هكذا كانت سياسة الشيخ سيد المختار الكنتي
هكذا كانت سياسة الشيخ سيد المختار الكنتي (1730م/1142 هـ ـ 1811م/1226هـ)
من كثرة ما سمعنا عن السياسة وأهلها في موسم الانتخابات الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وجدتني أتساءل عن كيف كانت سياسة أجدادنا في هذا المنكب البرزخي كما يسمونه، كيف كانوا يسيرون مجتمعهم، فيؤثرون ويتأثرون بمحيطهم، وفي هذا السياق وجدتني –لاشعوريا- أتساءل عن كيف كانت سياسة واحد من خيرة هؤلاء الأجداد ألا وهو الشيخ سيد المختار الكنتي رحمه الله.
لقد كرس الشيخ حياته لله فدعا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وسعى إلى تكوين مجتمع صالح أساسه الأخلاق كما لم يدخر جهدا من أجل إصلاح ذات البين وإخماد الفتن، وسنقتصر ـ تفاديا للإطالة ـ على الجوانب التي تساعد على فهم شخصية الرجل وتأثيره من خلال استحضار أخلاقه وسياسته عسى الله أن ينفعنا بها.
1 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كان الشيخ رحمه الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا تأخذه في الله لومة لائم، حليما، صبورا، لين الجانب، موطأ الأكناف، لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله .
وقد ذكر ابنه الشيخ سيد محمد في كتابه” الطرائف والتلائد” معلومات قيمة حول طريقته في الدعوة إلى الله، إذ كان يأمر وينهى برفق ويقول “لا يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ضعف في الدين أو ضعف في الهمة”وفي نفس الوقت كان “رحيما بعصاة الأمة، منفسا عليهم بروح رجاء واسع الجود والكرم مع… الوعظ لهم في الجملة والدعاء لهم بالمغفرة”.
لم تقتصر رسالته على محيطه الضيق بل وصلت رسائله إلى كل منطقته من المغرب العربي إلى أدغال أفريقيا، فكانت مراسلته متواصلة إلى أمراء “بورنو” وأمراء الفلان وخاصة عثمان دان فوديو (ابن فودية) وأخيه عبد الله وابنه محمد بلو ، كما كان الشيخ على صلة بالمغرب وبجل قبائل الصحراء الكبرى.
وكانت رؤية الشيخ واضحة والمعادلة بسيطة في نظره لأنه على يقين بأنه “لا شيء سوى خلق وخالق فاخرج الخلق من قلبك تجد الخالق بين يديك أقرب إليك منك”.
وهو الذى كثيرا ما يتمثل بقول أبى الحسن التستري:
فلا تلتفت في السير غيرا فكلما سوى الله غير فاتخذ ذكره حصنا
ومهما ترى كل المراتب تجتلي عليك فحل عنها فعن مثلها حلنا
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى
وكان كثيرا ما يقول “معرفة الله والالتفات إلى ما سواه نقيضان لا يجتمعان”.
كان الشيخ رحمه الله لا يضع شروطا للأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر حيث يقول : “لا يمنعن أحدكم من الأمر بالمعروف عدم الإئتمار به ولا يرده عن الزجر عن المنكر عدم الانزجار عنه فإن السلف الصالح كانوا ينهون عن المنكر ولا يرون شريطة الانتهاء عنه، ويأمرون بالمعروف بدون شريطة العمل به”.
ومن مواقف الشيخ الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وقع له مع فاتك الرماة (نوهم) الذي جاء لقتله مشهرا سلاحه والشر يتطاير من عيونه وقد أيقن الحضور بالكارثة وضاقت عليهم الارض بما رحبت، إذ ذاك وقف الشيخ في رباطة جأش نادرة يشرح للصائل أن انحطاط قومه إنما كان سببه انحلال أخلاقهم وظلمهم للمسلمين وكان من جملة خطابه ان الرماة لم يزل “ينتقص عدلهم ويتزايد جورهم وينتشر ظلمهم ، فنبشوا جيفهم حتى كان الفتك لهم سيرة معروفة والظلم طريقة مألوفة ففتك بعضهم ببعض، فتفرق الكلام، وانفصم النظام، وغلب على الكرام منكم اللئام”، وعندها اخترقت الدعوة الصادقة قلب الفاتك فأغمد سيفه واعترف بفساد قومه.
