“شارع العرب” في برلين.. صدام بين عالمين
برلين (رويترز) – خلال الحرب الباردة لم يكن شارع سونينالي لافتا للنظر باستثناء وجود نقطة تفتيش تجذب الانتباه في عيد القيامة وحسب حين كان سكان برلين الغربية يزورون أقاربهم في شطرها الشرقي.
واشتهر الشارع الذي أطلق عليه اسم ”بيروت الصغيرة“ بمتاجره اللبنانية ومقاهيه التي ينبعث منها الدخان ويتسلل منها صوت الأغنيات العربية القديمة.
ثم في 2015 دبت في الشارع الحياة من جديد. فقد حول تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين، معظمهم من سوريا، شارع سونينالي إلى أحد أكثر الشوارع ازدحاما في العاصمة. واليوم تمر حشود المتسوقين من أمام الأكشاك التي تبيع الخضر والفاكهة.
يعلن متجران للحلويات عن الوجود السوري، هما ”إدلب الخضراء“ في الطرف الشمالي الغربي و“دمشق“ إلى الجنوب الشرقي. بات شارع ”بيروت الصغيرة“ يعرف باسم ”شارع العرب“.
وتعيش في برلين جالية عربية منذ 1960 حين دعت ألمانيا الغربية آلاف المغاربة ليكونوا ”عمالا ضيوفا“ للمساعدة في إعادة بناء اقتصاد البلاد بعد الحرب. وفي الثمانينيات وأوائل التسعينيات وصل عشرات الآلاف من المهاجرين اللبنانيين واللبنانيين من أصول فلسطينية بعد فرارهم من الحرب الأهلية في لبنان. يعيش هؤلاء في مجتمعات موازية وقلما اندمج هؤلاء المهاجرون العرب مع جيرانهم الألمان. وتشير بيانات حكومية إلى أن معدلات البطالة مرتفعة بين الرجال بينما يعيش ثلث النساء على الإعانات الاجتماعية.
ودفع قرار المستشارة أنجيلا ميركل عام 2015 استيعاب أكثر من مليون مهاجر التحديات المتعلقة بالاندماج إلى الصدارة وقلب الساحة السياسية الألمانية رأسا على عقب. ونتيجة للمشاعر المناهضة للمهاجرين صعد حزب البديل من أجل ألمانيا إلى المركز الثالث في الانتخابات عام 2017. تقول رشا الخضراء وهي مدونة سورية على موقع يوتيوب تبلغ من العمر 42 عاما إن الأجيال الأسبق من المهاجرين العرب في أماكن مثل سونينالي هم عادة الأكثر استياء من الوافدين الجدد ”أكثر من الألمان“.
ومن بين نحو 695 ألف مهاجر تقدموا بطلبات لجوء في ألمانيا عام 2016 حصل أكثر من 62 في المئة على وضع لاجئ أو على حماية إنسانية وهو ما مكنهم من العمل والحصول على إعانات الرعاية الاجتماعية وفقا لما ذكره المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين. وكانت النسبة أعلى بين مقدمي الطلبات من سوريا إذ بلغت نحو 97 في المئة.
على النقيض وقبل عشر سنوات كان أقل من سبعة في المئة من مقدمي طلبات اللجوء في ألمانيا يحصلون على وضع لاجئ.
ووجدت دراسة أجرتها جامعة بيلفيلد عام 2016 أن أكثر من نصف المهاجرين المستقرين منذ فترة طويلة في ألمانيا يعتقدون أن الوافدين الجدد يحصلون على الكثير.
هدي زيدان (46 عاما) سورية من أصل فلسطيني تعيش في برلين منذ 25 عاما وتعمل ممرضة متخصصة في رعاية المسنين ”الحكومة فتحت آفاقا جديدة للاجئين.. آفاقا لم نرها“.
تقول هدى إنها جاءت إلى ألمانيا مرافقة لزوجها. وأضافت أنه لم يكن مسموحا لها بالعمل لثلاث سنوات كما لم يكن يحق لها الحصول على إعانات الرعاية الاجتماعية، وفي اختلاف عن الوافدين في يومنا هذا كان عليها أن تسدد رسوم دروس تعلم اللغة الألمانية.
قالت هدى ”حين رأيت ما حصلوا عليه تمنيت لو كنت لاجئة“.
