كتاب”الدوائر السبع..”.. مجند أسود يروي قصة الاستعمار الفرنسي لموريتانيا ( 2 من 17)/ تلخيص الدهماء
……………………. عمد الفرنسيون الى تقسيم أرضنا في الضفة الى “كانتونات” (مقاطعات)، وفرضوا علينا الضَّرائب، اخضعونا وعرَّضونا للأعمال الشَّاقة في ورشهم، انتزعونا من حقولنا التي تتطلب الحراسة على مدار الساعة، وارغمونا عنوة على بناء الطرق والمباني، فخربت مزارعنا،.. استغلوا عضلاتنا لبناء قوتهم وتغذية حروبهم.
كل المنشآت التي ترك المستعمر من المباني الى سكة الحديد ارغمنا على تشييدها بسواعدنا في ظروف أسوأ من العبودية، كنا بلا طعام حتى،.. كان لزامًا على كل فرد منا احضار قوته اليومي، وحين نتقاعس عن تلبية أوامرهم.. نضرب!.
نفق بعضنا في الورش،.. إذا لم يكن عدد الرجال كافيا لإنجاز أعمالهم يشغَّلون النساء والأطفال،.. لقد سخَّرونا لمشروعهم الاستعماري في ظروف سيئة ليوفِّروا لأنفسهم ظروفًا مريحة.
بنينا الطُّرق لسياراتهم، وسكَّة الحديد لبضائعهم، وأعْمدة التَّلغراف لاتصالاتهم،.. كنا نجذب الزَّوارق من النَّهر بعضلاتنا لنُرسيها على اليابسة، ثم نقوم بحملهم وحمل أمتعتهم على رقابنا، ..
لم نكن قبلهم نعرف العُملة، ولم نكن بحاجةٍ إليها، أصبحنا نستنزفُ قدراتنا لتحصيل العُملة، لندفع ضرائب المستعمر المُجحفة،.. محصولنا من الزراعة موجه تقليديا لتغذية الأهالي و بالكاد على امتداد السنة، لكنهم أرغمونا على بيع جزء منه من خلال نقاط بيع أقاموها لنُسلِّمَ لهم القيمة المالية سدادًا للضرائب،.. ثم جلبوا معهم بعض الكماليات تَعوَّد عليها الأهالي مع الزّمن فأصبحت جزء من ضرورياتنا.
كان المَهْر يُدفَع من خيرات الطبيعة، فأصبح يُدفع مما يَجلبُ المستعمر من قماش و بضائع،..
نَصَّبوا علينا زعاماتٍ موالية لهم، مثل “بَيْلا بيرانْ وانْ”.. لقد ساعدهم هذا الرَّجل في قهر تمرد “البيظان”،.. وكسب ثقتهم بشططه و بتجاوزاته اتجاه السكان..
كان ” بيْلا وانْ” وراء اكتتاب و جلب العديد من أبناء الضفة عنوة خلال حرب فرنسا الثانية سنة 1939م ، تعامل مع زعماء القرى بالرَّشوة والتَّرهيب، كما زرع الفرقة بين القروِيِّين وسَمَّمَ علاقاتهم ببعضهم بالنَّميمة والوشاية والخسِّة،..
كان يجبر المُمتنعين عن دفع الضرائب على البقاء طيلة اليوم تحت أشعة الشمس الحارقة، بلا ماء،.. س كان “بيْلا” العميل، آفة معدية، و كانت هذه بداية تفتيت وتآكل قوة واتِّساق عرقية “هلايبه” في الضِّفة…
وجد جِيلي أمامه مدرسة فرنسية في “بوكَي”،.. كان المُستعمر يتعامل مع مترجمين.. لكنه بدأ يستميت لفرض لغته على الناس، ثم في الإدارة والجيش.
أجْبَر الفرنسيون زعماء القرى و الأهالي على تسليمهم لوائحَ بأسماء الأطفال البالغين لسِنِّ التَّمدرس، وطالب بإرسالهم إلى مدرسة “بوكَي”،.. لمَّا وصلوا لأخذي إلى المدرسة، خادعهم والدي وقدم لهم عبْدًا صغيرًا بدلا مني. و كان مبعث رفضه دينيا بحتا.
