اطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي/L جمال الاتاسي
1- مع الثورة في مسارها التاريخي العام- الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر
قال عبد الناصر عام 1953 في ” فلسفة الثورة ” : ” إنني كنت بنفسي داخل الدوامة العنيفة للثورة. والذين يعيشون في أعماق الدوامة قد تخفى عليهم بعض التفاصيل البعيدة عنها… وكذلك كنت بإيماني وعقلي وراء كل ما حدث وبنفس الطريقة التي حدث بها، وإذن فهل أستطيع أن أتجرد من نفسي حين أتكلم عنه، وحين أتكلم عن المعاني المستترة وراءه؟
أنا من المؤمنين بأن لا شيء يمكن أن يعيش في فراغ . حتى الحقيقة لا يمكن أن تعيش في فراغ… والحقيقة الكامنة في أعماقنا هي : ما نتصوره أنه الحقيقة، أو بمعنى أصح : هو الحقيقة مضافاً إليها نفوسنا… نفوسنا هي الوعاء الذي يعيش فيه كل ما فينا . وعلى شكل هذا الوعاء سوف يتشكل كل ما يدخل فيه ، حتى الحقائق . وأنا أحاول – بقدر ما تستطيع طاقتي البشرية – أن أمنع نفسي من أن تغيّر كثيراً من شكل الحقيقة . ولكن إلى أي حد سوف يلازمني التوفيق ؟ .
هذا سؤال … وبعده أريد أن أكون منصفاً لنفسي ، ومنصفاً لفلسفة الثورة ، فأتركها للتاريخ يجمع شكلها في نفسي، وشكلها في نفوس غيري ، وشكلها في الحوادث جميعاً ، ويخرج من هذا كله بالحقيقة كاملة… ” .
وهذا الذي قاله عبد الناصر في بدايات ثورته ، لم يأت في سياق تقديم فلسفة للثورة التي يريدها، أو تقديم تحليل أيديولوجي لمسارها ، بل جاء في سياق النفي لذلك ، ولأن يكون كتابه فلسفياً أو يحمل فلسفة للثورة ولو أنه صدر وهو يحمل هذا الاسم . فذلك الكتاب الأول والصغير جاء ليعطي صورة أولية عن مخاض الثورة في حياة عبدالناصر وحياة وطنه وشعبه ، وليسجل المقدمات الأولى لحركة هذه الثورة واستراتيجيتها ولآفاقها العامة وأبعادها وتطلعاتها وأهدافها ، وليؤكد أصالة هذه الثورة وجذريتها ، فهي ليست انقلاباً ، وهي ليست لمرحلة تتوقف عندها ، بل هي ثورة وطنية تتطلع للمستقبل وتتطلع للشمول ، شمول الأمة وشمول تاريخها وحضارتها ، وشمول التحرر الإنساني والتقدم والنهوض بالأمة إلى مستوى العصر.
ولكن هذه الفقرة التي اقتطعناها من سياقها في كتاب ” فلسفة الثورة ” ، أتينا بها في هذا التقديم للبحث عن ” الفكر التاريخي لعبد الناصر ” ، ما جئنا بها إلا لأنها تكاد تكون تعبيراً عن سياق نضج الوعي الثوري في حياة عبدالناصر وسياق تجربته ، وليس في تلك البدايات فقط ، بل وفي استمراريتها حتى النهاية. كما وأنها التعبير ومنذ تلك البدايات ، عن الحس التاريخي عند عبد الناصر، من قبل أن يقرأ فلسفة التاريخ، ومن قبل أن يأخذ بالاشتراكية العلمية ، أي بالجدلية التاريخية، التي صاغ على أساس من مبادئها ومقولاتها العامة ، دليل عمله الاستراتيجي ” الميثاق الوطني “، بعد عشر سنوات من تلك البدايات . وهو من خلال هذا الحس التاريخي، جاء ليقول ، إن الحقيقة ليست جاهزة ولا منزلة ، بل هي صيرورة تتكامل وتتجدد في مسار التاريخ ، وهي تتشكل أيضاً في نفس الإنسان، أي في تقدم حركة وعيه الذاتي واستيعابه.
وهي صيرورة من خلال تلك الجدلية بين وعي الإنسان وقوانين التاريخ الإنساني الناظمة لحركته، هذا من غير أن يقف عند تأكيد المقولة الثانية في الفكر التاريخي وهي ” أن الإنسان يصنع التاريخ “، وعبدالناصر من خلال ثوريته، ومن خلال تفاعله مع تاريخ أمته وجماهير شعبه وفعله فيهما ، كان ممن صنعوا ذلك التاريخ .
