تحقيقات ومقابلات
من أعلام الأعلام/ محمد محفوظ أحمد
من بلدة “كامور”… كان رفقائي ثلاثة شبان أكبرهم لم يكمل العقد الثاني من عمره، ولديهم من الحمير ستة، وضعوا على كل واحد منها جورب دقيق (حوالي 40 كلغ).
وفد أبديت تحفظا على حمل حقيبتي الكبيرة على الحمير وذلك لقلقي على بعض محتوياتها التي من بينها أجهزة التسجيل والتصوير؛ قد تتكسر إذا سقطت فأخسر كل شيء دفعة.. غير أني، ما دمت أخفي كل ذلك، والحقيبة بهذا الحجم، لم يكن بوسعي أن أرد معروفا بحملها مع الدقيق على الحمير؛ وكذلك فعلت شاكرا بعدما استخرجت إحدى الكاميرات ، من باب الاحتياط.
هناك مسافة 12 كلم يتعين علينا أن نقطعها على طريق عادية، عبر مصب كبير يسمونه “غمبل”، قبل الوصول إلى سفح الجبل ـ ثغر تـﮔانت ـ
كان الركب يسير حثيثا: “عر.. عر..!”. وكنا نركب حينا ونترجل أحيانا لتغوص أقدامنا مع حوافر الحمير في رمال بعض الأحقاف، أو بين حشائش “إنيت” المفترسة!
في حدود الساعة الواحدة ظهرا وصلنا سفح الجبل؛ وهنا بدا لي ما كانوا يرددونه من تجاوز الكدية كالأسطورة… بل مستحيلا! لأن الجبل يرتفع شاهقا أمامنا، وليس به أي طريق أو خط للصعود!.
لقد فهمت الآن أهم سبب لاعتمادهم على الحمير دون الجِمال مثلا… ذلك أن معبر الجبل، من الصعوبة والارتفاع هنا بحيث لا يصعده إلا بعض الحمير المحلية المدربة على ذلك!
كنا نصًّعد بين الصخور على السفح… إلى أن وصلنا إلى المأزق أو “الخنـﮓ”، وهو نقطة العبور أو عقبته الأولى التي يسمونها ـ على سبيل التسلية ـ “أﮔـراج”!
هنا توقفت الحمير تلقائيا، وأزيحت عنها الأحمال، ليعاد وضعها وشدها على مقدم ظهورها بشكل أكثر تخفيفا وتوازنا.
وأخذ كل واحد منا حظه من حمولة البهائم على كاهله أيضا! بينما كان كبير الشبان يرسم خطة العبور، بله الصعود والطيران بالنسبة لما يبدو لي!:
كل واحد من الشبان الثلاثة مكلف بمرافقة حمارين اثنين ومراقبة حمولتهما؛ بينما كان علي ـ أنا الغريب ـ أن أتبع خطوات “القافلة” بحذر شديد؛ أنوء بحقيبتي التي ندمت على ما كان من ثقلها!
لقد فوجئت بعد لك بما للحمار من قوة، واكتشفت أنه فعلا حيوان جبار، يختزن طاقات لم يظهرها قبل اليوم! لقد رأيت كثيرا من الحمير، وشاهدت ما تبذله في نواكشوط ـ مثلا ـ في جر براميل الماء والبضائع تحت سياط زبانية لا دم فيهم، ولكني لم أشاهد ولم أتصور الحمار يبذل مجهودا بهذه القوة والتصميم الرائع… لقد تحول إلى مخلوق آخر من فصيلة “الهيلوكبتر”: خفيف لا أثر للكسل في حياته؛ يلتمس موطأ حافر فوق الصخور الناتئة، ويففز من فوق صخرة منحدرة إلى أخرى فوقها…!
والحقيقة أن المشكلة هنا ليست فقط في صعوبة وخطورة “التزحلق” على الصخور الملساء والحجارة المترنحة، فوق هوة تزداد فظاعة وهولاً كلما ابتعدت عنها والتفت؛ حيث لن تفكر في التراجع مطلقا!… ولكن المشكلة أيضا في خطورة التيه والمحاصرة؛ فلا يوجد طريق ولا مخلص، وأنت معلق بين السماء والأرض عبر آلاف الصخور والمرتفعات المتشابهة التي لا نهاية لها…!
ومع ذلك تواصلت عملية تسلق الصخور. والحمير بحمولتها في قفزات جريئة متلاحقة لا تخلو من سقطات مخيفة، بين أمل ويأس… والجميع ـ بشرا وحميرا ـ يتصببون عرقا، والأرض من خلفنا تزداد بعدا وضآلة…
جرى ذلك على مدى ساعتين يلغنا بعدهما القمة؛ فإذا الأرض تمتد أمامنا بإهاب جديد جميل، تكسوها مع الصخور النباتات والأشجار… بحيث نسينا بسرعة أننا صعدنا أصلا إلى هذا المكان!”
كان علي بعد أن بلغ أولئك الرفقاء مقصدهم أن أواصل الرحلة، من الغد، وحدي لساعات إلى حي تلك المحظرة عبر وادي “ﮔـلاﮔـة” الموحش والمدهش!
*
هذه مقدمة تحقيق مصور ومطول نشرته مجلة “الشعاع” في عددها الخامس (1987م) عن محظرة العلامة الحاج ولد فحفو في منطقة “ﮔـلاﮔـه” المنعزلة في وعـر من جبل تـﮕـانت. وكان ذلك ـ حسب ما علمت ـ أول اتصال إعلامي بتلك المحظرة العلمية الكبيرة، والتعريف بشيخها الذي هو فريد عصره وبقية السلف الصالح في هذه البلاد.
وقد رأيت حين عثرت قبل ايام على ذلك العدد، أن اقتطف منه تعريفا موجزا عن تلك المحظرة الجامعية وشيخها حفظه الله، الذي بذل عمره في التعلم والتعليم لوجه الله تعالى. خاصة بعد تقريها وتوقف شيخها عن التدريس.
كتبتُ يومها عن تلك المرحلة الأخيرة من الرحلة الطويلة:
“… انطلقت بمفردي، بعد أخذ إرشادات الطريق، في اتجاه “ﮔـلاﮔـة” التي قيل لي إنها تبعد مرحلة “مقيل” أو أقل. وكان علي أن أسير عبر سهل ينساب بين سلسلتين جبليتين، ينتهي طرفه الشمالي بـ”غليـﮓ” (سدّ) “ﮔـلاﮔـة” (…).
إن السير في هذه الطبيعة الخلابة (النظيفة) يبدو شيئا جميلا أكثر من كونه رياضة. وخط السير واضح مضبوط بهذين السدين الجبليين.
والآن فإن مخلوقا غريبا يطلق صوتا غامضا يبدد الصمت المطبق على الطبيعة! هذه مجموعة من القردة البرية تقطع الوادي أمامي في تجاه العدوة الأخرى (…) كان سربا من حوالي عشرين “خميسا” (قردا) يتقدمها قرد ضخم تبدو عليه معالم الزعامة بوضوح! وقد توقفتْ لحظة لتتفرج على هذا الإنسان السائر بحقيبته في هذا الوقت المبكر(…).
كان منظر المسيرة مشهدا بديعا بحق، أثار لدي رغبة في التقاط صورة فوتوغرافية؛ ولكن حين هممت بإخراج الكاميرا لاحظت أن المجموعة كلها بدأت تراقبني! وفكرت في أن عملية التصوير نفسها قد يساء فهمها! وربما تثير في نفس الزعيم شكوكا لا داعي لها على الإطلاق…!”
**
كان ذلك مطلع شهر يناير 1987، وفي تلك الأيام من الشتاء عادة يكون حي محظرة الحاج قد “طلع” إلى “مشتاه” في “اتويمرات” بعيدا ـ نسبيا ـ عن وادي “ﮔـلاﮔـة” وسدها الذي يحبس المياه الوحيدة هنا، وتتبع انحسارَها بعض حقول الذرة والفاصوليا الصغيرة…
مجموعة من الخيام التقليدية معظمها من الشعر، ومجموعة أعرشة ضيقة، وسط غابة صغيرة في برية تحتفظ بنضارة وبكارة الطبيعة.
