تحقيقات ومقابلاتموضوعات رئيسية
النانة الرشيد تناجي ابن الخطيب في قصر الحمراء وتستصرخ “عائشة الحرة”
غرناطة (إسبانيا)- “مورينيوز”- (خاص)- …… بدأت الوحدة تنال مني.. طريق حصن الديلافيلا مدينة نائمة على ماضي مرصع بمختلف العلوم، عبرت ممرا تشير يافطة صغيرة إلى انه طريق الخروج. هناك كانت النوافير تسكب مياهها الدوارة الصافية، تنتهي شبكتها بحنفية جارية.. لفتت انتباهي سائحة مسنة تشرب منها بظمأ، توقعته فضولا يدفعها لمعرفة أسرار تدفق مياه مدينة بني الأحمر التي بنيت بنيت على مرتفع ينظر إلى نهر سبيكا بكبرياء و تعال .. لم يكن السياح بالكثرة التي توقعت.. كان دخولي الحمراء سلسا، لكن لغات متعددة تتزاحم في فضاء بني نصر ليس من بينها لغتهم العربية الأصيلة. و لربما كنت العربية الوحيدة الزائرة يومي ذاك…
وسط مدينة الحمراء، ما بين القصبة و قصور ملوك بني نصر، شيد الملك الكاثوليكي كارلوس الخامس قصرا ضخما مربعا، كان اجوف فارغا و باردا؛ يبدو أنه كان تنافسا سخيفا مع إرث المسلمين المعماري. بدا لي القصر لقيطا هندسيا، لا يشغل بال أحد، و يبدو كذلك للاسبان أنفسهم ، فهو مفتوح للزوار دون مراقبة او تحديد وقت، كما هي قصور بني نصر ..مررت به دون اكتراث، أسابق ساعات الزيارة المحددة .
ممر أخر قادني إلى حيث سيبلغ بي الحزن مداه: بهو السباع و برج قرماش و قاعة السفراء و قاعة الحكم و بني سراج و بستان الريحان… بعد موقف المراقبة و أفواج السياح يتدفقون من حولي، ولجت إلى حيث كان الأمراء و الوزراء و القضاة و العلماء … حيث كانت الأميرات و الوصيفات ، حيث نسجت الخطط العسكرية و حيكت الدسائس السياسية.. هنا شعرت بثقل شديد في قدمي، و قفت مجهشة بالبكاء .
كانت شمس المساء تتدفق دفئا عبر النوافذ، لم تكن نوافذ عادية، كان الضوء يسكن المكان كأن الشمس تسطع بداخله..
صرخة في الفراغ
بغرف الحريم، صدح بذاكرتي موشح :”جادك الغيث اذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس/ لم يكن وصلك إلا حلما / في الكرى أو خلسة المختلس.. كان هنا لسان الدين بن الخطيب شاعرا و فيلسوفا ووزيرا.. هنا بحجرات الرخام المذهلة استمع للغيان يغنين موشحه.. و هنا أقف بعد سبعة قرون أخرى أردد بحزن ما تمايل له طربا.. أشعر أن اللغة عقيمة، لا تسعفني كي أصف ما شعرت به. كنت اجول بين أبهية القصر و حجراته، و كلما خرجت من مكان عدت إليه مهرولة أمني نفسي الحائرة بلقاء أحد ممن كانوا فيه.. صرخت همسا:يا عائشة الحرة قومي، لتسمعيني، لربما كنت قصاصة منك و العرق دساس، بل أنني منك حقيقة، فأنا امرأة مهدورة الأمجاد مطاردة الأوطان، و مثلك أستنهض همم رجال أخاف أن يبكوا يوما ما كالنساء وطنا لم يحفظوه كالرجال.
