بين”مايدوكَوري” ومكة.. زيجات ومصالح.. تلخيص كتاب”الدوائر السبع” بقلم الدهماء (13 من 17)..
……………………………السفر الى ” مكة” طويل وشاق، و يتطلبُ الكثير من الشجاعة، وقد ذابتْ مدَّخراتي من الذَّهب حين وصولي الى “مايدوكَوري” “Maidougouri ” في شمال نيجريا، كانت مكة ما تزال بعيدة، وكان عليَّ أن أتوقَّف هنا، و أؤخر مشروعي إلى حين ميسرة.
النيجيريون يتقاطعون مع الجيش الفرنسي في عقلية أن كل قادم من غرب افريقيا هو سنيغالي، و بالنسبة لهم كل “الرماة السود” هم رماة سنغاليون، أقمنا عند وجيه معروف في المدينة من أصل مالي ، مشهور بالكرم وحسن وفادة الحجيج، استقر به المقام في نيجيريا في إحدى رحلات العودة من الحج، و أصبح ذا مال و شأن يدعى “مامادو كيتا”، كان عليَّ أن أعمل مجددا لأتمكن من مواصلة رحلتي لمكة، منحني “كيتا” قطعة أرض للزراعة اشتغلتُ فيها فترة،..
تنبه “كيتا” – الذي تقدم به العمر- الى نزاهتي و اخلاصي في العمل، واتقاني لعدة لهجات افريقية، خصوصا أن محيطه الضيق بدأ يتكالب على ماله، ويخدع عملاءه من وراء ظهره، له ابنة وحيدة و بلا ولد ذكر، ..
عرض عليَّ ” كيتا” الإمساك بدفاتر الحسابات والزواج من ابنته، و وعدني بمساعدتي في أداء الحج، قبلتُ العرض بعد تردد.
مضت عليَّ سنة في نيجيريا، شيدتُ بيتا بمجهودي، أقمتُ فيه مع زوجتي ونسجتُ علاقات طيِّبة مع المحيط، وبدأتُ في الاستزادة من العلوم الدينية على أيدي كبار علماء “التيجانية”
بعد سنوات أثمر عملي بشكر كبير، لم تُنجب زوجتي فأخذتُ أخرى، ثم ثالثة،.. كانت مقدرتي المالية تسمحُ لي بذلك،
ظلت علاقتي برئيسي والد زوجي جيدة إلى أن توفي سنة 1957م،.. و قد أوصى المقرَّبين منه أن أظل قَيِّما على أعماله حتى بعد موته.
قررتُ الحجَّ، ذهبتُ الى “لاكَوس” بالقطار ومنها أقلتني الطائرة الى جدة سنة 1957م الموافق 1376هـ ، لم يكن عدد الحجيج السود وقتها كبيرا، التأمتُ مع أبناء الطائفة “التيجانية” فقد كانوا الأقرب إليَّ، كان من دواعي غبطتي أني سأحملُ لقب “الحاج موسى جيبي وانْيْ” إلى آخر أيامي.
السّعوديون، حراس الأماكن المقدسة، يَجْنون أموالاً طائلة من الحج، هم في الغالب من “الوهابيِّين” لديهم تصور خاص للدِّين يصعبُ على الآخرين استيعابه ،.. مثلا قاموا بهدم أضرحة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى أفراد أسرته،.. ففي البقيع حيث دفنوا، لا نرى إلا حجارة تحت الشمس، صخور سوداء على أرض جرداء،.. محزن جدا!.
الظاهر أنهم أرادوا حتَّى هدم ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم، فبالنسبة لهم قبرُ صالحٍ أو مُسْلمٍ رفيعٍ، لا يجب أن يكون محلَّ تبجيل. هذه أفكارهم ويريدون فرضها،.. يُكسِّرون،.. يهدمون،.. ونحن لا نفهم شيئا.