هذا هو حي ومحظرة الحاج ولد فحفو، محظرة “ﮔـلاﮔـة”، حيث لم تَعوِ أي “ماكينة” هنا، ولم تترك أي سيارة وشم عجلاتها على أديم هذه الأرض المعشوشبة… (حتى ذلك الوقت)!
تأوي الخيم الـ13 مجموعة ثابتة من الأسر هي أساس هذا الحي البدوي. وتلك الحظائر والأعرشة الصغيرة تأوي مجموعة طلاب المحظرة.
ربما يخيل إلى زائر هذه المدرسة، مِن نأيها وشدة السفر إليها وبساطة حالها، أن عدد طلابها لن يتجاوز أفرادا محليين، لكنه سيفاجأ بالإقبال الكبير عليها من طلاب العلم القادمين من أنحاء الوطن ومن خارجه!
في هذه الأيام (يناير 1987) يناهز عدد الطلاب 70، ولكنه قد يرتفع إلى 100، وربما انخفض إلى 50 كحد أدنى.
*بقية السلف الصالح*
” إن تقديم هذه المحظرة يتوقف على ما نبغي من معرفة مؤسسها وشيخها العلامة الحاج ولد فحفو، باعتباره شخصيا أحد أولئك العلماء الأفذاذ الباقين من الطراز الأول الذي ندين له بمجد هذه البلاد كله. ولكننا لا بد أن ننوه بالطابع الخاص لهذه الشخصية العلمية، المتمثل في تبني منهج صارم للحياة على طريقة السلف الصالح، شبرا بشبر وذراعا بذراع… فلقد نجح (لمرابط الحاج) إلى أقصى حد في تحدي موجة الحياة الجديدة، وتجاهل كل تياراتها العاتية، واحتفظ لنفسه ولمدرسته ـ زمانيا وجغرافيا ـ بذلك العصر الجيد الذي عاشه أسلافنا، علما وورعا وعملا وزهدا وبساطة…
لذلك فإن المرء خاضع لا محالة لمعطيات هذه الوضعية الفريدة حين التصدي للتعريف بهذه الشخصية ورصد ماضيها؛ وخاصة فيما يتعلق بإهمال تواريخ أحداثها وظروفها… كالميلاد والنشأة والدراسة، والتواضع الشديد الذي تضيع معه معالم مشرقة…
اسمه سيدي محمد (وهو اسم لم يعد معروفا له بعد أن غلب عليه لقب “الحاج” الذي استعمله هو نفسه في مؤلفاته) بن السالك بن فحفو المسومي.
ولد حوالي سنة 1331 هـ (1913م) في نواحي “ارقيبه” (ولاية العصابة) وسط مجتمع يعطي العلم عناية كبيرة، فأقبل على طلبه وهو صغير، بادئا بحفظ القرآن وتجويده في أسرته، وخاصة على خاله محمد الأمين ولد بوب. كما سمعه ودرسه بعد ذلك على مقرئين آخرين.
وكان والده فقيها؛ وقد حدثني عنه لمرابط الحاج فقال:
” … طلبه الفرنسيون لتولي القضاء فادعى لهم الجهل بالأحكام! فخاطبه الحاكم (الفرنسي) مستنكرا ذلك، وقال له: “إن التعليم هو الذي أصاب رأسك بالصلع”! فرد هو عليه بنفي ذلك، وبأنه إنما أصابه القرع أصلا… فتساقط شعره! كل ذلك يريد أن يتخلص من المهمة (القضاء)!”.
أما الولد الحاج فقد انهمك في طلب العلم، متنقلا بين محاظر كبيرة في المنطقة الممتدة بين تـﮕانت وآفطوط وارﮔيبه. وهناك ثلاث محاظر أساسية في دراسته، كما حدثني:
– درس النحو على العلامة أحمد فال بن آدو وسمع في محظرته. وقد أدرك معه لمدة قصيرة العلامة آب ولد اخطور ضمن تلاميذ المحظرة.
– في محظرة أهل “ابات” درس على العلامة أحمد محمود ولد عبد القادر ولد ابات.
– درس الفقه وغيره في محظرة العلامة أواه ولد الطالب إبراهيم. كما أخذ عن أحمد ولد الهادي.
غير أن لمرابط الحاج يعترف بأن أهم شيء في تحصيله كان، بعد ذلك، المطالعة المستمرة ودراسة الكتب والأبحاث… بشكل لا يزال متواصلا.
وحين ناهز الثلاثين من عمره كانت فترة دراسته المحظرية قد انتهت وأصبح في صفوف المتخرجين الذين يقبل عليهم الطلبة.
ومع تعدد أشياخه وتنوع مصادره، لم يهتم الحاج بالتقليد والتتبع الحرفي لأشياخه. ومن ذلك زهده في “الإجازات” (الشهادات) ويقول ردا على سؤالي عن سبب ذلك:
– “اتبعت قول السيوطي في الإتقان (في علوم القرآن) بأن الإجازة ليست شرطا في التصدي للتدريس، وإنما هي بمثابة الشهادة، وقد حدثت بعد القرن الأول والسلف الصالح، لذلك لم أهتم بها”!
*رحلة الحج ماشيا*
ولكن أداء فريضة الحج وزيارة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المرتبة الأولى في اهتمام الحاج بعد التعلم. وكان تحقيق تلك الرغبة صعب المنال في تلك الأيام، ولا يتأتى إلا بطريق الرحلة برا، لمن له الزاد والراحلة، ولم يكن هو منهم يومئذ!
ومع ذلك صمم الرجل على الحج راجلا. فخرج حوالي سنة 1938م في رحلة طويلة وشاقة استغرقت ثلاث سنوات في الذهاب والعودة. وحدثني عنها ـ وقد نسي كثيرا من محطاتها وترتيبها ـ فقال:
– “حين ينتهي التلاميذ من الدراسة فإنهم يطمحون للحج، بل كان يجدر بالطالب ألا يجلس حتى يؤدي هذه الفريضة”.
وسألته: هل كانت لديكم وسائل لهذه الرحلة؟ فقال:
– “لا شيء. كنت مع رفيق واحد، خرجنا نريد الوصول إلى البلاد المقدسة راجلين لو اقتضى الأمر، ومهما كلف ذلك…”
– وكيف كانت طريقكم؟
– “مررنا بكثير من البلاد. في البداية انطلقنا من هنا (ﮔـلاﮔـة) إلى “كيفه” ثم إلى “خاي” (مالي) ثم إلى “أژواد” قبل أن نصل إلى “باماكو” حيث ركبنا القطار… وكنا نمكث فترة في بعض المدن”.
ومن المحطات التي يتذكرها الحاج ، وهي جديرة بالذكر (دون أن يعترف بـ”الكرامة” الظاهرة فيها) محطة “فورلامي” (انجامينا حاليا) عاصمة تشاد، وما جرى له فيها.
فهناك أقام الفرنسيون حاجزا أمنيا منيعا لا يتجاوزه إلا من استكمل التفتيش واستوفى وثائق السفر والعبور. وكان الحاج في طابور المنتظرين يتقدمه ثلاثة من رفاقه ورابع خلفهم لا يعرفه. وقد أرجع المفتشون الثلاثةَ على أعقابهم بسبب عدم اكتمال أوراقهم. ثم أجيز الشخص الرابع الذي كان أمام الحاج بعدما أبرز الوثائق المطلوبة.
يقول الحاج: ” ثم أجزت وراءه مباشرة”! وهنا سألته: هل كانت أوراقك تامة؟ فأجاب:
“لم تكن معي ورقة واحدة على الإطلاق، ولم أستصدر ورقة حتى الآن”!
– وكيف أجيز لكم المرور دون من أرجعوا على أعقابهم؟
– “لا أدري! كنت أقف منتظرا حتى مر ذلك التاجر فسرت في أثره دون أن يوقفني أحد أو يسألني… وربما كان سبب ذلك أن مثل هذا التاجر يصحب عادة شخصا معينا، فظن المراقبون أنني ذلك الشخص، مع أنه في الواقع لا رابطة بيننا إطلاقا”!!