ولكن عبدالناصر لم يكن فيلسوفآ للثورة ، ثورة الأمة العربية في هذا العصر، بل كان يعيش هذه الفلسفة إحساساً ومعاناة ، ويطبقها ممارسة ونضالاً . وعبدالناصر لم يقدم أيديولوجية أو ” نظرية متكاملة ” ومنهجاً في البحث والتفكير يدل الثورة في كل مراحلها ، إلى طريقها وأهدا فها ، ويبني الوحدة الفكرية لطلائعها وأداتها ، ولكنه كان أيديولوجية ثورية في مخاض التشكل ، من خلال التجربة الثورية الخاصة والتعلم من تجارب الآخرين ، لتأتي مطابقة للواقع الثوري الذي يتقدم به نضال شعبنا وحركة نهوض أمتنا. وكان يتحرى الكلمة التي تعبر عن حس الجماهير وعن المرحلة التي نهض إليها وعيها السياسي والاجتماعي . وكان يطالب بالفكر الموحد الذي يؤلف بين قوى الثورة العربية ويدفع على طريق وحدة برنامجها الثوري ووحدة أداتها ، ولو أنه لم يصل إلى صياغة أيديولوجبة لهذا الفكر ولم يتوصل إلى تحقيق تلك المرامي .
ومن خلال هذا المنظور، وبالتطلع إلى ذلك الهدف ، الذي تطلع إليه عبدالناصر وأراده و لم يصل بنا إليه، نعيد اليوم قراءة عبدالناصر، ونخوض في حوار مع تجربته وممارساته وأفكاره، في محاولة لاستكشاف حقيقة تلك التجربة الثورية وحقيقة تشكلها ” في نفسه ” وفي حركة الجماهير التي أعطاها الكثير وأعطته أكثر، وعن شكلها أو انعكاسها ” في الحوادث ” التي تعاقبت في حياته وبحضوره ثم من بعده وفي غيابه.
إن التقييم الذي يجري اليوم من قبل البعض، للدور التاريخي الذي قام به عبدالناصر ولفكره المتقدم في مرحلته، من خلال الفراغ الذي خلفه بغيابه عن مسرح الأحداث ، ومن خلال النكسات التي توالت من بعده ، على أرض مصر وفي أرجاء الوطن العربي ، شيء هام وجدير بالتأمل ، ولكن الأهم من ذلك، هو تقييمه وتثمينه عبر تحليل ونقد تجربته الثورية في مساره كله . فهي تجربة أمسكت بمسار الأمة العربية كلها وشدتها إليها كما لم تشدها في يوم من أيام تاريخها منذ قرون ، وشدت الجماهير، كما شدت بشكل أو بآخر، سلباً أو إيجاباً ، جميع فئاتها وقواها ، ولذا لا بد أن يكون نقدنا لها بالضرورة ، نقداً أعم وأشمل يتناول تيارات الثورة العربية ككل من خلال تجربة عبدالناصر، ثم إن قضية الثورة الناصرية ما زالت قضيتنا ، وأهدافها ما زالت أهداف جماهير أمتنا في مختلف أرجائها ، إلا أنها ثورة تعثرت وانقطعت ، ولا بد أن نعي بعمق عوامل التعثر والانقطاع ، ليكون هذا الوعي النقدي سبيلنا إلى تدارك هذا التعثر الكبير بل هذا الانحطاط الذي تردت إليه أوضاع النظم السياسية وتردت إليه الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب أمتنا، وتردت إليه حركة تحررنا ونضا! لنا، وليظل هذا الوعي النقدي متواصلاً ومتقدماً ، يضع جدلية الثورة ويدفع بحركة التاريخ . ولعل الخطأ الكبير الذي وقع به نظام عبدالناصر والأدوات التنفيذية لسلطته الثورية ، كما وقعت به ثورات ونظم ثورية أخرى ، هو أنها لم تساعد على تفتيح هذا الوعي النقدي ، أي تقدم الوعي الثوري عن طريق النقد المتواصل للتجربة الثورية في مساراتها كلها، ولم تعمل على خلق أدوات مثل هذا الوعي الجماعي ، الذي يصنع حيوية الثورة وتجددها المستمر، فضلاً عن أنها في عدد من مراحل هذه الثورة ، عملت