كان والدي ” تيرنو” من طائفة “التيجانية” (Thierno ، تيرنو: فقيه عارفٌ باللغة العربية والعلوم الشرعية، وجمعهم Sernabé سيرنابي، وهم عادة من الأحرار النبلاء).. كُنَّا نتفرَّغُ لحفظ القرآن والعلوم العربية من صِغرنا، ونتسمَّى “طالبه”، نحفظ القرآن على سبع سنوات نظرا لعائق اللغة، في حين تمتد المعرفة المُعمَّقة لعشرين سنة، ومن يرغب منا في الاستزادة يلتحق عادة بأحد العلماء الكبار في موريتانيا أو في السنغال،.. ومن بيْنِنا من سافر إلى فاس للالتحاق بدائرة “الشيخ أحمد التيجاني”، ومناَّ من توجه الى القاهرة.
الشائع أن “طالِبَهْ” يطلبُ الصدقة أثناء تَعلُّمه،.. هذه العادة ليست اعتباطية،.. ما يقوم به ” طالِبهْ” هو تدريب مُتَعَمَّدٌ منَّا على التواضع وليس فِعل إذلال.
أما بخصوص تعليم النَّصارى، فقد دارت نقاشات معمَّقة أيَّامنا داخل الطوائف الدينية حول الموقف المطلوب اتجاه المدرسة الفرنسية ، واتجاه المستعمر المسيحي.
وحصل انقسام حول الموضوع داخل الطائفة “التيجانية” نفسها،.. كان على “الهلايبة” إمَّا أن يتَّبعوا رأي “الشيخ مختار ساخو” وهو أحد أعلامهم الكبار في “بوكَي” ، و متفاهِمٌ جدًّا مع الفرنسيين، أو أن يلتفُّوا حول رجال ورعين من أحفاد “الشيخ عمر تال”.
لقد أرهق “الحاج عمر تَاْل” الفرنسيين حين أرادوا الاستقرار بالدَّاخل الإفريقي.. يجبُ أن تكتبي قصَّته في هذا الكتاب فهو بطلنا الوطني، و أغلب شيوخ “التيجانية” في موريتانيا والسنغال من أحفاده.
ولد “الحاج عمر” بِ “فوتا” في قرية قرب “بودور”، رحل طالبا للعلم الى مكة والمدينة والقاهرة وهناك درس مع تلميذ مُقرَّب “للشيخ أحمد التجاني” ، مؤسس الطريقة “التيجانية”، و الذي زاره الرسول عليه الصلاة والسلام في اليقظة، وهو استثناء.
فنقل تلميذ “الشيخ التيجاني” في مكة الى “الحاج عمر تال” تعاليم الطريقة، و عينه خليفة، وبعد عودته الى الضفة تبعه العديد من عِرقية “هلايبه” المحاربة، فغزى بهم مجاهدا وفاتحًا بلاد ” الفوتا جالون” (غينيا)، ثم مالي ومن هناك جلب مجموعة من الأسرى الوثنيين هم أجداد عبيدنا الحاليين.
وقف ” الشيخ عمر تال الفوتي” في وجه المستعمر، ورفض سلطة المسيحيين على المسلمين، لكن ميزان القوة لم يكن متعادلا بينه وفرنسا،.. قاتل بشراسة حتى آخر جهد، ثم اختفى خلال إحدى المعارك ولم يوقف له على أثر أبدا حتى اليوم،.. انقسم اتباعه من بعده بين مناهض رافض للمستعر آثر الهجرة نحو الشرق، كما طلب منهم شيخهم ” الحاج عمر” في حال ما إذا كانت الغلبة للنصارى،.. وبين معين متحالف مع المستعمر بحجة أنه أعان على استتباب الأمن والسَّكينة بين العرقيات في الضفة،..
بسطت فرنسا نفوذها على الضفة ، وفرضت لغتها ونمط حياتها ، أخذتنا رهينة لأعمالها وجيشها وأخذت أطفالنا لمدرستها، و انقلبت الموازين الاجتماعية في وجه النبلاء شيئا فشيئا مع استفادة أبناء العبيد من التعليم الاستعماري!.
…………………
يتواصل بإذن الله تعالى
…………………
ملخص من كتاب ” Les sept cercles, Une odyssée noire “، ” الدوائر السبع، ملحمة سوداء”، رؤية أحد ” الرماة السود” من مجتمع ” الهالبولار” الموريتاني لواقع استعمار موريتانيا، صدر سنة (2015م)، بالتعاون مع خبيرة الأنثروبولوجيا ” Sophie Caratini ” ، نشرته مطابع ” Thierry Marchaisse “، بفرنسا.
457 تعليقات