ومن رسالة له إلى ابنه الشيخ سيد محمد يوصيه على مكارم الاخلاق أن ” خذ العفو وآمر بالعرف واعرض عن الجاهلين” (الأعراف، 199)، ومن تعليقه على هذه الآية “خذ العفو: أي الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم فيستقصوا عليك فتتولد منهم العداوة والبغضاء بل اقبل الاعتذار منهم واترك البحث عن أمورهم والمساهلة في كل شيئ، وآمر بالعرف أي بكل ما أمرك الله به”.
يقول الشيخ في كتابه “فتح الودود شرح المقصور والممدود” ما نصه : “واتفقت الأمة على أن المنكر إذا شاع وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لم يعلم عدم الفائدة، فإذا علم عدم الفائدة وجب الفرار حينئذ وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله : {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، (الأنفال، 25) وذلك أن المنكر إذا ظهر ببلدة عم العقاب فاعله وغير فاعله، قال صلى الله عليه وسلم “لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده”.
2 ـ تكوين المجتمع الصالح:
كان الشيخ رحمه الله مجددا دينيا ومصلحا اجتماعيا لا تكاد تفرق بين هذين الجانبين من سيرته العطرة ، فلقد اهتم بالعلم وتربية القلوب مع المواساة بل والإيثار للمحتاجين والقيام بسياسة إعمار مما ينفع البلاد والعباد وفي كل هذا كان يعطي القدوة الحسنة في تمام الأخلاق والصدق مع الله ومع الناس.
1.2 ـ العلم وتربية القلوب:
بعد أن تبحر الشيخ في العلوم وامتص رحيق العلم اللدني من شيخه الشريف سيد علي بن النجيب أقدم على تأسيس زاوية للعلم والتربية (1754م) ضربت إليها أكباد الإبل من كل حدب وصوب وذاع صيتها حتى صارت من أهم مراكز الإشعاع الثقافي بهذه البلاد، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي ( انظر الفكر السياسي في غرب الصحراء، دراسة في تجربة وأدبيات المدرسة الكنتية ، لمؤلفه :سيد أعمر ولد شيخنا).
وقد كانت المنطقة بحاجة ماسة إلى هذه الزاوية فالشيخ نفسه كان يشكو من إعراض أبناء قبيلته عن العلم، إذ يقول مما نقله عنه ابنه الشيخ سيد محمد الخليفة : “لما كانت دولة كناتة مستقيمة وأمورها على الديانة والمروءة مبنية، كان الغلام منهم إذا بلغ الحلم أعمل الهمة واستفرغ العزمة في طلب العلم والرحلة إليه فإذا جمع من العلوم ما كتب له وراض نفسه وهذبها، اشتغل بجمع المال من حله على الوجه المحمود فإذا حصل ما قسم له من المال عمد إلى عقيلة بيت شرف ودين فتزوجها فيصبح صدرا من صدور قومه علما ودينا ومروءة وغنى، فلا تكاد ترى منهم إلا سيدا صنديدا وجهبذا رشيدا، وهم في هذا الزمان إذا ترعرع منهم الغلام وبلغ الحلم اهتبل بالنكاح ولهج به فتزوج من بيت هجنة أو خضراء دمنة فولدت له الاولاد وكلفته الاعداد فاشتغل بها عن طلب العلم وتحصيله وتأسيس بناء المروءة والنجدة وتأصيله ، فلا تكاد تراه إلا شحيحا، حريصا، ساقط الهمة، منحل العزمة، متكالبا على الجمع والمنع، متكاسلا عن البذل والنفع، فإنا لله وإنا إليه راجعون”.