هكذا يفسر الحاج بدون اهتمام ولا ادعاء “كرامة” تجاوزه لنقطة التفتيش الفرنسية، وقد كاد يُرد على عقبه لولا فضل الله.
أقول أنا: إنه لم يكن حجَّ تجارة ولا سياحة… بل كان حجا خالصا لله من عبدٍ نشأ في طاعته ولبى نداء أبي الأنبياء عليهم السلام. أليس هذا دليلا على أنه حج مبرور؟
قال هو في تواضع ورجاء: “إن شاء الله”.
بعد ذلك جاء اجتياح بلاد السودان العريضة؛ ومنها ركب البحر إلى جدة, ثم أتم الحج والعمرة لله.
وعكسا لما كان يعرض للعلماء الموريتانيين من مغريات الإقامة ومحبة تلك البقاع الطاهرة، مع تعلق طلبة العلم باستبقائهم، فقد كان لمرابط الحاج دوما على نية العودة إلى بلده بعد أداء الفريضة وزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا ما فعله؛ ولكن طريق العودة كانت أطول زمنا، كما يقول:
– “كنت، مع طول الطريق ومشقة السفر، أقل استعجالا. كما أني استجبت لطلب بعض أهل القرى بالإقامة معهم لأعلمهم.. فمكثت أطول مدة في “البيظ” (السودان) حيث قرأ علي قاضيها نصف مختصر خليل وأفتيت في بعض النوازل الفقهية”.
وكانت طريق العودة من السودان مختلفة، إذ تمت “عبر النيجر والصحراء وأژواد حيث وطن الشيخ سيدي المختار الكنتي، ومرورا بـ”جاوه””.
ويتذكر الحاج في هذه الرحلة عموما ما كان يُحظى به الموريتانيون الشناقطة من إجلال وترحيب، حتى كان أعيان وتجار القرى يتنافسون في استضافتهم ومساعدتهم والأخذ من علمهم.
وفي بداية رحلة العودة لا ينسى الحاج صدمته مِن صده عن زيارة مصر، حيث كان يريد لقاء العلامة محمد حبيب الله بن ما يابا الجكني الذي كان مقيما بالقاهرة يدرس في الأزهر في تلك الأيام. ولكنه لم يجد إلى ذلك سبيلا بسبب إجراءات الدخول الاستعمارية التي تتطلب وثائق لا يتوفر على أي شيء منها!.
*
يعود الحاج إلى وطنه وقد جلب ما تيسر حمله من الكتب التي عني كثيرا بمطالعتها ونسخها بيده خلال تلك الرحلة الشاقة المباركة. وما كاد يستقر به المقام حتى حف به الطلبة من كل جانب ومن كل فج.
لكن لمرابط الحاج ولد فحفو لم يكن أبدا شيخا عاديا ولا شخصية تنتمي لهذه الأزمنة. فمنذ قام للحياة أظهر لها كل الزهد فيها والإعراض عن زخرفها والرغبة عن مستحدثاتها الكثيرة المدهشة!
* حب الخلوة *
هو نفسه لن يحدثك كثيرا عن أسباب ذلك ولا عن أهميته. لكن الكبار في الأسرة متفقون على أنه مذ كان يافعا، كان يميل إلى العزلة ويغشى الخلاء، و”يعود في جوف الليل متسللا حتى يتزود من الطعام والماء. وكان الماء أهم شيء بالنسبة له، حتى أن والدته كانت مشفقة من إصابته بالبرد بسبب كثرة استعماله للماء في طهارته وعبادته، فكانت تهيأ له الماء الساخن فيستبدله بماء القربة، ويقول: “قل نار جهنم أشد حرا”.
“ومرة حثه والده على العمل والتكسب وترك العزلة، فقال له، مشيرا إلى قصر الحياة: أنا جنازة، فكيف أعمل للدنيا؟!. فرد عليه أبوه بقوة: وهل رأيت جنازة لها أولاد؟!
هكذا كان في شبابه، وظل على هذا النهج في ورعه وهروبه من أي موقف في الحياة تكون فيه مظنة الشُّبَه؛ سواء في المعاش أو المساكنة أو المصاحبة… بل كان شعاره “إن حلال الدنيا قذر فكيف بحرامها”؟!
ولكن الرجل، رغم هذا، أبعد ما يكون عن الترهب أو ترك الطيب من زينة الحياة الدنيا كلها. فقد كان يعيل أسرته وكثيرا من طلابه. وكان يلبس أحسن الثياب يتضوع المسك منها. وكان مخالطا لتلامذته القادمين من كل حدب وصوب، ومن كل الأعراق، مخالطة تامة لا تحَفظ فيها؛ بل كان يتفقد حالهم ويتطلع لمعرفة مشاكلهم ويحلها بنفسه مهما كان نوعها. كما اشتهر بالكرم والإنفاق وسعة الحال (… يرزقه من حيث لا يحتسب)!
أما علاقاته العامة (الخارجية) فتكاد تنعدم، بسبب اختياره توطن منطقة نائية ظلت لا يبلغها إلا من أراد “الانقطاع عن الدنيا”. وتلك ميزة مزدوجة المنافع؛ فهي تضمن للحاج استمرار عزلته عن العالم، وتتيح لطلاب العلم التفرغ له والانقطاع من كل العوائق الشاغلة عنه!
وكانت المرة الوحيدة التي خضع فيها للضغوط، وقَبِلَ الاقترابَ من المدينة سنة 1972 حين نزل بقرية “ﮔـرو”. إلا أنه قرر مغادرتها سنة 1974 والعودة إلى موطنه في أعالي تـﮔانت المنعزلة، وذلك بصورة “نهائية لا رجعة فيها” كما يؤكد هو.
ولهذا لم يأبه مطلقا للأحداث الكثيرة التي يشهدها العالم “أسفله”، بل كان يرفض أي نوع من التفاعل معها؛ ولكن مع حذر شديد من توجيه طلابه إلى ذات النهج؛ بل كان سعيدا بنجاحهم في الحياة العصرية، وإنما يوجه لهم النصح والإرشاد في دينهم ويحثهم على العمل بعلمهم.
ولهذا أيضا لم تتوسع علاقات لمرابط الحاج بمعاصريه من العلماء والشخصيات السياسية؛ حيث اقتصرت العلاقة مع العلماء على الرد بالمراسلة على ما يرِد عليه من أسئلتهم العلمية. بينما كان الإعراض عن السلطات وأعوانها والسياسيين واتصالاتهم هو السمة الغالبة، وبالصرامة!
ويقول إن آخر مقابلة له بسلطةٍ حكومية كانت “بعد الحج عندما استدعاني حاكم (مركز) المجرية الفرنسي، فإذا به إنما يريد أن أروي له رحلتي إلى الحج، وكيف استطعت تأديته”!
وبعد ذلك كان يرفض تلبية أي استدعاء حكومي. ولكنه ظل يتقبل الصلة والتواصل مع أمير تـﮔانت التقليدي عبد الرحمن ولد بكار ولد سويد احمد(الدان) الذي ظل حريصا على العلاقة به مكرما ومبجلا له في مكانه.
هناك أيضا مفاجأة أخرى في حياة لمرابط الحاج ولد فحفو هي بُعده عن العزلة والتحفظ حين يتعلق الأمر بالشئون العلمية. فهو كان مكثرا من الكتابة والتأليف، وإن تميزت أكثر مؤلفاته بغرض تعليمي، يُصدِّره غالبا بالتنبيه على أنه “استجابة لطلب بعض طلاب العلم”.
*الحكومة… والتصوف!*
ولعل موقفه من التصوف هو ذروة المفاجأة، حيث يجعله رديفا “للحكومة”، من حيث الحذر والتحذير منه ووجوب الابتعاد عنه! وهو هنا صارم لدرجة أنه يحذر من يلتمس وصيته من خُلَّص تلامذته من مسألتين هما: “الحكومة” و”الأوراد”!
ففي مجال الفقه يتشبث الحاج بمشهور مذهب الإمام مالك في الفروع، ويتبنى المذهب الأشعري في العقائد ويدافع عنه بحماس وقوة. لكنه يرفض مسائل التصوف وطرقه كلها. بل من المدهش أنه “فريد” دهره في كونه لم يأخذ وردا ولا طريقة صوفية، رغم تخلقه البين بمرتبة الإحسان، عبادة وعملا وعلما. وحين استغربت ذلك وسألته عن موقفه من الطرق الصوفية، أجابني باختصار هامسا:
– “جعلت بيني وبين كل ذلك القرآن العظيم والسنة المطهرة”!