* ”ربما كانت الحياة شديدة القسوة“
من بين الوافدين إلى سونينالي عمار قاسم (34 عاما) الذي كان يكسب قوته في دمشق من بيع الدواجن للمتاجر والمطاعم. غادر سوريا في سبتمبر أيلول 2015 ووصل إلى ألمانيا بعد ذلك بشهر بعدما سافر عبر تركيا واليونان وشرق أوروبا.
في صيف 2016 فتح قاسم مطعما للشاورما وغيرها من الأطعمة الشامية. واليوم أصبح مطعم الدمشقي الذي يملكه قاسم أحد أكثر معالم شارع سونينالي شعبية. يتنقل الندل السوريون جيئة وذهابا بين أسياخ اللحم المشوي والطاولات الممتلئة عن آخرها. ويقف الزبائن في طابور ليأخذوا طلباتهم إلى المنزل.
لكن العمل لم يكن بهذا المستوى طوال الوقت. يتذكر قاسم أنه حين قدمت فرقة سورية للموسيقى الشعبية عرضا احتفالا بافتتاح المطعم اشتكى الجيران للشرطة من الضوضاء. وقال إن عصابات من العرب طلبت منه إتاوات لحمايته لكنه رفض الدفع. ثم في أكتوبر تشرين الأول 2016 هدد ملثمون العاملين بمطعمه.
وأكد عدة سكان صحة روايته. وقال أحدهم إن من المستحيل أن يفتح الوافدون الجدد أي نشاط تجاري في سونينالي دون ”الموافقة غير الرسمية للمهاجرين الأكبر سنا المستقرين منذ فترة طويلة“. وقالت شرطة برلين إنها ليس لديها سجل بوقوع حوادث عند الدمشقي لكنها أضافت أنه لا يتم الإبلاغ عن كل المشاكل.
وقال قاسم ”أدركت أنني بحاجة لمن يدعمني ويحميني“.
ساعدته أسرة لبنانية من المهاجرين الأسبق في العثور على مكان جديد لمطعمه وشاركته في مشروعه الناجح الآن.
وعمل أحمد رزو (32 عاما) صرافا في مطعم الدمشقي لأكثر من عام. يقول إنه يستطيع تمييز المهاجرين القدامى من الجدد من الطريقة التي يطلبون بها الطعام. ويكون السوريون أكثر ودا عادة. يقول رزو ”ربما كانت الحياة هنا شديدة القسوة عليهم (المهاجرين القدامى) ولهذا أصبحوا بهذه الصورة“. كان رزو يدرس في دمشق ليصبح مهندسا زراعيا قبل فراره من البلاد عام 2015.
*المصلح
في سونينالي، أصبح منصور عزام المنتمي للجيل الأقدم من المهاجرين أشبه بوسيط للسلام. يناديه السكان المحليون بلقب الحاج. كان عزام هو من ساعد قاسم مالك المطعم حين كان يبحث عن مكان جديد.
ولد عزام قبل 50 عاما في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان قرب مدينة صيدا الساحلية. يقول إنه حين كان في الثانية عشرة من العمر أصبح مقاتلا من أجل القضية الفلسطينية. وصل إلى ألمانيا في 1996 وطلب الحصول على وضع لاجئ سياسي.
ويعيش حاليا في شقة في سونينالي تعلو متجر بقالة ومطعما شرق أوسطيا يمتلكهما. ويبيع متجر عزام كل شيء من الجبن اللبناني إلى المخللات السورية. ويقبل الألمان والعرب على المطعم.
وفي غرفة المعيشة بشقته، قدم عزام القهوة والحلوى السورية وفاكهة على مائدة دمشقية. وعلى التلفزيون كانت قناة تلفزيونية عربية تبث أخبارا من الحرب السورية.
وقال ”عندما أتينا إلى هنا، لم يكن معنا أي شيء. افتتحت أعمالا كانت مطلوبة. بدأت بمخبز للخبز العربي. لم أعمل بالتجارة من قبل قط. كنت قضيت كل حياتي كمقاتل أحمل بندقيتي وأجلس في المعسكر“.
يقول عزام إنه حين بدأ طليعة اللاجئين السوريين الوصول إلى برلين كان هناك ”ارتباك وصراع“. كان أصحاب المتاجر القدامى والسوريون الذين أقاموا مشاريع جديدة يتشاجرون. وقال عزام إنه أنشأ لجنة من أصحاب المتاجر لحل المشاكل. يجتمعون مرة شهريا ويتواصلون من خلال مجموعة على تطبيق واتساب.