وفي هذا المقال دليل واضح على صرامة الشيخ حتى مع أقربائه وخاصة الذين يفرطون منهم في طلب العلم اتكالا على شرف أنسابهم، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وكثيرا ما كان الشيخ يدعو أبناءه إلى ما يمكن أن نسميه “سياسة القصعة والدواة” أي الإنفاق والعلم كبديل عن الحسب والنسب حيث يقول : “بلغني أن جدكم سيد احمد البكاي سأله أبناؤه فقالوا يا أبانا إلى من تنتسب فقال غدا إن شاء الله أجيبكم عليه ،فلما كان في الغد وضع بين يديه دواة وقصعة وأشار إلى الدواة فقال هذا أبوكم وإلى القصعة فقال هذه أمكم، فمن استعمل منكم الدواة فاكتسب بها علما وعمل القصعة في الانفاق على الضيف و في سبيل الله فهو النسب الحسيب، ومن لم يستعملهما منكم فلا نسب له ولا حسب”.
وكانت زاوية الشيخ ككل زوايا المنطقة تبدأ بتدريس القرآن وكتب الفقه المالكي المتداولة كالأخضري، وابن عاشر، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل، وفي العقيدة كانت الزاوية تدرس عقيدة السنوسي، وإضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة لأبي العباس المقري، ودليل القائد في العقائد لمحمد صالح الأوجلي.
هذا إضافة إلى علوم القرآن والحديث واللغة العربية من نحو وبلاغة وكذا علوم الأصول والقضاء إلخ.
وقد كانت زاوية الشيخ تمتاز بالتصوف وتربية القلوب حتى تكمل الشريعة بالحقيقة وتجاهد النفس لتسمو بالمريد إلى مقامات المحبين ليزداد قربا من الله وانسلاخا من الدنيا، وكان العلم النافع في نظرهم هو ما “اكتنفته الخشية وغمره التقوى”.
هناك، كانت تقرأ الرسالة القشيرية، وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، والشفاء للقاضي عياض، والتشوف إلى رجال التصوف للتادلي، وعوارف المعارف لشهاب الدين السهروردي، والحكم العطائية، والصواعق المحرقة للحافظ بن حجر العسقلاني، وقواعد التصوف والنصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية لأحمد زروق، ومؤلفات الجلال السيوطي، و كتب الشيخ عبد الكريم المغيلي، والمواهب اللدنية للقسطلاني، والطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني…
يقول الشيخ سيد محمد “إن الشيخ الوالد رحمه الله، كان يدعو ويحث على تعلم علوم القرآن والحديث والأصول والفقه، ويعتبر علم التصوف ومعرفة علل النفس وعلاجاتها وكيفية الاذكار وخلواتها بعد أحكام فرض العين أهم من ذلك كله وأولى بالتقديم في هذه الأزمنة التي استولت الغفلة والإعراض عن الآخرة وعلومها على العام والخاص من أهلها فلا تكاد ترى لها ذكرا ولا إلى رسمها الدارس شامرا، ومن هنا كان غالب تآليفه في فن التصوف وما كان منها في غيره يظهر لك بديهة منه معنى الميل إليه وغلبته على كلامه ودورانه عليه”.
في هذا الجو الروحاني المفعم بالإيمان والإحسان يعكف الطلاب على دراسة سير العباد والصالحين من أمثال أويس القرني، وابراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي، وذى النون المصري، وأبى تراب النخشبي، وأبى يزيد طيفور بن عيسى البسطامي، وسهل التستري، والحسين بن منصور الحلاج، وأبى بكر الشبلي، ومحي الدين عبد القادر الجيلاني صاحب “الفتح الرباني والفيض الرحماني”، وأبى مدين الغوث…هم القوم لا يشقى جليسهم، نفعنا الله ببركتهم.
