تلخيص كتاب “الدوائر السبع” بقلم الدهماء (8 من 17): ينام الفرنسيون على أسرة في خيمهم و”البظان” مرتاحون مع أسرهم و الرماة “السود” عبيد ينامون على الأرض
…………………………… يُحدثنا الفرنسيون دائما عن الأعداء، يبذلون المستحيل ليبقونا على درجة مرتفعة من الخوف من هجوم مباغتٍ في أي وقت، لا يتركونا للحظة بدون نشاط.
يظل الجندي الأسود مجرد عبد مهما ترقَّى في سلم الجيش الفرنسي،.. كان يرتدي بدلة مُميَّزة مع نطاق أحمر، وشاشية حمراء،.. حيث ينام وحيث يأكل كان مختلفا، فهذا زمان “البيض” وهم متفوقون علينا، خَلقوا التَّفاوت، لم يعتبرونا بشرا عاديين،.. الفرنسي جندي وأنا جندي، له الحق في التَّمتُّع بخيمة وسرير ، أما أنا “الرامي الأسود” فعلي أن أنام على الرمل، لقد جعلت منا الخدمة الاستعمارية عبيدا بحق “للبيض”…
كل مساء على الجندي الأسود حفر خندق لقضاء الليل مُمسكا بجعبة بندقية موجهة للعدو المحتمل، أما الآخرون فلهم مأوي.. ويغطون في النوم المريح،.. الفرنسي يسكن خيمة كبيرة و مريحة،.. و “كَوميات” – وهم كلهم من “البيظان”- يعيشون مع أسرهم في مخيمهم الخاص على مسافة من “المربع العسكري”، فهم ليسوا من العسكر،.. خلال أربع سنوات نمت نصف مدفونٍ في الرمل ألتحف السماء! … أربع سنوات كحيوان في مغارته في الحر، في البرد، في العواصف!..
أحيانا يقع بعض التمرد حين تفقد ابعض العناصر القدرة على الاحتمال، و غالبا ما يتحول إلى كارثة.
أتذكر سنغاليا من “اللوكَة” يدعى “مامادو سي”، عَثَر في “المربع العسكري” على بعض الخمر، وشرب حتى الثمالة و بدأ في سب رؤسائه… فعاقبه الضابط المشرف بالحجز في عزلة في العراء عدة أيام،.. وبما أنه لا لا يوجد سجن طبعا في البادية، وضع بين حارسين، غافل حراسه و دفعهما وانتزع منهما بندقية و خمس خراطيش، ثم عاجل الضابط الفرنسي، و أطلق عليه النار لكنه لم يصبه،.. أطلق رجليه صوب الصحراء، تعقَّبه الضابط الفرنسي ومجموعة من “الرماة” و “كوميات”، حاولوا إعادته لجادة الصواب، أطلق النار ثانية تحذيرا للضابط الفرنسي الذي أصيب بالفزع ، فأمر الرماة بتصفيته فورا، أصيب الجندي في البطن وتدفَّقتْ أمعاؤه للخارج…كانت رسالة للبقية!
كانت ظروف الخدمة فوق التَّحمل وصحراء “البيظان” قاسية جدًّا، لكن قَدَرنا كان أرحم، فنحن على الأقل نأكل على حساب الجيش الفرنسي في محيط يموت جوعًا،.. صادفني في تنقلاتي بين المخيمات أشخاص في غاية الهزال، أطفال ببطون منتفخة كبيرة ، ونساء بأذرع نحيلة.. ونحيفة جدا.
فصل الشتاء رديف للجولات الكبرى في الصحراء، نتفقد حدود موريتانيا، ذهبنا حتى حدود الجزائر ومالي واسبانيا و حتى البحر غربا ، رحلاتنا أغلبها ننفذها سيرا على الأقدام، نسير في متاهات لا تنتهي من “تيندوف” الى “الشكَة”، في حرارة جهنمية و فوق أذرع من الكثبان الرملية اللينة التي تكاد تبتلعنا في كل خطوة ،.. شرق “آدرار” ليس بحاجة للحراسة العسكرية، تتكفل الشمس والحرارة والطبيعة القاسية بالمهمة بجدارة، تحمل الإبل المؤونة والأسلحة ويوكل “لكَوميات” مهمة الاستطلاع عن بعد لتحسيسنا بأي خطر طارئ.
في الوقت الذي نبدأ فيه جولتنا الكبرى يتنقل المخيم أيضا بحثا عن مناطق الكلأ المناسبة ثم نلتقي هناك.
يتولى “البيظان” رعاية الإبل وتوجيهنا للمراعي ونقاط الماء،.. لا يعطى المستعمر للجندي الأسود فرصة تعلم أي شيء عن هذه الأمور، لم تكن روابطنا “بكَوميات” وثيقة،..
