تلخيص كتاب”الدوائر السبع،” (12 من 17) بقلم الدهماء..”الرامي الأسود” من خدمة حاكم موريتانيا إلى مكة
……………………………كان عليَّ كل يوم المشاركة صباحًا في حفل رفع العلم، طلبتُ من زوجتي “راما ” احضار القبعة فصادف أن كانت متسخة، فاعتمرتُ “شاشية الرماة السود” (طاقية حمراء) ، وحين التَّجمع عند العلم اقترب مني قريبي “الرقيب-أول وانْيْ” وصفعني فجأة حتى انحنيتُ!،.. التقطتُ “الشاشية” وقبل أن أستوعب الموقف صفعني ثانية بقوة!،.. صُعقتُ.. وبردَّة فعلٍ تلقائية ضربتُه بعقبِ البندقية مرَّتين حتى سقط،.. صرخ أفراد الحرس، و هرع إلينا قائد الكتيبة،.. اسْتفسرَ عن الأمر ثم أمرِ بزجِّي في السجن.
بعد ثلاثة أيام استدعى القائد الجميع،.. وبدأ في استجوابي أمامهم، نفوا جميعا معرفتهم بدوافع الحادثة، وجَّهَ القائد الكلام للرقيب مستفسرا عما إذا كان قد أنذرني قبل الصَّفع بعدم استخدام “الشاشية” بدل القبعة، فأجاب بالنفي، حينها نهض القائد عن مقعده واتجه صوب مكتبه وأحضر رسائل كان “الرقيب-أول واني” قد بعث بها إليه، وكتبَ في إحداها: «.. رجاء تحويل “موسى جيبي” إلى مركز آخر، فهو لا يؤدي خدمته على الوجه المطلوب، وبدلا من مراقبة التجارة، وتوطيد الأمن يقضي يومه في التَّسكع بين مخادع المومسات » ، ثم تابع القائد،.. « استعْلَمْتُ من تجار السّوق، ونفوا لي مزاعمك اتجاهه، و أُبلُغكما أن مشاكلكما الداخلية لا تعني الجيش الفرنسي».
ساد الصمت وذُهلنا ، طلبتُ من القائد تحويلي حتى لا أقتل “الرقيب-أول” أو العكس، و وعدني بالنظر في الأمر، خمَّنت أن الأمر قطعا له علاقة بزواجي من المليحة “بِنْتَا” عكس إرادته.
بعد يومين أصدر القائد قرارا بتحويل الرقيب-أول إلى “سيلبابي” وبتحويلي ” سين-لوي”،.. كنتُ محظوظا جدًّا، فالخدمة في ” سين-لوي” عاصمة موريتانيا تعتبر امتيَّازًا كبيرا.
انتقلتُ برفقة زوجاتي إلى “سين-لوي” وفيها وَلَدتْ “راما” ابنتنا الأولى ” آيْسَاتا” سنة 1948م ، كنتُ أقيم في بيت صغير على ضفَّة النَّهر غير بعيد من إقامة الحاكم، عُيِّنْتُ في خدمة “حاكم موريتانيا”، و يسمَّى ” لكَري” Legret” كنت بوَّابه أدقق في الداخل و الخارج.
أصبتُ بزحار حاد ” الدَّزنتاريا” ، و تعرَّضْتُ لاعتداء من لصٍّ أسقط أسناني الأمامية، أرسلَ إلي والدي أحد فقهائنا ليقنعني بضرورة التَّخلي عن الخدمة في الجيش الفرنسي والعودة إلى البلد، على اعتبار أنها تُفَوِّتُ عليَّ أوقاتَ الصلاة!،
لم أكن مقتنعاً جدا بهذا التبرير، ومع ذلك استجبتُ وعدتُ.
مارستُ الزراعة فترة وكان العائد شحيحًا ولا يكفي لسد خَلَّة زوجاتي وابنتي، فقررَّتُ ممارسة التِّجارة، تنقَّلتُ بين “روصو” و “اندر”، وعدتُ الى “كيفه” وجرَّبتُ منها جلب الماشية لمحيط النهر،.. جرَّبتُ السفر أبعد، إلى ” خاى” وهناك التقيتُ أحد عبيدنا الذي نصحني بالتوجه الى “نيورو” في مالي فهي واعدة بتجارة أفضل، ذهبتُ من غير هدى هذه المرة، أمضيتُ ثلاثة أشهر، مرِضتُ و ضعفتُ ، رفضتُ الاستشفاء على أيدي “البامبارا” ، فجُلُّ قُدراتهم العلاجيَّة تستندُ على السحر والشعوذة…تعالجت على يد أحد المشايخ من أحفاد “الشيخ عمر تال” يدعى “تيرنو هادي تال”،.. رجل عالم، تقي..