وفعلا فإن القرآن قريب من الشيخ الحاج ولد فحفو، شديد العناية به يجاهد في تلاوته وتدبره وتحصين حفظه. ثم يأخذ حصة الأسد من دراسة طلاب محظرته: حفظا ورسما وتجويدا وعلوما…
ثم تأتي دراسة العقائد والفقه المالكي والنحو والمتمات (أصول الفقه وقواعده والمنطق والبيان والعروض…) بعد ذلك بكل مراحلها المتدرجة المعهودة في المحاظر.
*اليوم في حياة لمرابط الحاج *
أما “الرزمانة” أو البرنامج اليومي في حياة لمرابط الحاج، في تلك الأيام فكان كما رصده تحقيق “الشعاع” مباشرة على الطبيعة، حافلا بالعمل والنظام:
“حينما يمضي من الليل أكثره، ويسلم الكون نفسه للسكون تحت سماءٍ ذات نجوم متلألأة (حوالي الساعة الرابعة قبل الفجر) لابد أن يستيقظ النائم في هذا الحي الصغير ليسمع من حوله أصواتا متداخلة تنبعث من الأرجاء كلها: قراءات جادة ندية؛ آيات القرآن تتلى هنا وهناك، ونصوص خليل وابن مالك وابن بري… تراجع هنا وهناك.
وحين تنهض ترى النيران موقدة والتلاميذ من حولها يصطلون ويستضيئون لقراءة نصوصهم… والكون كله يلقي السمع شهيدا على هذه الصورة البديعة التي تتمنى أن تكون خاتمة كل ليلة في حياتك!
وبعد أقل من ساعتين تتلاشى تلك الأصوات في صوت واحد هو صوت المؤذن ينادي مباركاً تلك اليقظة: الصلاة خير من النوم. فيتوجه الكل إلى فضاءِ حظيرة ريفية يحميها سور من الشجر وأخشابه، من اقتحام البهائم. هذا هو المسجد.
ثم يتقدم لمرابط الحاج إلى “المحراب” الرملي فيؤم المصلين. حتى إذا قضيت الصلاة أقبل على جمع الطلاب يُدرسهم الواحد تلو الآخر، لا يبرح محرابه. وتكاد دروس هذه الحصة عادة أن تكون في القرآن، إلا إذا تدخل طالب “جديد” فألقى نصه؛ فالشيخ “لا يرد لوحا”!
ولكن كثرة الطلاب تلتهم الوقت بسرعة، فتشرق الشمس حمراء من بين الأشجار، ثم ترتفع قيد رمح فيباح النفل!
بعد ركعتي الضحى، يتوجه الشيخ إلى ظل خيمة العِلم القريبة، حيث المكتبة، وحيث ينتظر طلاب آخرون “تصحيح ألواحهم” أو قراءة نصوصهم وحل استشكالاتهم…
وبعد الزوال تتوقف الدروس قليلا ليعود الطلاب إلى مساكنهم فيقيلون. ويشغل لمرابط الحاج تلك الساعة الوحيدة بالمطالعة أو الكتابة، وربما أخذته سنة من النوم، قبل الاستعداد لصلاة الظهر. بعدها تستأنف دروس الطلاب، وخاصة في الفقه والأصول والعقائد والنحو؛ وتستمر دون انقطاع إلا ريثما تؤدى الصلوات المكتوبة (العصر والمغرب والعشاء)! حتى يمضي من الليل ثلثه أو يزيد قليلا…
ولا يحتاج الطالب كثيرا من الزمن لينسجم مع هذا النظام؛ فهو يعرف عادة الوقت الذي يقرأ فيه، وله أيضا أن يتربص حتى يجد الفرصة لسؤال الشيخ عما أشكل عليه في مراجعة درسه…
* نماذج *
رغم أن لمرابط الحاج ولد فحفو يجيد الشعر ويدرسه من خلال علم العروض، فإن الأسباب التي تدفع الشعراء عادة لم يصادف منها ما يزيد اهتمامه بالشعر وتعلقه بقرضه. ولهذا اقتصر إنتاجه الشعري على بعض الأنظام التعليمية ، وقصائد أو مقطوعات في المديح النبوي والوعظ والتوجيه، يقول في إحداها:
يا نفس قومي فارعَوِي وانزَجِري * وفجأةَ الحِمام منها فاحذَري
ولذةَ الدنيا جميعًا فاهجُري * لاسيما الهجوع وقتَ السَّحَر
ولا يَغرَّنَّك طولُ الحَضَر * فستسافرين كلَّ السَّفَر
لا تَلتَهي عنه بنَيل وَطر * أو اكتسابِ إبلٍ وبَقر
ولا بذكر البيضِ مثلِ القَمر * نحورُها تلمع ُمثلُ الدُّرَر … الخ
وفي قصيدة مدح للنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
هاجَت هموميَّ ذكرى البيت والحَجَرِ * والحِجْرِ والركن بالغَدَاةِ والسَّحَرِ
وبئر زمـزمَ فـي قلبي لها ذِكَرُ * لله ما في الحشا من حَرْقَةِ الذِّكَرِ
وما صفا العيش بعدما الصفا بعُدَتْ * كلا ولا غاب شكلُها عن البصَر
وأختها مَرْوَةٌ في القلب لوعتُها * كأنما يَصْطَلي شوقا على الجَمَرِ
وطيبةً كلما نفسي تذكرها * أذرِ الدموعَ ويرمي القلبُ بالشرر
وكيف لا، وهي دارٌ طالما سَكنَت * ذاتُ الحبيب بها وصحبِه الغُررِ
ومن فوائده النظمية قوله:
وناسخٌ لكلِّ علمٍ نَفعا * فأجرُه لَه، وأجرُ مَن وعَى
كذاكَ من حَفظ أو خطَّ فلهْ * أجرُ الذي ما بقي الذْ عمله
وعكسُ ذا ناسخُ غيرِ النافع * فكُن أخي للعلمِ خيرَ سَامع
ومن فتاواه المختصرة المفيدة:
= جواب مسألة إتيان المشعوذ: “لم أرَ فيها إلا ما نصوا عليه من عدم جواز الإتيان لمن يدعي أنه يعرف موضع الضالة والمسروق، فشدَّدوا في إتيانه وتصديقه”.
= جواب مسألة إمامة من جعل أبناءه في مدارس النصارى: “أنه يُجرَى حكم ذلك على إمامة الفاسق. ونص في “المدخل” أن من جعل ولده عند النصراني يعلمه لا إمامة له. ولا نعلم فرقا بين النصراني ومن يعلمهم دين النصارى كما هو مشاهد”!
أما مؤلفاته فتتميز غالبا بالاختصار، وقد طبع بعضها. وأهمها:
– لباب النقول في متشابه القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم (في العقيدة) .
– تلخيص منظومة الشرنوبي (في العقيدة).
– إفادة القارئ والسامع على الدرر اللوامع في مقرأ نافع.
– تنوير الحوالك على ألفية ابن مالك (في النحو والصرف)
– دليل الطلاب: شرح نظم الآجرومية (عبيد ربه) في النحو الابتدائي.
– شرح قصيدة كعب بن زهير “بانت سعاد”.
– شرح المقصور والممدود.
بالإضافة إلى بعض النوازل الفقهية
تخرجت من محظرة لمرابط الحاج ولد فحفو في منتبذها القصي حول وادي “ﮔـلاﮔـه” أجيال من طلبة العلم، بلغ منهم كثيرون درجة التصدر للتدريس. ومنهم شيوخ محاظر أجلاء وأساتذة نابهون وموظفون سامون ورجال أعمال ناجحون…
ومن أشهر العلماء المدرسين منهم: العلامة محمد يحيى بن الشيخ الحسين (يحيان) الذي قرأ عليه أول الألفية. وممن لازمه حتى تخرج: العلامة محمد الأمين بن عبد الرحمن، و العلامة أحمد فال بن أحمدنا. ومن الأجانب: الداعية الأمريكي يوسف حمزة… وهم يفوقون العد والحصر لله الحمد.