تُريدينَ انطباعي عن “كَوميات”؟.. أنهم ليسوا شيئا يذكر!،.. هم مجرد رعاة جهلة، مُهمَّتُهم الاهتمام بقطعان الإبل، و توجيهنا للمراعي نظرا لخبرتهم بالأرض، ونحن السود كان تواصلنا معهم قليلا جدا. فهم منفصلون عنا في مخيمهم، نختلف في العادات، يعتبرون أنفسهم من المحاربين، وهذا انطباع ذاتيٌّ منهم عن أنفسهم، فعلا لديهم بنادق لكنهم لا يتولون مثلنا توفير الأمن وحراسة الحدود.
البيظان في “فرق البدو” عددهم محدود بالمقارنة مع “الرماة السود”، ولم يتعلموا مهنة الجندي بحرفية وتدريب، ولا يعرفون التعامل مع الأسلحة المختلفة، الثقيلة خصوصا، “البيظان” كانوا جاهلين لكل شيء.
خلال أربع سنوات من الخدمة لم أر طفلاً واحدا من “البيظان” يتعلم القراءة،.. ولا طفل واحد.. لا يَدْرُسُون، إنهم أمِّيُون تمامًا، لا يستطيعون زرع الأرض ولا البناء ولا التَّصْنيع!.
لا يعرفُ “البيظان” إلا التِّرحال مع مواشيهم، وقد اكتتبهم المستعمر لهذا الغرض،.. أحيانا فقط يطلب منهم الفرنسيون في المناسبات الكبرى إجراء عروض بالإبل ، لكن “الرماة السود” بإمكانهم أيضا انجاز نفس العروض بأسلوب أكثر اتقانا،.. “البيظان” لا يمتلكون حس النظام، لم يُعلِّمهم الجيش الفرنسي أي شيء.
فترة بعد ذلك صادفتُ بعض المتعلِّمين من “البيظان” لكن خارج مُخيَّمِنا.
أثناء تريُّضنا في فسحتنا لا يسمح لنا بالاقتراب من مخيم “البيظان” أو مشاركتهم أفراحهم ومناسباتهم،.. قد نلقي عليهم فقط السلام كمسلمين لا أكثر، وأثناء احتفالاتنا لا يحق لنا دعوتهم ولا يحق لهم التَّفرُّج علينا عن قرب… لقد اجتهد المستعمر في أن يجعل بيننا حاجزا متينا ولم يسمح لنا بنسج علاقة طبيعية تُقاربنا.
في جولاتنا التَّفقُّدِية في الصحراء يتولى “كَوميات” حراسة محيط القافلة، لإنذارنا في الوقتِ المناسبِ خوفاً من المباغتة، “فاركَيبات” متخصصون في مباغتة الوحدات الاستعمارية،.. لا نوقد النار في الليل خوفا من لفت انتباههم، هاجسنا الأكبر كان الحدود مع اسبانيا،.. لم أكن خائفا،.. صاحبني إيماني ودعواتي في كل خطوة،.. كان بعض “الرماة السود” يتحصنون بالطَّلاسم، وبعضهم يَحْتمي بقرون المواشي المحشوة بالطلاسم ، خصوصا “الرماة” من الوثنيين.
بعد جولة التَّفقد الكبرى، يمَّمْنا صوب “تكَانت” التي سبقنا إليها مخيمنا مع “فرقتنا البدوية”،.. عدنا سالمين بعد طول غياب ..الى مخيمنا، استقبلنا المُخيَّم استقبال الأبطال بالزغاريد والرقص، نظَّمنا احتفالا كبيرا، وحاولنا تناسى الإنهاك وعذاب الرحلة،.. كانت عيون “الرماة” تلمع في بهجة فقد عادوا الى حيث حضن النساء والتَّرفيه،.. كمَا سيلتقي “كَوميات” بأسرهم،.. وكذلك.. تبدأ نساء “البيظان” تسكُّعهن الإعتيادي ليل نهار في اتجاه الضُّباط الفرنسيين!.
…………………
يتواصل بإذن الله تعالى
…………………
ملخص من كتاب ” Les sept cercles, Une odyssée noire “، ” الدوائر السبع، ملحمة سوداء”، رؤية أحد ” الرماة السود” من مجتمع ” الهالبولار” الموريتاني لواقع استعمار موريتانيا، صدر سنة (2015م)، بالتعاون مع خبيرة الأنثروبولوجيا ” Sophie Caratini ” ، نشرته مطابع ” Thierry Marchaisse “، بفرنسا.
تعليق واحد