كتاب “الدوائر السبع” (5 من 17)..”الرماة” فداء للجنود الفرنسيين في الحرب.. لؤم المستعمر/ تلخيص الدهماء
بعد عودة المحاربين القُدماء، الذين شَعَروا بالخديعة وكَذِب المستعمر وعدم مبالاته بهم، ذكروا بأن أداء الفرنسيين في الحرب لم يكن رائعًا، كانوا يُلقون بِ “الرماة السود” في الخطوط الأمامية للجبهة، وخلال الإنزال على الشاطئ لاستعادة فرنسا من الألمان، أُنزِل السود أولاً، ومكث الفرنسيون في البحر ينظرون إليهم من خلال بوارجهم، و أثناء تقدم “الرماة السود” لحظة الإنزال كانت أجسادهم تحت رحمة وابل من القاذفات الألمانية، فُقَدَ الكثير.. الكثير.. من “الرماة”، ..مات الكثير من أبنائنا على ذلك الشاطئ، و بعضهم أصبح أعْرجًا والبعض أصيب بالجنون ، كانت النَّظرة سلبية جدا للجيش الفرنسي العنصري.
كان التَّجنيد في الضِّفة أسوأ على حقولنا من انحباس الأمطار واجتياح الجراد.
لم تكن الحرب الجديدة في أوربا فقط، كانت أيضا في افريقيا ، حضرتُ هجوم داكار، كان مرعبًا، فُتحت أبوابُ جهنَّم علينا ليومين، الطائرات تُبادل البوارج الحربية القصف في طنين كالنحل المَسْعور ، القنابل تنفجر في ” Cap Manuel ” وفي جزيرة ” Gorée ” حيث تنتصب المدافع الثقيلة، الدُّخان يتصاعد من البحر، لم تكن ألمانيا.. قيل لي إنَّ المعركة بين فرنسا وانجلترا ، نحنُ نتفرج فقط، فالصراع لا يعني لنا الكثير، لكن فهمنا طبعا من ذلك الهجوم لماذا تعذَّرت عودة أبنائنا الذين اسْتُجلبوا للحرب ضِدَّ أعداء فرنسا.
في محطة القطار ساقونا كالبهائم تمامًا مع بقية المُعتقلين للتَّجنيد، وحشرونا في العربات كنا مذعورين، وكان معي صديقي “همت لو”،.. تحرك القطار نحو “سين-لوي”، بادرْنا الى الدعاء و كنتُ أتساءل في صمتٍ أي وجهة حدَّدَ لِيَّ القدر في هذا السفر القسْري؟ .. هل ستكتبُ لِيَّ العودة إلى قريتي يومًا؟.. قد لا أعود، لا حيًّا ولا ميِّتًا!.. حدَّثنَا القُدماء من المحاربين أن الفرنسيين لا يعيدون جثامين الجنود الأفارقة ولا يبلِّغون ذويهم بموتهم ، فيصبح الأمر مجرَّد اختفاء..
تولى استجلابنا وحراستنا في العربات عساكر و”رماة سود” من مختلف جنسيات غرب افريقيا ، اضمرتُ الاستغراب من خبث الفرنسيين ، وإلا فكيف بهؤلاء السود يقودون أبناء جلدتهم عِنْوة الى الموت المحقَّق على يد “البيض” من المستعمر؟. فهمتُ في ما بعد أنه تأثير العقيدة العسكرية.. الجندي عليه الطَّاعة العمياء للأوامر مهما كانت وعدم طرح الأسئلة.
وصلنا “سين-لوي” ليلاً، و جَرُّونا الى باحة بناية كبيرة، و أمرونا بالإضجاع في انتظار ترتيبات بقية الرحلة الى “بوكَي”.
كانت لدينا فكرة عمَّا ينتظرنا في “بوكَي”،.. تعذيبٌ وسَجْنٌ وأعمالٌ دونية عقوبة على الهروب من التجنيد ، وكنا نشعر بجرج كبير في الكبرياء، خصوصا أن هذه الإهانات ستمارَسُ علينا في مجتمعنا التقليدي…
هناك في قرانا كانوا يصطادون الرجال وقت الفجر يُودِّعهم عويل النساء وبكاء الأطفال،.. وتُقدم لذويهم التعازي فورًا و على امتداد ثلاثة أيام بوصفهم موتى مفترضين مسبقا….
في “سين-لوي” حيث جلبنا وفي الجانب الآخر من ساحة البناية العسكرية لَمَح صديقي ” همَّت لُو” مجموعة من الشباب تنتظر أمام طاولة صغيرة وكرسي،.. فهمنا أنه ربما اكتتاب للجيش الفرنسي ، استفهمنا من أحد الموجودين فأكَّد الأمر… حينها عرض علي صديقي أن نغافل الحرس بذريعة التوجه للمراحيض ونلتحق بصف المصطفين للتجنيد و نقطع الطريق على ترحيلنا الى “بوكَي” ،.. نفَّذنا، ونجحت خطتنا ولم يترَدَّدْ الطبيب الفرنسي الشاب في اختيارنا بفعل قوتنا البدنية المُلفتة وقاماتنا الفارعة، خصوصا أني كنت أمارس المصارعة التقليدية… إذن لقد انتقلنا بفضل من الله عزَّ وجلَّ في لحظة من معتقلين الى “رماة” في الجيش الفرنسي، استجاب الله دعواتي.
البسونا بدلة عسكرية ضيقة واحذية ثقيلة متعبة.. والقوا علينا خطابا طويلا لم نفهم منه شيئا.
…………………
يتواصل بإذن الله تعالى
…………………
ملخص من كتاب ” Les sept cercles, Une odyssée noire “، ” الدوائر السبع، ملحمة سوداء”، رؤية أحد ” الرماة السود” من مجتمع ” الهالبولار” الموريتاني لواقع استعمار موريتانيا، صدر سنة (2015م)، بالتعاون مع خبيرة الأنثروبولوجيا ” Sophie Caratini ” ، نشرته مطابع ” Thierry Marchaisse “، بفرنسا.
تعليق واحد