وفد أبديت تحفظا على حمل حقيبتي الكبيرة على الحمير وذلك لقلقي على بعض محتوياتها التي من بينها أجهزة التسجيل والتصوير؛ قد تتكسر إذا سقطت فأخسر كل شيء دفعة.. غير أني، ما دمت أخفي كل ذلك، والحقيبة بهذا الحجم، لم يكن بوسعي أن أرد معروفا بحملها مع الدقيق على الحمير؛ وكذلك فعلت شاكرا بعدما استخرجت إحدى الكاميرات ، من باب الاحتياط.
هناك مسافة 12 كلم يتعين علينا أن نقطعها على طريق عادية، عبر مصب كبير يسمونه “غمبل”، قبل الوصول إلى سفح الجبل ـ ثغر تـﮔانت ـ
كان الركب يسير حثيثا: “عر.. عر..!”. وكنا نركب حينا ونترجل أحيانا لتغوص أقدامنا مع حوافر الحمير في رمال بعض الأحقاف، أو بين حشائش “إنيت” المفترسة!
في حدود الساعة الواحدة ظهرا وصلنا سفح الجبل؛ وهنا بدا لي ما كانوا يرددونه من تجاوز الكدية كالأسطورة… بل مستحيلا! لأن الجبل يرتفع شاهقا أمامنا، وليس به أي طريق أو خط للصعود!.
لقد فهمت الآن أهم سبب لاعتمادهم على الحمير دون الجِمال مثلا… ذلك أن معبر الجبل، من الصعوبة والارتفاع هنا بحيث لا يصعده إلا بعض الحمير المحلية المدربة على ذلك!
كنا نصًّعد بين الصخور على السفح… إلى أن وصلنا إلى المأزق أو “الخنـﮓ”، وهو نقطة العبور أو عقبته الأولى التي يسمونها ـ على سبيل التسلية ـ “أﮔـراج”!
هنا توقفت الحمير تلقائيا، وأزيحت عنها الأحمال، ليعاد وضعها وشدها على مقدم ظهورها بشكل أكثر تخفيفا وتوازنا.
وأخذ كل واحد منا حظه من حمولة البهائم على كاهله أيضا! بينما كان كبير الشبان يرسم خطة العبور، بله الصعود والطيران بالنسبة لما يبدو لي!:
كل واحد من الشبان الثلاثة مكلف بمرافقة حمارين اثنين ومراقبة حمولتهما؛ بينما كان علي ـ أنا الغريب ـ أن أتبع خطوات “القافلة” بحذر شديد؛ أنوء بحقيبتي التي ندمت على ما كان من ثقلها!
لقد فوجئت بعد لك بما للحمار من قوة، واكتشفت أنه فعلا حيوان جبار، يختزن طاقات لم يظهرها قبل اليوم! لقد رأيت كثيرا من الحمير، وشاهدت ما تبذله في نواكشوط ـ مثلا ـ في جر براميل الماء والبضائع تحت سياط زبانية لا دم فيهم، ولكني لم أشاهد ولم أتصور الحمار يبذل مجهودا بهذه القوة والتصميم الرائع… لقد تحول إلى مخلوق آخر من فصيلة “الهيلوكبتر”: خفيف لا أثر للكسل في حياته؛ يلتمس موطأ حافر فوق الصخور الناتئة، ويففز من فوق صخرة منحدرة إلى أخرى فوقها…!
والحقيقة أن المشكلة هنا ليست فقط في صعوبة وخطورة “التزحلق” على الصخور الملساء والحجارة المترنحة، فوق هوة تزداد فظاعة وهولاً كلما ابتعدت عنها والتفت؛ حيث لن تفكر في التراجع مطلقا!… ولكن المشكلة أيضا في خطورة التيه والمحاصرة؛ فلا يوجد طريق ولا مخلص، وأنت معلق بين السماء والأرض عبر آلاف الصخور والمرتفعات المتشابهة التي لا نهاية لها…!
ومع ذلك تواصلت عملية تسلق الصخور. والحمير بحمولتها في قفزات جريئة متلاحقة لا تخلو من سقطات مخيفة، بين أمل ويأس… والجميع ـ بشرا وحميرا ـ يتصببون عرقا، والأرض من خلفنا تزداد بعدا وضآلة…
جرى ذلك على مدى ساعتين يلغنا بعدهما القمة؛ فإذا الأرض تمتد أمامنا بإهاب جديد جميل، تكسوها مع الصخور النباتات والأشجار… بحيث نسينا بسرعة أننا صعدنا أصلا إلى هذا المكان!”
كان علي بعد أن بلغ أولئك الرفقاء مقصدهم أن أواصل الرحلة، من الغد، وحدي لساعات إلى حي تلك المحظرة عبر وادي “ﮔـلاﮔـة” الموحش والمدهش!
*
هذه مقدمة تحقيق مصور ومطول نشرته مجلة “الشعاع” في عددها الخامس (1987م) عن محظرة العلامة الحاج ولد فحفو في منطقة “ﮔـلاﮔـه” المنعزلة في وعـر من جبل تـﮕـانت. وكان ذلك ـ حسب ما علمت ـ أول اتصال إعلامي بتلك المحظرة العلمية الكبيرة، والتعريف بشيخها الذي هو فريد عصره وبقية السلف الصالح في هذه البلاد.
وقد رأيت حين عثرت قبل ايام على ذلك العدد، أن اقتطف منه تعريفا موجزا عن تلك المحظرة الجامعية وشيخها حفظه الله، الذي بذل عمره في التعلم والتعليم لوجه الله تعالى. خاصة بعد تقريها وتوقف شيخها عن التدريس.
كتبتُ يومها عن تلك المرحلة الأخيرة من الرحلة الطويلة:
“… انطلقت بمفردي، بعد أخذ إرشادات الطريق، في اتجاه “ﮔـلاﮔـة” التي قيل لي إنها تبعد مرحلة “مقيل” أو أقل. وكان علي أن أسير عبر سهل ينساب بين سلسلتين جبليتين، ينتهي طرفه الشمالي بـ”غليـﮓ” (سدّ) “ﮔـلاﮔـة” (…).
إن السير في هذه الطبيعة الخلابة (النظيفة) يبدو شيئا جميلا أكثر من كونه رياضة. وخط السير واضح مضبوط بهذين السدين الجبليين.
والآن فإن مخلوقا غريبا يطلق صوتا غامضا يبدد الصمت المطبق على الطبيعة! هذه مجموعة من القردة البرية تقطع الوادي أمامي في تجاه العدوة الأخرى (…) كان سربا من حوالي عشرين “خميسا” (قردا) يتقدمها قرد ضخم تبدو عليه معالم الزعامة بوضوح! وقد توقفتْ لحظة لتتفرج على هذا الإنسان السائر بحقيبته في هذا الوقت المبكر(…).
كان منظر المسيرة مشهدا بديعا بحق، أثار لدي رغبة في التقاط صورة فوتوغرافية؛ ولكن حين هممت بإخراج الكاميرا لاحظت أن المجموعة كلها بدأت تراقبني! وفكرت في أن عملية التصوير نفسها قد يساء فهمها! وربما تثير في نفس الزعيم شكوكا لا داعي لها على الإطلاق…!”
**
كان ذلك مطلع شهر يناير 1987، وفي تلك الأيام من الشتاء عادة يكون حي محظرة الحاج قد “طلع” إلى “مشتاه” في “اتويمرات” بعيدا ـ نسبيا ـ عن وادي “ﮔـلاﮔـة” وسدها الذي يحبس المياه الوحيدة هنا، وتتبع انحسارَها بعض حقول الذرة والفاصوليا الصغيرة…
مجموعة من الخيام التقليدية معظمها من الشعر، ومجموعة أعرشة ضيقة، وسط غابة صغيرة في برية تحتفظ بنضارة وبكارة الطبيعة.
هذا هو حي ومحظرة الحاج ولد فحفو، محظرة “ﮔـلاﮔـة”، حيث لم تَعوِ أي “ماكينة” هنا، ولم تترك أي سيارة وشم عجلاتها على أديم هذه الأرض المعشوشبة… (حتى ذلك الوقت)!