عند بهو السباع، لم يكن الماء ينساب من أفواه التماثيل، كانت مياه النافورة متجمدة،و بدأت الشمس تستعد للإختباء خلف التلال، و أمسيت في القصر أنتظر فعل الظلام به.كانت قاعة الحكم تشهد ترميما يمنع الوصول الى غرفها و حماماتها، لكني جلست القرفصاء حيث كان عرش السلطان.. هي جلسة عنه و قد تصور أنه خالد فانشغل بملكه الفردي غافلا عن مصير أمته.. لم يعد من عرش هناك، مجرد مكان فارغ.
روعة البناء المعماري تشغل كل زوار القصر، و قد وجدت فيها بعض السلوى، قاعة السفراء عجيبة الهندسة ، بنقوشها و رخامها و قبتها الفاتنة، لكن الأجمل هو نوافذها المطلة على جنان القصر و ضفاف المدينة المبهرة.. و انا أتجول في رحابها كان دليل اسباني يشرح لفوج بدا لي أنه من طلاب الجامعات، كيف كان السلطان يستقبل زواره و سفراءه بهذه القاعة الفسيحة و قد أدار عرشه للنوافذ، كان يقلد خيلاء الملك و كبريائه فيقهقه رفاقه.. أجل، يحق لهم أن يسخروا من تطور علمي و ثقافي لم يحفظ مُلك الدولة الإسلامية، و كل ما حفظه شاهد على الهزيمة فحسب ..يحق لهم أن يسخروا من قوم خارت قواهم تحت كيد الصليبيين رغم قوتهم و علمهم .
غزوة حارس إسباني
عند بستان الريحان الخلاب، كان حارس إسباني يعقده الخامس على ما يبدو، طويل القامة، يتجول بأنحاء الفناء، يراقب السياح و يرشد بعضهم، لا أدري ما لفت انتباهه إلي، فقد وجدته وجها لوجه معي عند أحد الأبواب العملاقة، لربما لاحظ أني الزائرة المنفردة، و كل الزوار جماعات .. عرض علي مساعدته بتوضبح بعض المعالم، و سألني عن بلدي.. كنت حينها أشعر أن الحزن يفور من مآقي، بينما كانت أحداقه تلمع بمكر يقاتل لطفا مصطنعا.. قلت له :أنا من الصحراء الغربية، و أنا عربية، و هذا قصر الحمراء بناه أسلافي.. كانت مكابرة مني لا جدوى منها، فالرجل يقف بإرثي معتزا، و أقف على هامشه مكسورة الخاطر.. كل البساتين التي سعى السلطان محمد الأول إلى غرسها بالجبل حيث صمم قلعته و حصونه، و عمل على أن تكون مصدر معاش لسكان المدينة الحمراء،أصبحت الآن مجرد تحفة لا حاجة لأحد بثمارها. راعني منظر ثمر الرمان متفجرا من فرط النضج و تأخر مواعيد القطاف، و أشجار البرتقال و قد تعفن معلقا بأغصانها.. كل هذا النعيم مجرد صورة تسلب ألباب الناظرين فقط و تدخل للخزينة الإسبانية اموالا طائلة .
كان الخروج صعبا من قصر الحمراء، طريقه وعرة على أمثالي، لا أدري إن كنت أحببت المغادرة ام كرهتها.. تهت ، و البرد القارص يغمر أطرافي.. كان الحارس يراقبني.رأيته يخطو خطوات واسعة نحوي، وضع آله كان يحملها بإحدى الزوايا و قال :اتبعيني، طلبت منه أن يرشدني فقط للممر المفضي للخروج من القصر، نظر الي و قال : بإمكانك انتظاري نصف ساعة، سيارتي بالموقف هناك و بامكاني آخذك إلى حيث شئت.. قلت له : لا لا .. و أردفت بالحسانية “كصران عمرك ” .. و أنا أجر أقداما متثاقلة مودعة جنة الحمراء، مطرودة دون غفران، أعادني الزمن إلى يوم الهوان الكبير، و ما كان طمع الحارس الإسباني إلا مكرسا فرضية أن من هزموا هنا لم يخلفوا بعدهم من يصون الأرض و العرض .
165 تعليقات