موسي جيبي يحكي عن البظان الذين لم يستطع فهمهم وعن زواجه باثنتين رغما عنه (تلخيص كتاب”الدوائر السبع” بقلم الدهماء 11 من 17)
………..بعد أشهر حوَّلنِي قريبي “الرقيب-أول وانْيْ” الى شرطة المدينة، كُلِّفتُ بالسهر على احترام القانون، والتَّحقق من الهويات، و مراقبة المرور،.. كان عليه تحويل سَلفي “الحسين بوباكار” ليحابيني بهذا التعيين رغم أن سلفي أرفع منِّي رتبة!.
كنتُ ألعبُ دور الشّرطي والجمركي والدَّركي ، كنتُ بمفردي فبقية الحرس يعملون في البادية، قَنَّن الفرنسيون التجارة “بكيفه”، وحرَّموا بعض المبادلات، على أيَّة حال بعض قرارات المستعمر كانت عبثية، و مستحيلة التطبيق عمليا.
كنت أتغافل عن بعض الإجراءات التعجيزية، وكان ذلك محل تقدير من التجار، فيمنحوني بعض الإكراميَّات،.. قالبُ سكر، شاي، قماش، أهديها لزوجة قريبي” الرقيب-أول كيدجيلي وانْيْ”،
يحترمني “البيظان” نعم،.. لكن لا يعني ذلك أني أقمتُ معهم علاقة حقيقية، لم يدعوني يوما الى منازلهم، اقتصرت العلاقة على شؤون العمل في دكاكين السوق،.. أو اللقاء في المسجد، كنتُ أقرب إليهم و أنا في “فرقة البدو” ، لم أستطع فهم نمط حياتهم لا في المدينة ولا في البادية،.. لا نأكل نفس الأطباق، لا تتشابه عاداتنا في اللبس، لهم قِيَّمهم الخاصة بهم ، لم أستطع استيعاب نظامهم ولا أساليب أعمالهم.
كنت أؤدي “الوظيفة التيجانية” مع بعض “البيظان” من أتباع الطائفة يوم الجمعة ،.. “الوظيفة” مجموعة من الابتهالات يردِّدها المريد بعد الصلاة ، تبدأ بطلب العفو من الله عز وجل، تلك هي المرحلة الأولى و الضرورية للتَّطهر ويُراد بها سعادة الدَّارين،.. ثم الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كَشفَ عنها الرَّسول عليه الصلاة والسلام “للشيخ أحمد التيجاني”، وضَمِنَ لأتباعه دخول الجنة إن هم اتبعوا هذه التعاليم،.. ينتقِدُنا بعض المسلمين لهذا الأمر، وفعلا من بين “التجانيين” من يتصَّور أن الانتماء للطائفة يكفي للعبور إلى الجَنَّة ، هذه حماقة، فالأمر يتطلب احتراما لتعاليم الدِّين، ثم نردِّدُ 12 مرة جوهرة الكمال،.. تُنَظم الوظيفة حول رداء أبيض يمثل الطُّهر ويُذكِّرُ بالكفن، تجار “البيظان” من “التيجانيين” كانوا أصدقائي، لكنه كما قلتُ لكَ لم يدعوني يوما الى شرب الشاي معهم، إنهم لا يحبون الاختلاط بالحرس،.. “البيظان” يفضلون الانزواء مع بعضهم.
مرَّت حياتي في “كيفه” بشكل طبيعي حتى اليوم الذي طلبوا يدِي للزواج!،.. كانت “بِنْتَا” سيدة جميلة جدا، مطلَّقة، تعيش مع أخيها زميلي في الحرس” عليون كونكو”، كنت منجذبًا لها، و أظنُّ كذلك أنِّي أعْني لها شيئًا،.. طلبها زميلٌ آخر لم يكن أخوها راغبًا في تزويجها منه،.. فلجأ إلَيَّ الأخ لإنقاذ الموقف و قطع الطريق على الخاطبِ المُحرج،.. ألحُّوا عليَّ كثيرا وبرَّرُّوا كثيرا،.. كنتُ على وشك استقبال زوجتي الصَّغيرة “رَامَا” من الضِّفة،.. لكنَّ زميلي ضيَّق عليَّ الخناق و الضغط بالوساطة، وصَعُبَ عليَّ أن أكْسِر خاطره.. ومع أنِّي رفضتُ في البداية، غير أن “بِنْتَا” تستهويني.. و كنتُ عاجزًا عن مقاومة نظراتٍ ترميني بها خلسةً… اعترضَ قريبي ” الرقيب-أول وانيْ” على الزواج،.. بل غضب و أخذ مني موقفا متشنجا.. خالفتُ إرادته مرغمًا و هو أمر مشين في عادات أهل الضفة.. فهو في مقام الأخ الأكبر، لكنِّي كنت متحفِّزا ومنجذبًا.. فتزوَّجتُ “بِنْتَا”.