وقد تفرغ الشيخ رحمه الله للعبادة والتأليف في آخر سني حياته فخلف مئات المؤلفات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر “فقه الأعيان في حقائق القرآن”، “كتاب المنة في اعتقاد أهل السنة”، “الكوكب الوقاد في فضل المشائخ والأوراد “، “الذهب الإبريز ” وهو تفسير للقرآن الكريم، “نزهة الراوي وبغية الحاوي”، “الجرعة الصافية والنصيحة الكافية”، “جذوة الأنوار في الذب عن أولياء الله الاخيار”، “كشف اللبس فيما بين الروح والنفس”، “نفح الطيب في الصلاة على النبي الحبيب”، “هداية الطلاب في الفقه”، “فتح الوهاب على هداية الطلاب”، “فتح الودود شرح المقصور والممدود”…
وقد تخرج من هذه المدرسة الكثير من أعلام المشائخ الذين حملوا مشعل الدعوة في كل أرجاء الصحراء الكبرى وخاصة من الشناقطة نذكر منهم على سبيل المثال :
ـ الشيخ سيدي بن المختار بن الهيبه الذي رثى الشيخ سيد المختار الكنتي بقصيدة رائعة مطلعها:
يا روضة ينزوي عن زورها البوس وجارها بجوار الله محروس
وهو القائل في الخليفة:
طلعت ببرجك للبرية أسعد أيام جاد بك الزمان الأجود
والشيخ سيديا غني عن التعريف، فقد نشر الإسلام في كثير من مناطق غرب إفريقية وظلت زاويته في أبي تلميت حاملة مشعل العلم والدعوة إلى يومنا هذا.
ـ الشيخ القاضي بن الحاج الفغة؛
ـ الشيخ المصطفي بن الحاج الفغة ؛
ـ الشيخ سيد محمد بن امني؛
ـالشيخ أبات بن الطالب عبد الله؛
ـ الشيخ المختار السباعي؛
ـ الشيخ بابا الحي بن محمود؛
ـ الشيخ المصطفى بن العربي؛
وعلماء آخرون نذكر منهم : عبدي بن سيد أحمد، شماد، أحمد بن امينوه، محمد ويقي بن سيد الامين.
هذا وقد تكون في زاوية الشيخ أجيال من أبنائه وأحفاده نكتفي منهم بذكر الشيخ سيد محمد الخليفة، وابنه الشيخ سيد البكاي، والشيخ باي بن الشيخ سيد أعمر.
كان البرنامج في الزاوية شاملا لكل العلوم تقريبا لكنه يركز على تربية النفس وتدريبها على العبادة وحب الله وتكوين شخصية إسلامية قوية الإيمان بالله وذلك عن طريق ما يسمونه بالرياضة الروحية (وليست البدنية).
يقول الشيخ لابنه “إنك إن رضت نفسك على المحاسن وتجنب المساوئ قبل أن تجترئ عليها نجحت وهان عليك تحصيل العلم فإن الشاب تبدر إليه في شبيبته المساوئ فيغلب عليه ما بدر إليه فإن سبقها بالرياضة إلى نفسه فظلفها عن دواعي تلك المساوئ، وتزكت نفسه فاستفحل عقله، معتادا للخير، ساكنة إليه نفسه فتبعث العلوم من قلبه وتجري على لسانه وكانت التقوى له عادة وديدنا”.
وللرياضة عندهم جانبان فهناك الحث على الأعمال الصالحة وهناك التحذير من المعاصي وكل ما يتولد عنها من “علل رديئة كالهم، والغم، والحرص، وعدم الفهم عن الله، والغلظة، والرغبة، والجزع، والجبن، والبخل، والطمع، والهلع، والولع، والأشر، والبطر، والعجب، ورؤية الفضل على الغير، والحقد، والحسد، والبغض، وهجران المسلم لغير حق شرعي، والركون إلى الظلمة، والنظر إليهم بعين الإجلال، والتواضع للغني لأجل غناه، ومد البصر إلى ما أترف فيه، واحتقار الفقير، والرغبة عن مجالسته، وضيق النفس لأجل مسألته، ونسبتك المال إلى نفسك، والاهتمام بالرزق، واتهام الله في شأنه، والانهماك في تحصيله، والحزن لأمر الله، والفرح لزيد دنيوي، والتهاتر بحب الجاه في غير جنب الله، والرغبة في الرئاسة لغير إقامة الدين، والمهادنة، والتصنع للخلق، والخشية لغير الله، والكسل، والفشل، والرعونة، والمكر، والخديعة، إلى غير ذلك من الآفات التي لا تنتهي كثرة”.
وما كانت الزاوية لتنجح لو لم تكن هناك سياسة إنفاق سخية لاتستثني عن العلم وأهله مدخرا.