تأوي الخيم الـ13 مجموعة ثابتة من الأسر هي أساس هذا الحي البدوي. وتلك الحظائر والأعرشة الصغيرة تأوي مجموعة طلاب المحظرة.
ربما يخيل إلى زائر هذه المدرسة، مِن نأيها وشدة السفر إليها وبساطة حالها، أن عدد طلابها لن يتجاوز أفرادا محليين، لكنه سيفاجأ بالإقبال الكبير عليها من طلاب العلم القادمين من أنحاء الوطن ومن خارجه!
في هذه الأيام (يناير 1987) يناهز عدد الطلاب 70، ولكنه قد يرتفع إلى 100، وربما انخفض إلى 50 كحد أدنى.
*بقية السلف الصالح*
” إن تقديم هذه المحظرة يتوقف على ما نبغي من معرفة مؤسسها وشيخها العلامة الحاج ولد فحفو، باعتباره شخصيا أحد أولئك العلماء الأفذاذ الباقين من الطراز الأول الذي ندين له بمجد هذه البلاد كله. ولكننا لا بد أن ننوه بالطابع الخاص لهذه الشخصية العلمية، المتمثل في تبني منهج صارم للحياة على طريقة السلف الصالح، شبرا بشبر وذراعا بذراع… فلقد نجح (لمرابط الحاج) إلى أقصى حد في تحدي موجة الحياة الجديدة، وتجاهل كل تياراتها العاتية، واحتفظ لنفسه ولمدرسته ـ زمانيا وجغرافيا ـ بذلك العصر الجيد الذي عاشه أسلافنا، علما وورعا وعملا وزهدا وبساطة…
لذلك فإن المرء خاضع لا محالة لمعطيات هذه الوضعية الفريدة حين التصدي للتعريف بهذه الشخصية ورصد ماضيها؛ وخاصة فيما يتعلق بإهمال تواريخ أحداثها وظروفها… كالميلاد والنشأة والدراسة، والتواضع الشديد الذي تضيع معه معالم مشرقة…
اسمه سيدي محمد (وهو اسم لم يعد معروفا له بعد أن غلب عليه لقب “الحاج” الذي استعمله هو نفسه في مؤلفاته) بن السالك بن فحفو المسومي.
ولد حوالي سنة 1331 هـ (1913م) في نواحي “ارقيبه” (ولاية العصابة) وسط مجتمع يعطي العلم عناية كبيرة، فأقبل على طلبه وهو صغير، بادئا بحفظ القرآن وتجويده في أسرته، وخاصة على خاله محمد الأمين ولد بوب. كما سمعه ودرسه بعد ذلك على مقرئين آخرين.
وكان والده فقيها؛ وقد حدثني عنه لمرابط الحاج فقال:
” … طلبه الفرنسيون لتولي القضاء فادعى لهم الجهل بالأحكام! فخاطبه الحاكم (الفرنسي) مستنكرا ذلك، وقال له: “إن التعليم هو الذي أصاب رأسك بالصلع”! فرد هو عليه بنفي ذلك، وبأنه إنما أصابه القرع أصلا… فتساقط شعره! كل ذلك يريد أن يتخلص من المهمة (القضاء)!”.
أما الولد الحاج فقد انهمك في طلب العلم، متنقلا بين محاظر كبيرة في المنطقة الممتدة بين تـﮕانت وآفطوط وارﮔيبه. وهناك ثلاث محاظر أساسية في دراسته، كما حدثني:
– درس النحو على العلامة أحمد فال بن آدو وسمع في محظرته. وقد أدرك معه لمدة قصيرة العلامة آب ولد اخطور ضمن تلاميذ المحظرة.
– في محظرة أهل “ابات” درس على العلامة أحمد محمود ولد عبد القادر ولد ابات.
– درس الفقه وغيره في محظرة العلامة أواه ولد الطالب إبراهيم. كما أخذ عن أحمد ولد الهادي.
غير أن لمرابط الحاج يعترف بأن أهم شيء في تحصيله كان، بعد ذلك، المطالعة المستمرة ودراسة الكتب والأبحاث… بشكل لا يزال متواصلا.
وحين ناهز الثلاثين من عمره كانت فترة دراسته المحظرية قد انتهت وأصبح في صفوف المتخرجين الذين يقبل عليهم الطلبة.
ومع تعدد أشياخه وتنوع مصادره، لم يهتم الحاج بالتقليد والتتبع الحرفي لأشياخه. ومن ذلك زهده في “الإجازات” (الشهادات) ويقول ردا على سؤالي عن سبب ذلك:
– “اتبعت قول السيوطي في الإتقان (في علوم القرآن) بأن الإجازة ليست شرطا في التصدي للتدريس، وإنما هي بمثابة الشهادة، وقد حدثت بعد القرن الأول والسلف الصالح، لذلك لم أهتم بها”!
*رحلة الحج ماشيا*
ولكن أداء فريضة الحج وزيارة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المرتبة الأولى في اهتمام الحاج بعد التعلم. وكان تحقيق تلك الرغبة صعب المنال في تلك الأيام، ولا يتأتى إلا بطريق الرحلة برا، لمن له الزاد والراحلة، ولم يكن هو منهم يومئذ!
ومع ذلك صمم الرجل على الحج راجلا. فخرج حوالي سنة 1938م في رحلة طويلة وشاقة استغرقت ثلاث سنوات في الذهاب والعودة. وحدثني عنها ـ وقد نسي كثيرا من محطاتها وترتيبها ـ فقال:
– “حين ينتهي التلاميذ من الدراسة فإنهم يطمحون للحج، بل كان يجدر بالطالب ألا يجلس حتى يؤدي هذه الفريضة”.
وسألته: هل كانت لديكم وسائل لهذه الرحلة؟ فقال:
– “لا شيء. كنت مع رفيق واحد، خرجنا نريد الوصول إلى البلاد المقدسة راجلين لو اقتضى الأمر، ومهما كلف ذلك…”
– وكيف كانت طريقكم؟
– “مررنا بكثير من البلاد. في البداية انطلقنا من هنا (ﮔـلاﮔـة) إلى “كيفه” ثم إلى “خاي” (مالي) ثم إلى “أژواد” قبل أن نصل إلى “باماكو” حيث ركبنا القطار… وكنا نمكث فترة في بعض المدن”.
ومن المحطات التي يتذكرها الحاج ، وهي جديرة بالذكر (دون أن يعترف بـ”الكرامة” الظاهرة فيها) محطة “فورلامي” (انجامينا حاليا) عاصمة تشاد، وما جرى له فيها.
فهناك أقام الفرنسيون حاجزا أمنيا منيعا لا يتجاوزه إلا من استكمل التفتيش واستوفى وثائق السفر والعبور. وكان الحاج في طابور المنتظرين يتقدمه ثلاثة من رفاقه ورابع خلفهم لا يعرفه. وقد أرجع المفتشون الثلاثةَ على أعقابهم بسبب عدم اكتمال أوراقهم. ثم أجيز الشخص الرابع الذي كان أمام الحاج بعدما أبرز الوثائق المطلوبة.
يقول الحاج: ” ثم أجزت وراءه مباشرة”! وهنا سألته: هل كانت أوراقك تامة؟ فأجاب:
“لم تكن معي ورقة واحدة على الإطلاق، ولم أستصدر ورقة حتى الآن”!
– وكيف أجيز لكم المرور دون من أرجعوا على أعقابهم؟
– “لا أدري! كنت أقف منتظرا حتى مر ذلك التاجر فسرت في أثره دون أن يوقفني أحد أو يسألني… وربما كان سبب ذلك أن مثل هذا التاجر يصحب عادة شخصا معينا، فظن المراقبون أنني ذلك الشخص، مع أنه في الواقع لا رابطة بيننا إطلاقا”!!
هكذا يفسر الحاج بدون اهتمام ولا ادعاء “كرامة” تجاوزه لنقطة التفتيش الفرنسية، وقد كاد يُرد على عقبه لولا فضل الله.