في اليوم المُوالي لزفافي و بعد ليلتي الأولى مع عروسي، وصل شقيقي ” آمادو” و ” شقيقتي ” جاينابا” رفقة طفلة صغيرة لم أكن قد رأيتها من قبل، ولم تكن سوى زوجتي الموعودة “راماتا ديالو”..آي! … لم أكن أنتظر هذا أبدًا. عروسين في 24 ساعة.
لقد سافروا مسافة طويلة، أخذتْ منهم أسابيع، ليجمعوني بعروسي “رَاماتا”.. لقد عاشتْ الصغيرة مع أسرتي قرابة السنتين بعد أن انهوا جميع مراسيم الزواج في غيابي، و كان عليها الالتحاق بي في مَقَرِّ عملي “بكيفه”،.. لتجدني في حضن سيدة أخرى!.. كان الوضع غريبًا، أتزوج اثنتين في وقت واحدٍ، و”أستهلكُ” الثانية قبل الأولى!… إنه العالم بالمقلوب.
انزوت “راما” في ركن تنظر الى الأرض في خجل، فقد كانت صغيرة، لكنها لطيفة .. تجشَّمت الصغيرة عناء الرحلة ركوبا على الإبل وسيرا على الأقدام.. قضت الليالي في العراء تحاصرها أصوات المفترسات، وحين تصل وجهتها تجد زوجها – الغريب عليها- عريسًا!
لو كانت أخرى غيرها، لكانت غضبت قطعا وعادت الأدراج ، لكن ” راماتا” كانت غاية في اللطف والوداعة فلم توجه لي أي عتاب.
توجهتُ الى القائد ” سيمْبيرْ” التمسُ مفاتيح السَّكن الخاص فسلَّمني إياها بسرعة، أعطاني كوخين،.. فحضَّرتُ غرفة على عجل لِ “راما” ، وقضيتُ معها ليلتي الأولى لم يكن في مقدوري أن أفعل غير ذلك.
المسلم الجيد مطالب بالعدل بين زوجاته،.. خصصتُ يومًا وليلة لكل واحدة منهما، ومن عادات التَّعددِ أن التي يأتي دورها تُعدُّ الطَّعام، وتستريح الأخرى، غالبا تتولَّى الأولى القيادة بحيث تكون الأسن ولكن في حالتنا كان الأمر معكوسا!، كانت الطفلة “راماتا” هي الأولى! ..
أتقنتُ معرفة الاثنتين مع الزمن، لكن “رما” كانت صبورة حنونة … يمكن للرَّجل أن يقسِّم وقته بين زوجاته، وأن يحبَّ واحدة منهن أكثرَ ، لكنَّ قلبه سيميلُ لإحداهِنَّ ، ولا يملك في الأمر شيئًا ، والله وحده المُدير لدفَّة قلبهِ.
كان كل شيء يسير على ما يرام خلال خدمتي في “كيفه”، أمتلكُ قطيعًا من الماشية يهتم به شقيقي الأكبر، وبيتًا مع زوجتين و الكثير من الهدايا من تجار “البيظان”، إلى أن حدث ما لم يكن متوقعًا.
…………………
يتواصل بإذن الله تعالى
…………………
ملخص من كتاب ” Les sept cercles, Une odyssée noire “، ” الدوائر السبع، ملحمة سوداء”، رؤية أحد ” الرماة السود” من مجتمع ” الهالبولار” الموريتاني لواقع استعمار موريتانيا، صدر سنة (2015م)، بالتعاون مع خبيرة الأنثروبولوجيا ” Sophie Caratini ” ، نشرته مطابع ” Thierry Marchaisse “، بفرنسا.
212 تعليقات