2- 2 سياسة الإنفاق:
كان قصر الشيخ مأوى المحتاجين في المنطقة كلها يفدون إليه فرادى وجماعات ، تعطى ولا تسأل تقرى مهما طال المقام، ولأهل قصر الشيخ نظرة خاصة للمروءة إذ يعتبرونها بالنسبة للدين بمثابة الرأس للجسد ويعتبرون “السرف في الضيافة من دلائل الشرف”، وقد ذكر لنا الخليفة من مروءة والده “إكرامه للضيف الإكرام الزائد، الدائم، المستمر، المستغرق لأنواع الكرامة من تلق وبشر وجائزة دائمة وخدمة وتأنيس، طالت إقامته أو لم تطل … سواء في ذلك عنده زمن العسرة أو الميسرة، بل يستأنس بتراكم الوفود ويتوحش لخفتهم”.
وليس هذا غريبا على الشيخ وهو القائل:
… وأن الجار ليس يبيت خلوا ونحن قدورنا ملأى تفور
وأن فناءنا للضيف رحب تبادره الكرامة والسرور
وأن الضيف لا ينفك يهوي إلى الساحات يجلبه الخبير
وأنا لا نرى الأرزاق إلا بكف مليكها الصمد القدير
ويوم لا نضيف به عبوس مرير في الحلاقم قمطرير…
ومن شدة ورع الشيخ أنه كان لا يدخر الهدايا المقدمة إليه من طرف الحكام بل يوزعها على المحتاجين حفاظا منه على طهارة ماله من كل شبهة ، وفي ذلك يقول الخليفة “وما يهدي إليه الظلمة والسلاطين من حيوان لا يستثمره ولا يبقيه فيما بين أيدينا من المال بل يصرفه في مصاريف بيوت الأموال فيقسمه بين الفقراء، والمساكين، وأبناء السبيل، والغارمين، والأرامل، والأيتام، وأنواع المداراة، والضيافات”.
هذا وللشيخ ترتيب خاص للمنفقين فهو يفرق بين السخي والجواد والموثر إذ يقول “من أعطى البعض وأمسك البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر فهو صاحب جود، ومن آثر غيره بالحاضر وبقي في مقاساة الحاجات فهو صاحب إيثار، قال تعالى “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”.
وهنا لا يسعنا إلا أن نشيد بالدور الأساسي الذي لعبته الشيخة الفاضلة أم زين العابدين رحمها الله ونفعنا ببركتها، إذ كان الشيخ يغيب لمدة طويلة ولا يتغير حال الإنفاق على كل من بالزاوية، وكانت الشيخة لال عائشىه رحمها الله آية في العلم والتقى ورقة المزاج تبكي لكل موعظة وتقول “إنما نحن غرباء بدار غربة والفقراء والمساكين حملة يحملون ما بأيدينا من دار غربتنا إلى دار أوبتنا ، والكيس من نقل جميع ما في الدار المنتقل عنها إلى الدار المنتقل إليها”.
وكانت رحمها الله من المواظبات على مراقبة تطبيق كل المبادئ الحميدة وخاصة حديث “لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ” ، وكانت رحيمة حتى بالبهائم “ترحم الحيوانات ولا ترى فرخ طائر بيد صبي يلعب به إلا رقت له وعزمت عليه في رده وتسريحه وإن رأت طائرا أو كلبا به عطش أمرت بحمل الماء إليه حتى يتناول منه” فما بالك برحمتها بالناس !
هكذا كانت سياسة الإنفاق في قصر الشيخ، قوامها الإيثار مأصلة في أسس الدين يتعاون عليها الشيخ والشيخة، وينادى بالصدقة في القصر عند كل فجر .
ولسنا هنا ببعيدين عن طريقة أبي العباس السبتي (شيخ سيد امحمد الكنتي) الذي يقول “إنما تكلمت عن العلة العظمى التي عمت وهي البخل” ويقول عنه ابن رشد “هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود”.