أقول أنا: إنه لم يكن حجَّ تجارة ولا سياحة… بل كان حجا خالصا لله من عبدٍ نشأ في طاعته ولبى نداء أبي الأنبياء عليهم السلام. أليس هذا دليلا على أنه حج مبرور؟
قال هو في تواضع ورجاء: “إن شاء الله”.
بعد ذلك جاء اجتياح بلاد السودان العريضة؛ ومنها ركب البحر إلى جدة, ثم أتم الحج والعمرة لله.
وعكسا لما كان يعرض للعلماء الموريتانيين من مغريات الإقامة ومحبة تلك البقاع الطاهرة، مع تعلق طلبة العلم باستبقائهم، فقد كان لمرابط الحاج دوما على نية العودة إلى بلده بعد أداء الفريضة وزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا ما فعله؛ ولكن طريق العودة كانت أطول زمنا، كما يقول:
– “كنت، مع طول الطريق ومشقة السفر، أقل استعجالا. كما أني استجبت لطلب بعض أهل القرى بالإقامة معهم لأعلمهم.. فمكثت أطول مدة في “البيظ” (السودان) حيث قرأ علي قاضيها نصف مختصر خليل وأفتيت في بعض النوازل الفقهية”.
وكانت طريق العودة من السودان مختلفة، إذ تمت “عبر النيجر والصحراء وأژواد حيث وطن الشيخ سيدي المختار الكنتي، ومرورا بـ”جاوه””.
ويتذكر الحاج في هذه الرحلة عموما ما كان يُحظى به الموريتانيون الشناقطة من إجلال وترحيب، حتى كان أعيان وتجار القرى يتنافسون في استضافتهم ومساعدتهم والأخذ من علمهم.
وفي بداية رحلة العودة لا ينسى الحاج صدمته مِن صده عن زيارة مصر، حيث كان يريد لقاء العلامة محمد حبيب الله بن ما يابا الجكني الذي كان مقيما بالقاهرة يدرس في الأزهر في تلك الأيام. ولكنه لم يجد إلى ذلك سبيلا بسبب إجراءات الدخول الاستعمارية التي تتطلب وثائق لا يتوفر على أي شيء منها!.
*
يعود الحاج إلى وطنه وقد جلب ما تيسر حمله من الكتب التي عني كثيرا بمطالعتها ونسخها بيده خلال تلك الرحلة الشاقة المباركة. وما كاد يستقر به المقام حتى حف به الطلبة من كل جانب ومن كل فج.
لكن لمرابط الحاج ولد فحفو لم يكن أبدا شيخا عاديا ولا شخصية تنتمي لهذه الأزمنة. فمنذ قام للحياة أظهر لها كل الزهد فيها والإعراض عن زخرفها والرغبة عن مستحدثاتها الكثيرة المدهشة!
* حب الخلوة *
هو نفسه لن يحدثك كثيرا عن أسباب ذلك ولا عن أهميته. لكن الكبار في الأسرة متفقون على أنه مذ كان يافعا، كان يميل إلى العزلة ويغشى الخلاء، و”يعود في جوف الليل متسللا حتى يتزود من الطعام والماء. وكان الماء أهم شيء بالنسبة له، حتى أن والدته كانت مشفقة من إصابته بالبرد بسبب كثرة استعماله للماء في طهارته وعبادته، فكانت تهيأ له الماء الساخن فيستبدله بماء القربة، ويقول: “قل نار جهنم أشد حرا”.
“ومرة حثه والده على العمل والتكسب وترك العزلة، فقال له، مشيرا إلى قصر الحياة: أنا جنازة، فكيف أعمل للدنيا؟!. فرد عليه أبوه بقوة: وهل رأيت جنازة لها أولاد؟!
هكذا كان في شبابه، وظل على هذا النهج في ورعه وهروبه من أي موقف في الحياة تكون فيه مظنة الشُّبَه؛ سواء في المعاش أو المساكنة أو المصاحبة… بل كان شعاره “إن حلال الدنيا قذر فكيف بحرامها”؟!
ولكن الرجل، رغم هذا، أبعد ما يكون عن الترهب أو ترك الطيب من زينة الحياة الدنيا كلها. فقد كان يعيل أسرته وكثيرا من طلابه. وكان يلبس أحسن الثياب يتضوع المسك منها. وكان مخالطا لتلامذته القادمين من كل حدب وصوب، ومن كل الأعراق، مخالطة تامة لا تحَفظ فيها؛ بل كان يتفقد حالهم ويتطلع لمعرفة مشاكلهم ويحلها بنفسه مهما كان نوعها. كما اشتهر بالكرم والإنفاق وسعة الحال (… يرزقه من حيث لا يحتسب)!
أما علاقاته العامة (الخارجية) فتكاد تنعدم، بسبب اختياره توطن منطقة نائية ظلت لا يبلغها إلا من أراد “الانقطاع عن الدنيا”. وتلك ميزة مزدوجة المنافع؛ فهي تضمن للحاج استمرار عزلته عن العالم، وتتيح لطلاب العلم التفرغ له والانقطاع من كل العوائق الشاغلة عنه!
وكانت المرة الوحيدة التي خضع فيها للضغوط، وقَبِلَ الاقترابَ من المدينة سنة 1972 حين نزل بقرية “ﮔـرو”. إلا أنه قرر مغادرتها سنة 1974 والعودة إلى موطنه في أعالي تـﮔانت المنعزلة، وذلك بصورة “نهائية لا رجعة فيها” كما يؤكد هو.
ولهذا لم يأبه مطلقا للأحداث الكثيرة التي يشهدها العالم “أسفله”، بل كان يرفض أي نوع من التفاعل معها؛ ولكن مع حذر شديد من توجيه طلابه إلى ذات النهج؛ بل كان سعيدا بنجاحهم في الحياة العصرية، وإنما يوجه لهم النصح والإرشاد في دينهم ويحثهم على العمل بعلمهم.
ولهذا أيضا لم تتوسع علاقات لمرابط الحاج بمعاصريه من العلماء والشخصيات السياسية؛ حيث اقتصرت العلاقة مع العلماء على الرد بالمراسلة على ما يرِد عليه من أسئلتهم العلمية. بينما كان الإعراض عن السلطات وأعوانها والسياسيين واتصالاتهم هو السمة الغالبة، وبالصرامة!
ويقول إن آخر مقابلة له بسلطةٍ حكومية كانت “بعد الحج عندما استدعاني حاكم (مركز) المجرية الفرنسي، فإذا به إنما يريد أن أروي له رحلتي إلى الحج، وكيف استطعت تأديته”!
وبعد ذلك كان يرفض تلبية أي استدعاء حكومي. ولكنه ظل يتقبل الصلة والتواصل مع أمير تـﮔانت التقليدي عبد الرحمن ولد بكار ولد سويد احمد(الدان) الذي ظل حريصا على العلاقة به مكرما ومبجلا له في مكانه.
هناك أيضا مفاجأة أخرى في حياة لمرابط الحاج ولد فحفو هي بُعده عن العزلة والتحفظ حين يتعلق الأمر بالشئون العلمية. فهو كان مكثرا من الكتابة والتأليف، وإن تميزت أكثر مؤلفاته بغرض تعليمي، يُصدِّره غالبا بالتنبيه على أنه “استجابة لطلب بعض طلاب العلم”.
*الحكومة… والتصوف!*
ولعل موقفه من التصوف هو ذروة المفاجأة، حيث يجعله رديفا “للحكومة”، من حيث الحذر والتحذير منه ووجوب الابتعاد عنه! وهو هنا صارم لدرجة أنه يحذر من يلتمس وصيته من خُلَّص تلامذته من مسألتين هما: “الحكومة” و”الأوراد”!
ففي مجال الفقه يتشبث الحاج بمشهور مذهب الإمام مالك في الفروع، ويتبنى المذهب الأشعري في العقائد ويدافع عنه بحماس وقوة. لكنه يرفض مسائل التصوف وطرقه كلها. بل من المدهش أنه “فريد” دهره في كونه لم يأخذ وردا ولا طريقة صوفية، رغم تخلقه البين بمرتبة الإحسان، عبادة وعملا وعلما. وحين استغربت ذلك وسألته عن موقفه من الطرق الصوفية، أجابني باختصار هامسا:
– “جعلت بيني وبين كل ذلك القرآن العظيم والسنة المطهرة”!