والآن يسعى لتشكيل لجنة للمطاعم العربية بعد أن فتح أكثر من 12 مطعما سوريا في العامين الأخيرين. وأضاف ”أخبرتهم بأننا إذا لم نعمل معا فإننا سنخسر جميعا“.
واتسع نطاق نشاط عزام مع مجيء اللاجئين الذين أصبحوا يمثلون جزءا كبيرا من موظفيه وزبائنه أيضا. وأكثر من نصف العاملين لديه البالغ عددهم 235 من سوريا.
والنهج الذي يتبعه عزام نادر.
يشتكي المهاجرون العرب والمسلمون الأقدم من أن الوافدين الجدد ”متحررون أكثر من اللازم“. في 2009 اعتبر أكثر من 80 في المئة من المهاجرين المسلمين من الشرق الأوسط أنفسهم ”متدينين جدا“ أو ”مؤمنين حقا“ وذلك وفق بيانات حكومية .
وقال رائد صالح وهو سياسي ألماني من أصل فلسطيني وعضو في الحزب الديمقراطي الاشتراكي في برلين إن نظرة المهاجرين العرب الجدد للوطن تختلف عن القدامي.
وأضاف ”من يعشون في ألمانيا منذ 40 عاما ولا يزورون بلدهم الأصلي إلا كل عامين لمدة 15 يوما لديهم فكرة مختلفة تماما عمن غادروا لتوهم“.
وعبر محمد الطويل وهو مهاجر لبناني عاش في برلين 40 عاما ويملك دارا للنشر في منطقة نويكولن عن دهشته من اختلاف النساء السوريات الشديد عمن يظهرن في مسلسل باب الحارة وهو مسلسل سوري شهير تدور أحداثه في أوائل القرن العشرين.
في المسلسل تغطي النساء وجوههن ويلزمن منازلهن.
قال الطويل ”هناك الكثير من المثليين من الرجال والنساء بين الوافدين الجدد. لم يكن هذا موجودا في مجتمعنا من قبل. لم نكن حتى نسمع بذلك“.
جاء الطويل إلى ألمانيا الغربية في 1975 هربا من الحرب الأهلية اللبنانية ودرس الصحافة. حكى كيف بدأ من الصفر كطالب ثم صاحب عمل.
يقول ”لقي السوريون معاملة مختلفة عنا حين جئنا. يسمح للسوريين بالدراسة هنا على حساب الحكومة للمدة التي يريدونها… حصلوا على تصاريح إقامة. حين جئنا إلى هنا لم يعطونا تصاريح إقامة. أتدري كم عانيت إلى أن حصلت على هذا التصريح“.
أخطاء الماضي
احتست هدى زيدان الممرضة قهوتها في مقهى تركي بمنطقة كرويتسبرج حيث تعيش في برلين. وبعد قضاء أكثر من 20 عاما في المدينة تتحدث الألمانية بطلاقة، لكنها تقول إنها برغم ذلك لا يمكن أن تقول ذلك بثقة كاملة. وتقول ”أتحدث الألمانية جيدا“.
تقول ”أدفع أكثر من ثلث دخلي حتى يعيشون. الكثير من الألمان يحسدون اللاجئين على وضعهم“. وأضافت ”حين جاء اللبنانيون إلى هنا لم يحصلوا على الحقوق التي يحصل عليها اللاجئون اليوم“.
قال أندرياس جيرمرسهاوزن مفوض الاندماج والهجرة بمجلس الشيوخ في برلين إن ألمانيا تعلمت من أخطاء الماضي وإن السياسات تركز الآن أكثر على الاندماج.
وسعى قانون بدأ سريانه في 2005 إلى تشجيع هذا من خلال تنظيم دورات لتعليم الأجانب لغة ألمانيا وتاريخها وثقافتها.
وقال جيرمرسهاوزن ”برلين تعلمت من الماضي“.
وأضاف أن الاستياء ليس من العرب وحسب وإنما من جماعات أخرى مثل الروس الذين جاؤوا إلى ألمانيا في التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ومضى قائلا ”يقولون لي أمرين: الظروف بالنسبة للوافدين الجدد أسهل منا كثيرا وبالنسبة لنا هذا جاء متأخرا جدا“.
لكن جيرمرسهاوزن قال إن عدم توفير أوضاع مريحة نسبيا للوافدين الجدد ليس حلا. وأضاف ”إذا صعبنا على المهاجرين الحاليين دخول سوق العمل فإننا نصنع ديناميتا وسيعني هذا أننا لم نتعلم من أخطائنا“.