2 – 3 سياسة الإعمار:
كانت نظرة الشيخ إلى الدنيا أنها مطية الآخرة معينة على عمل البر وليست هدفا في حد ذاتها ولذا فقد تحمل نفقة حفر الكثير من الآبار لوجه الله تعالى ولا يريد من ذلك جزاء ولا شكورا ، فكان رحمه الله “يحفر الآبار الموات ليحييها للناس فينفق عليها النفقة الزائدة فيحفر البئر ويعمقه أربعين قامة ويتكلف القيام عليه والقعود حوله حتى يخرج ماؤه فلا يرد عنه وارد بل الناس فيه سواسية”، ومن وفر الماء في الصحارى القاحلة فقد وفر الحياة وساهم في إعمار الأرض .
وكانت له أموال كثيرة يعتني بها ويدبر شؤونها حتى يكون ذلك حماية لدينه وعرضه كأنما يتمثل بقول سفيان بن عيينة “من كان له مال فليصلحه فإنكم في زمان من احتاج فيه للناس كان أول ما يبذل دينه” وكانت أمواله من الحيوانات وخاصة الإبل، وقد عرف عنه الرفق بالحيوانات فكان يقوم على رعاة مواشيه بالتعقب والإرشاد .
ومع أن الشيخ كان يدبر أمر دنياه على أحسن وجه إلا أنه كان زاهدا فيها أشد الزهد حيث ينفقها في محالها ابتغاء وجه الله، ورعا في المعاملات يود لو كان هو الطرف الخاسر بدل الربح على حساب الآخرين، وهكذا “ما عقد عقد شركة بينه وبين أحد ولا عقد قراض، ولا نازع، ولا نوزع في دانق، وما أرفع أحدا، ولا اقتضى دينا له على أحد إلا أن يتطوع المدين بقضائه، وكثيرا ما يتبرع – رضي الله عنه – بالسماح للمدين والصدقة عليه بما في ذمته، وكثيرا ما يفلس المدين أو يموت ويترك متروكا أو لا يتركه فلا يسأل عما بذمته ولا يطالب به هو ولا ورثته بعده “.
وللإطلاع على مزيد من مناقب هذه الشخصية الفذة كان لابد من عرض بعض جوانب أخلاقه الرفيعة التي أعطى بها القدوة الحسنة لمجتمعه وما زلنا ولله الحمد نعيش على بقايا ذلك الإرث العظيم.
2 – 4 سياسة القدوة الحسنة:
كان الشيخ رحمه الله في منتهى الأخلاق الفاضلة في انسجام تام مع تعاليمه ودعوته وفي منتهى الزهد والتواضع والصبر والعفو عن زلات المسيئين والتغاضي عن هفواتهم والحلم والوقار والورع. يقول عنه الخليفة إنه “خرج من الدنيا وما لبس ثوب شهرة، ولا ركب مركب رفاهية، ولا جلس مجلس أبهة” بل كان رحمه الله مجاهدا للنفس، رافضا لخطط الرياسة والقضاء كلما عرضت عليه، لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، ومن قوله “الهمة باللباس والتأنق من شأن النساء”.
و كان رحمه الله كما وصفته “الطرائف والتلائد” رزينا “كثير السكوت لا يتكلم لغير حاجة تدعو للكلام، ولا يسرد الحديث بعجلة بل يتمهل فيه ليفهم عنه، كثير الإعراض عمن يتكلم بغير جميل لا يرضاه، فيعلم المتكلم بذلك – بإعراضه – أنه غير مرض عنده ، وكان مع وقاره وسكينته رضي الله عنه حلو الفكاهة، طيب الأخلاق، لين العريكة، يود مجالسه لو لم يفترق المجلس به، مهيبا في مجلسه لا يرد عليه “.
وكان ناسكا، عابدا، كثير الخشوع والمراقبة لله، ومما يروى خليفته أنه تأثر تأثرا شديدا عندما قرأ عليه من مناجاة ابن عطاء الله “إلهي حكمك النافذ ومشيئتك القاهرة لم يتركا لذي مقال مقالا ولا لذي حال حالا” وكثيرا ما كان يقول “الجاهل المغرور من استوطن السرور في دار الغرور “.