وفعلا فإن القرآن قريب من الشيخ الحاج ولد فحفو، شديد العناية به يجاهد في تلاوته وتدبره وتحصين حفظه. ثم يأخذ حصة الأسد من دراسة طلاب محظرته: حفظا ورسما وتجويدا وعلوما…
ثم تأتي دراسة العقائد والفقه المالكي والنحو والمتمات (أصول الفقه وقواعده والمنطق والبيان والعروض…) بعد ذلك بكل مراحلها المتدرجة المعهودة في المحاظر.
*اليوم في حياة لمرابط الحاج *
أما “الرزمانة” أو البرنامج اليومي في حياة لمرابط الحاج، في تلك الأيام فكان كما رصده تحقيق “الشعاع” مباشرة على الطبيعة، حافلا بالعمل والنظام:
“حينما يمضي من الليل أكثره، ويسلم الكون نفسه للسكون تحت سماءٍ ذات نجوم متلألأة (حوالي الساعة الرابعة قبل الفجر) لابد أن يستيقظ النائم في هذا الحي الصغير ليسمع من حوله أصواتا متداخلة تنبعث من الأرجاء كلها: قراءات جادة ندية؛ آيات القرآن تتلى هنا وهناك، ونصوص خليل وابن مالك وابن بري… تراجع هنا وهناك.
وحين تنهض ترى النيران موقدة والتلاميذ من حولها يصطلون ويستضيئون لقراءة نصوصهم… والكون كله يلقي السمع شهيدا على هذه الصورة البديعة التي تتمنى أن تكون خاتمة كل ليلة في حياتك!
وبعد أقل من ساعتين تتلاشى تلك الأصوات في صوت واحد هو صوت المؤذن ينادي مباركاً تلك اليقظة: الصلاة خير من النوم. فيتوجه الكل إلى فضاءِ حظيرة ريفية يحميها سور من الشجر وأخشابه، من اقتحام البهائم. هذا هو المسجد.
ثم يتقدم لمرابط الحاج إلى “المحراب” الرملي فيؤم المصلين. حتى إذا قضيت الصلاة أقبل على جمع الطلاب يُدرسهم الواحد تلو الآخر، لا يبرح محرابه. وتكاد دروس هذه الحصة عادة أن تكون في القرآن، إلا إذا تدخل طالب “جديد” فألقى نصه؛ فالشيخ “لا يرد لوحا”!
ولكن كثرة الطلاب تلتهم الوقت بسرعة، فتشرق الشمس حمراء من بين الأشجار، ثم ترتفع قيد رمح فيباح النفل!
بعد ركعتي الضحى، يتوجه الشيخ إلى ظل خيمة العِلم القريبة، حيث المكتبة، وحيث ينتظر طلاب آخرون “تصحيح ألواحهم” أو قراءة نصوصهم وحل استشكالاتهم…
وبعد الزوال تتوقف الدروس قليلا ليعود الطلاب إلى مساكنهم فيقيلون. ويشغل لمرابط الحاج تلك الساعة الوحيدة بالمطالعة أو الكتابة، وربما أخذته سنة من النوم، قبل الاستعداد لصلاة الظهر. بعدها تستأنف دروس الطلاب، وخاصة في الفقه والأصول والعقائد والنحو؛ وتستمر دون انقطاع إلا ريثما تؤدى الصلوات المكتوبة (العصر والمغرب والعشاء)! حتى يمضي من الليل ثلثه أو يزيد قليلا…
ولا يحتاج الطالب كثيرا من الزمن لينسجم مع هذا النظام؛ فهو يعرف عادة الوقت الذي يقرأ فيه، وله أيضا أن يتربص حتى يجد الفرصة لسؤال الشيخ عما أشكل عليه في مراجعة درسه…
* نماذج *
رغم أن لمرابط الحاج ولد فحفو يجيد الشعر ويدرسه من خلال علم العروض، فإن الأسباب التي تدفع الشعراء عادة لم يصادف منها ما يزيد اهتمامه بالشعر وتعلقه بقرضه. ولهذا اقتصر إنتاجه الشعري على بعض الأنظام التعليمية ، وقصائد أو مقطوعات في المديح النبوي والوعظ والتوجيه، يقول في إحداها:
يا نفس قومي فارعَوِي وانزَجِري * وفجأةَ الحِمام منها فاحذَري
ولذةَ الدنيا جميعًا فاهجُري * لاسيما الهجوع وقتَ السَّحَر
ولا يَغرَّنَّك طولُ الحَضَر * فستسافرين كلَّ السَّفَر
لا تَلتَهي عنه بنَيل وَطر * أو اكتسابِ إبلٍ وبَقر
ولا بذكر البيضِ مثلِ القَمر * نحورُها تلمع ُمثلُ الدُّرَر … الخ
وفي قصيدة مدح للنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
هاجَت هموميَّ ذكرى البيت والحَجَرِ * والحِجْرِ والركن بالغَدَاةِ والسَّحَرِ
وبئر زمـزمَ فـي قلبي لها ذِكَرُ * لله ما في الحشا من حَرْقَةِ الذِّكَرِ
وما صفا العيش بعدما الصفا بعُدَتْ * كلا ولا غاب شكلُها عن البصَر
وأختها مَرْوَةٌ في القلب لوعتُها * كأنما يَصْطَلي شوقا على الجَمَرِ
وطيبةً كلما نفسي تذكرها * أذرِ الدموعَ ويرمي القلبُ بالشرر
وكيف لا، وهي دارٌ طالما سَكنَت * ذاتُ الحبيب بها وصحبِه الغُررِ
ومن فوائده النظمية قوله:
وناسخٌ لكلِّ علمٍ نَفعا * فأجرُه لَه، وأجرُ مَن وعَى
كذاكَ من حَفظ أو خطَّ فلهْ * أجرُ الذي ما بقي الذْ عمله
وعكسُ ذا ناسخُ غيرِ النافع * فكُن أخي للعلمِ خيرَ سَامع
ومن فتاواه المختصرة المفيدة:
= جواب مسألة إتيان المشعوذ: “لم أرَ فيها إلا ما نصوا عليه من عدم جواز الإتيان لمن يدعي أنه يعرف موضع الضالة والمسروق، فشدَّدوا في إتيانه وتصديقه”.
= جواب مسألة إمامة من جعل أبناءه في مدارس النصارى: “أنه يُجرَى حكم ذلك على إمامة الفاسق. ونص في “المدخل” أن من جعل ولده عند النصراني يعلمه لا إمامة له. ولا نعلم فرقا بين النصراني ومن يعلمهم دين النصارى كما هو مشاهد”!
أما مؤلفاته فتتميز غالبا بالاختصار، وقد طبع بعضها. وأهمها:
– لباب النقول في متشابه القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم (في العقيدة) .
– تلخيص منظومة الشرنوبي (في العقيدة).
– إفادة القارئ والسامع على الدرر اللوامع في مقرأ نافع.
– تنوير الحوالك على ألفية ابن مالك (في النحو والصرف)
– دليل الطلاب: شرح نظم الآجرومية (عبيد ربه) في النحو الابتدائي.
– شرح قصيدة كعب بن زهير “بانت سعاد”.
– شرح المقصور والممدود.
بالإضافة إلى بعض النوازل الفقهية
تخرجت من محظرة لمرابط الحاج ولد فحفو في منتبذها القصي حول وادي “ﮔـلاﮔـه” أجيال من طلبة العلم، بلغ منهم كثيرون درجة التصدر للتدريس. ومنهم شيوخ محاظر أجلاء وأساتذة نابهون وموظفون سامون ورجال أعمال ناجحون…
ومن أشهر العلماء المدرسين منهم: العلامة محمد يحيى بن الشيخ الحسين (يحيان) الذي قرأ عليه أول الألفية. وممن لازمه حتى تخرج: العلامة محمد الأمين بن عبد الرحمن، و العلامة أحمد فال بن أحمدنا. ومن الأجانب: الداعية الأمريكي يوسف حمزة… وهم يفوقون العد والحصر لله الحمد.
17 تعليقات