غالبا ما يختار “الهلايبه” المرشد الديني من الأسرة الدينية العريقة “تال”،.. تعافيت وعادت إليَّ شهيتي وتنبأ لي شيخي بأن سفرا طويلا ما زال ينتظرني!.
بعد فترة فقدتُ أي شعور بالحنين اتجاه اسرتي و قريتي “سايي” التي كانت تسكنني في السابق طيلة غربتي، لم أعد أملك أي إحساس اتجاه “فوتا” ولا أتعجَّل العودة إليها.. لرؤية أسرتي وزوجاتي وابنتي.. أمر غريب!.. لقد اجتاحتني الرغبة في التَّمادي في المجهول، و هناك حيز مكاني ما ينادي علي… أين هو؟.. لست أدري!
انطلقتُ مع العبد “صيدو ديام” باتجاه أعالي النهر نقود قطيعا من الضَّأن، الى أن وصلنا إلى تقاطع “بافينغ” و”باكون”، منبع نهر السنغال،.. بحيرتان تندفعان من مرتفعات “فوتا جالون” لتبعث الحياة في نهري الجميل. ثم نزلنا باتجاه غينيا، وكانت غينيا أيضا تابعة لفرنسا.. ثم الى قرية “سيركَي”.. هناك كان سعر المواشي أفضل. “سيركَي” على ضفة النيجر وهي عاصمة التنقيب عن الذهب وقتها، .. الحُفر منتشرة في كل مكان ،.. الرّجال يحفرن ، والنساء يغسلن التراب المستخرج،.. ومع ذلك كان المظهر السائد لا يوحي بالثراء، بل يشي بحالة شديدة من الفقر و البؤس،.. قرَّر رفيقي “صيدو” البقاء في القرية لتجربة حظه مع الذهب في حين صمَّمتُ على متابعة الرحلة،..
الشائع عندنا أن المناجم خطيرة، مأهولة بالجن ويحرسها،.. فالذهب ملك للجن، وقطعا لا أرغب في مصارعته،.. فقررتُ متابعة الرحلة في اتجاه فولتا العليا (بوركينا فاسو الآن) حيث علمتُ بالصدفة بوجود قريب لي،.. استبدلتُ عائد بيع ماشيتي بالذهب ويممتُ “بوبو-ديولاسو” بفولتا العليا.
في السوق تصادفتُ مع أفراد من قريتي ” سايي” يعتزمون الحج، صِحْتُ!،.. مكة!،.. هذه هي الرحلة الموعودة إذن!،.. هي الرحلة التي تنبأ بها شيخي “تيرنو هادي تال” لم أتردَّد، . بعتُ قطعة من الذهب و التحقتُ بركب الحجيج.
خرجنا من فولتا العليا باتجاه النيجر، كنا سبعة شبان ، أمضينا ليلة في “انيامي” و اتجهنا صوب نيجيريا المستعمرة من طرف الإنجليز، هذا الطريق آمن، في الشمال تسود الصحراء ، والسود لا يحبِّذون المغامرة في بلاد الناس التي تسافر على الإبل،.. ليس ذلك من الحكمة.
كان علينا الالتفاف حول بحيرة اتشاد ، ثم عبور كل الأراضي السودانية للوصول الى البحر الأحمر، ومن هناك نأخذ البواخر من “بور- سودان” الى جدة،.. إذا أراد الله سلامتنا، فقد كان البحر يعُجُّ بالقراصنة، ثم بعد ذلك نسافر رفقة قافلة إبل الى مكة.
…………………
يتواصل بإذن الله تعالى
…………………
ملخص من كتاب ” Les sept cercles, Une odyssée noire “، ” الدوائر السبع، ملحمة سوداء”، رؤية أحد ” الرماة السود” من مجتمع ” الهالبولار” الموريتاني لواقع استعمار موريتانيا، صدر سنة (2015م)، بالتعاون مع خبيرة الأنثروبولوجيا ” Sophie Caratini ” ، نشرته مطابع ” Thierry Marchaisse “، بفرنسا.