أما صبره فحدث ولا حرج، فقد صبر على ظلم الطغاة وحسد أولي القربى بل قد كان رحمه الله يوصي بالإحسان للحساد والمسيئين فيقول: “أكرموا هؤلاء أتم الإكرام وأجملوا إليهم فإن أولى من أكرمت أولي الضغائن والدخائل فإن يرد الله بهم خيرا سل الإحسان وجر صدورهم وإن يك غير ذلك كفى من شرهم وكان مداراة وغيظا يموتون به”.
وكان من مبادئه في الحياة اليومية امتثال قوله تعالى “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” (فصلت، 34)، فكان من تلك الفئة من عباد الله الذين ينظرون إلى الظالمين بعين الرحمة شفقة عليهم فيعفون ويدعون الله للمسيئين فانظر إلى كمال الأخلاق كما يصفه الخليفة : “لا تكاد تميز في مجلسه بين أولي عداوته وأولي مودته بل يخص العدو والشانئ بمزيد الإقبال الإكرام، ولا يعتب على مسيئ بعد تنصله، ولا يجفو عدوا ولا يعاقبه بعد الظفر به بل يجلس إليه ويلاطفه ويبر به غاية البرور ويحدب عليه إن كان ثم عدو يحاول التشفي منه، متقربا بذلك لرب العزة جل و عز، رغبة عن مقابلة الشر بمثله ويقول “ليس ذلك من شيم الكرام وإنما شيمهم الحلم والأناة والصبر والعفو”، وكان الصبر ديدنه المطبوع فيه، ما حفظت عنه قط زلة، ولا هفوة، ولا عجلة، ولاطيش، ولا استشاطة في غضب، ولا خروج عن حد الاعتدال والإستقامة والأدب في قول ولافعل”.
ومن المأثور عنه “حلم يعني صبرك خير من سفه يشفي صدرك” وعنه أيضا “أدرك الصابر مرامه أو كاد وفات المستعجل غرضه أو كاد “ومن رسالة له إلى ابنه سيد محمد :
“اثبت تنبت، وإياك والاستعجال فإنه حيض الرجال، وإياك والقنوط فإنه سبب السقوط، وإياك وسوء الظن فإنه من نزعات الجن، وعليك بحسن النية واليقين فإنهما أساس التوفيق وقواعد الدين”.
هذه بعض جوانب شخصية الشيخ رحمه الله الذي كان نبراسا لكل محبيه، ولا أبلغ من قول الخليفة عن سيرته العطرة “…وبالجملة فقد كان رضي الله عنه كثير الحياء ،قليل الأذي، قليل العناد، صادق اللسان، ثابت الجنان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، كثير البر، وصولا، وقورا، صبورا، كثير الرضى عن الله، شكورا، حليما، رفيقا بإخوانه، عفيفا، شفوقا، لا لعانا، ولا سبابا، ولا عيابا، ولا مغتابا، ولا عجولا، ولا حقودا، ولا حسودا، ولا متكبرا، ولا متعجبا، ولا راغبا في الدنيا، ولا طويل الأمل، ولا نواما، ولا غافلا، ولا مرائيا، يحب في الله، ويبغض فيه، ويرضى له، ويغضب له، زاده تقواه، وهمته عقباه، وجلسيه ذكره، وحبيبه مولاه، وسعيه لأخراه، وعمله لربه “.
3 – سياسة إصلاح ذات البين:
كان الشيخ رحمه الله مسكونا بهموم الأمة في زمن كثرت فيه الإضطرابات وانعدم الأمن وتغلبت لغة القوة وكثرت الصراعات الدموية ورجع المسلمون إلى الجاهلية يضرب بعضهم أعناق بعض من غير حق شرعي، فكان يعمل كل ما في وسعه من أجل “إطفاء الحرائق” (حسب مفهوم الشيخ عبد الله بن بيه) وشعاره “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها” فكانت وساطته التاريخية بين الرماة والطوارق لما حوصرت” تمبكتو” وكاد الناس يموتون من الجوع وكانت تدخلاته المستمرة في أزمات خلافة شيوخ الطوارق وأمرائهم، كما تدخل رحمه الله في فض النزاعات بين قبائل الصحراء الكبرى وذلك بكثير من الحكمة والسهر على إصلاح ذات البين .
