بو مدين، الذي لم يكن يشعر نحوه بأي محبة، وربما بتصوره أنني، بمواقفي التي جاهرت بها في المجلس وكتبتها في الصحف، كنت أتلقى تعليمات من الرئيس بو تفليقة، ولم يكن بينهما ودّ كبير.
وافتتح مهرجان سينيما الصيف الفرنسية في 17 سبتمبر 2000، أي قبل أن ينتهي شهر على تسلمي لمهامي الوزارية، وقمت باستقبال رئيس الجمهورية عند مدخل مسرح الهواء الطلق، لكنني أحسست بالكثير من البرود في مصافحته لي، وعلى غير عادته، حيث كان يحرص غالبا على ترديد تعليقات مرحة.
كان روجي هانان في زيارة لبعض مناطق البلاد فتأخر وصوله إلى مكان الحفل، وانتظرناه بالطبع، وبالتالي تأخر بدء الحفل في انتظار سيادته، وكنتُ أكتم غيظي تجاه ما رأيت أنه استهانة برئيس الجمهورية، الذي كان يجب ينتظره الضيوف وليس العكس.
(..) وأعطيتُ إشارة بدء الفيلم المُعدّ للعرض، وكان مقررا أن يكتفي بو تفليقة بمتابعة مقدمة الفيلم ثم تُشعلُ أضواء المسرح لتسمح له بالانصراف، وهو ما حدث فعلا، لكنني فوجئت بأن الرئيس قفز من كرسيه في الممر العرْضيّ الأوسط من مسرح الواء الطلق بمجرد انتهاء المقدمة وإنارة الأضواء، واندفع عبر الممر المتدرج إلى أسفل المسرح وهو يكاد، بسرعته، يلمس الدرجاتِ لمسًا، ورحنا، من استقبلوه وأنا، نجري وراءه لنكون في وداعه، ولكنه، عندما وصل إلى سيارته المتوقفة خلف ركح المسرح، ركبها بدون أن يلتفت خلفه.
وأحسست يومها بأن هذا ليس فألا جيدا، ولم أكن أعرف على وجه التحديد ماذا قيل للرئيس، ولم يسألني هو عن أي شيء، ولم أبادر باستفساره عن شيء، وكنت اكتفيت بأن قلت له في لحظات وقبل وصول “روجي هانان” أنني أطمع في أن يخصص لي دقائق أستعرض فيها معه أهم معطيات القطاع، وكانت تلك اللحظات هي الوحيدة التي انفردت بها مع الرئيس طوال وجودي في الحكومة.
وما زال الحديث ذا شجون.