قيل لي أنهم ضيَّعوا مَعالِم قبر أمُّنا حوّاء في جَدّه التي كانت قائمة وقتَ زيارتي لها، سامحهم الله.
بقيتُ أمارس أعمالي في نيجيريا -التي استقلتْ سنتين بعد عودتي من مكة- حتى سنة 1989م، كنتُ معروفًا ب “موسى سنغال”، صقيل الاسم، ممثّل رسميّ “للبولار” الأجانب لدى السلطات النيجيرية، انتسبنا لحزب “شيهو شاكاري”، رجل سياسي من “البيل” ( الفلان) لكنه تمكَّن من حشد “الهاْوسا” ” Haoussas” ( أهم المكوّنات العرقية في نيجيريا ولديها تمازج عرقي مع الفولان، وتدعى أحيانا هاوسا-فولاني)، انتُخِبَ رئيسا سنة 1979م، أغلب الذين عاصرتُهم من الرُّؤساء – غيره – وصلوا للسلطة بانقلاب وتَغْلبُ عليهم الدّكتاتورية، وبعد انتخابه أصبحتُ مواطنًا نيجيريًا أتسمى “موسى مختار”،.. مختار اسم جدي لأمي،
نيجيريا بلد معقّد، و يعرفُ أحيانا عنفًا شديدًا بسبب النِّزاعات العرقيَّة البينية، ربطتني علاقات طيبة مع العرب “الشوا” حتى أني تزوجت منهم.
كانتْ حياتي الأسريَّة أقل استقرارا من حياتي العَمليَّة، تعرضتُ لاختباراتٍ صعبة في عائلتي، تزوجتُ الكثير من النساء، فقدتُ الكثيرات بفعل المرض والولادة، كُنَّ من العرب و”البيل” و “الكانوري” و “الهاوسا”، وأخريات، إضافة الى الأولى “البمبارية”.
رزقتُ بخمسة أطفال من “البولارية عيشتا” و خمسة من “العربية جَيْنَبَا” وسبعة من “الكونارية فاتيماتا”، وفقدت اثنين.
أجمع أحيانا أربع زوجات، كما يسمح القرآن، وأقَسِّمُ وقتي يومًا وليلة لكل واحدة منهنَّ، لكن لكل واحدة لغتها، عاداتها طريقتها في الطبخ، ولذلك ارْتفعَ رصيدي في التخاطب إلى أربعة عشر لغة.
بعد أربعين سنة في نيجيريا، عاد بي الحنين فجأة إلى أرض أجدادي… استيقظتُ ذات صباحٍ مع تشنج في الرَّقبة ، لم يكن في الأمر ما يشير الى خطورة،.. لكن الحالة تفاقمت ، فقدتُ طاقتي مع الوقت، بدأ المرض ينتصرُ عليَّ شيئا فشيئا الى أن تيبس كامل جسدي، أصبحتُ شبه مشلول، بدأتْ أعمالي تتدهور، العمَّال الذين درَّبتهم واحتضنتهم وفتحتُ بيوتهم ولَّوْني الظهر، وانفضَّ الصحبُ من حولي، لم يعدْ يزورني أحد من المحيط الكبير الذي كنتُ أتحرك فيه، اكتشفتُ أن الرَّابطة التي راهنتُ عليها كثيرا لم تكن تتجاوزُ المصالح الآنية الشخصية، … كنت حزينا جدا… قَهَرني تنكُّر العُمّال والأصدقاء.
…………………
يتواصل بإذن الله تعالى
…………………
ملخص من كتاب ” Les sept cercles, Une odyssée noire “، ” الدوائر السبع، ملحمة سوداء”، رؤية أحد ” الرماة السود” من مجتمع ” الهالبولار” الموريتاني لواقع استعمار موريتانيا، صدر سنة (2015م)، بالتعاون مع خبيرة الأنثروبولوجيا ” Sophie Caratini ” ، نشرته مطابع ” Thierry Marchaisse “، بفرنسا.
124 تعليقات