وكان رحمه الله يداري عن عامة المسلمين ويجامل المستبدين في البلاد السائبة ليس خوفا منهم وإنما ” كسرا لشوكتهم عن عامة أهل الإسلام “.
وكان يدعو إلى الشورى كمنهج في تسيير أمور الناس ومن ذلك نصيحته المشهورة لجدنا “أحمد بن محم” الذي كان في جفاء مع بعض جماعته فتوسط الشيخ لإصلاح ذات البين وقال له : “الفردية لا تصح إلا للفرد الأحد فأي قوم كنت فيهم، علوا أو سفلوا، عقلوا أو جهلوا، اتخذ منهم رؤساء تستعين بهم على أمورك وتأخذهم على من سواهم من سفهائهم وربما أشار عليك منهم مشير برأي غاب عنك أو يطلعك على أمر خفى عليك” (الطرائف والتلائد)، وهي نصيحة شاهدة على أننا عرفنا نظام الشورى منذ قرون وليست الديمقراطية غريبة على ثقافتنا .
وفي الختام، هكذا كانت سياسة الشيخ مبنية على مبادئ سامية مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتسعى إلى تكوين مجتمع فاضل، مبني على العلم النافع وعلى تربية النفوس وتدريبها على الاخلاق الحميدة وأولها الإنفاق والبذل في سبيل الله والتكافل الاجتماعي حتى يعم الرخاء وتعمر أرض الله التي أورثناها، والسر في نجاح الشيخ أنه كان القدوة الحسنة في مجتمعه، تنسجم أقواله وأفعاله مما أعطاه بركة ومصداقية في المنطقة كلها فا ستعمل سلطته الروحية في الدعوة إلى الله وإصلاح ذات البين.
هكذا كانت سياسته رحمه الله وحق لنا أن نتساءل، هل ندري – نحن اللاهثون اليوم وراء السياسة بمفهومها المحلي- ماذا كانت مبادئ سياسة الشيخ الكبير كما نسميه؟ وهل نحن واعون لإرثنا السياسي؟ أم أننا نتخبط خبط عشواء لا ندري ماهي أهدافنا من السياسة وهل هي مطابقة لأخلاقنا؟ وما هي القواعد التي يجب أن تتحكم في أي عمل سياسي ملائم لديننا وشخصيتنا الثقافية؟
كلها تساؤلات مشروعة في زمن السرعة الذي تجري فيه الناس قبل أن تستبين الأمور فلا ترى منا حكيما يسأل عن الجار قبل الدار ولا عن الرفيق قبل الطريق.
وكلما ناقشت الشباب أشفقت عليهم من المسخ الثقافي، ولو سألت “النابتة” عن الشيخ سيد المختار الكنتي لما عرفوه، لا يدرون قطعا أي شيئ عن شخصيته ولا عن رسالته الحضارية !
فلقد أصبنا بتخلف ثقافي شديد –رغم حياة الحضر وتوفر الإنترنت- هناك تراجع خطير لثقافتنا المحظرية التى كان لها دور أساسي في تكوين الأجيال فلقد كان عمي رحمه الله يقرأ لنا “الجرعة الصافية” ولما نزل أطفالا، ويقرأ أمامنا “كتاب المنة في اعتقاد أهل السنة” فنفهم منه على حسب نضجنا الثقافي.
أما اليوم وفقد تنازلنا عن تربية الأجيال لنظام التعليم الرسمي وهو نظام ما زال يتلمس الطريق – بشهادة القائمين عليه– ومن مظاهر ذلك انتشار فساد الأخلاق والعنف بشكل مخيف فلنتدارك الأمور قبل فوات الأوان، وكل ما قيل عن الشيخ سيد المختار الكنتي ينطبق على عشرات الأئمة والمشائخ الذين كانوا قدوة في هذه البلاد وعمروها بالعلم والمعرفة والإيمان ونشروا الدين والاخلاق حتى طبعوا في شخصيتنا وعاداتنا كثيرا من الشيم وجبت المحافظة عليها حتى نرسخها في الأجيال الناشئة، فرحمهم الله وجزاهم عنا خيرا.
سيدأحمد ولد عبد القادر ولد خو البوسيفي الكنتي.
موظف بهيئة الأمم المتحدة، جنيف