ضد تفتح هذا الوعي النقدي وأدواته بحيث لم يمارس مثل هذا الطراز من النقد ( أي نقد الثورة لذاتها وتجربتها) إلا عبدالناصر ذاته . وكان هذا يأتي أحيانأ وبحكم الواقع والضرورات ، بعد أن تحل الكوارث والمصائب ، كما جاء النقد الذاتي لتجربة الوحدة ، بعد كارثة الانفصال، وكما جاء النقد لبنيان النظام وتكوين أجهزته وقياداته والأمور التي كانت من عوامل الهزيمة ، بعد أن وقعت الهزيمة في حزيران ( يونيه) . وإذا كان من الحق القول إن عبدالناصر قبل الهزيمة ، كان يعيش بنفسه ، استمرارية الثورة ( وكما قال في البداية عن نفسه في كلماته التي قدمنا به! ا مقالتنا) ، ” داخل الدوامة العنيفة للثورة ” يقود صراعاتها ويدفع بحركت ها إلى الأمام ويصارع أعداءها الكثر في الداخل والخارج ، فلقد كان يعيش أيضاً في إطار النظام البيروقراطي الذي يبسط مصالحه وهيمنته من حوله . وإذا كانت دوامة الثورة وحرارتها تشد الإنسان في كليته ” لتخفي عنه بعض التفاصيل البعيدة عنها “، فلقد كان من طبيعة النظام البيروقراطي واللاديمقراطي الذي شيّد في ظل قيادة عبدالناصر، أن يغيّب عن عين ” قيادة الثورة “، لا التفاصيل البعيدة، بل والكثير من الوقائع والكثير من القصورات والثغرات ومن المصالح اللاثورية والانحرافات، التي راهن عليها التآمر على الثورة والقوى المضادة للثورة والتي دخلت منها القوى المعادية ودخلت الهزيمة.
***
ونعود مرة ثانية إلى التاريخ ومنطق التاريخ، حيث تأخذ الحقيقة الإنسانية صيرورتها، وحيث تتسلسل الأ حداث وتتوالى، آخذة إيجابيتها معناها ، وحيث تفعل قوانين التطور والصراع لتدفع بمراحله وتحدد منحاها، وحيث يأخذ رجال الفكر ورجال السياسة التاريخيون دورهم في تحريك الوعي والدفع بحركة الأحداث وتحريض النقلة النوعية واختصار الزمن ، وحيث تأخذ الثورات الإنسانية للشعوب دورها في التغييرات التاريخية وتخطي المراحل ، ولكن التاريخ يبقى في تسلسله الزمني ماضياً وحاضراً ومستقبلا.
وإذا كان من منطق الفكر التاريخي ، أن يفسر الحاضر بالماضي ، وأن يجد الحدث الذي يمر الآن تعليله في توالي الأحداث التي جاءت قبله وما فعلت، كذلك فإن الماضي لا ينفصل عن حكم الحاضر عليه . والحدث التاريخي العظيم الذي تعيشه الأمة في مرحلة ، لا بد وأن يفقد الكثير من عظمته إذا ما توالت الإخفاقات من بعده وبسبب تلك الإخفاقات . وهكذا ينال كثيراً من شموخ المرحلة التي عاشتها أمتنا نضالاً وثورة وتقدماً في أيام عبد الناصر، وفي ظل قيادته وفي حضوره القومي والفاعل ، وينال كثيراً من عظمة تلك المرحلة، ما كان بعدها من انتكاس ، وما كان بعدها من ردات ومن تشتت وضياع . وذلك منطق الأمور في مراحل التقهقر الثوري ، وعندما تتوقف حركة الدفع نحوالمستقبل .
ولكن الظاهرة التي عاشتها أمتنا في مرحلة عبدالناصر وبحضوره القوي المتحرك على مسرح الأحداث ، هي أن المستقبل وآمال المستقبل أخذت تقتحم الحاضر وتفعل فعلها في حياتنا وترسم ملامحها عليها، وتؤجج حيوية الجماهير ونضالها اندفاعاً على طريق التغيير ودفعاً على طريق أهداف المستقبل ، أي أن تاريخنا بعد الركود الطويل ، أصبح تاريخاً هادفاً وأخذ يسير. ولكننا، وبعد غياب عبدالناصر عن مسرح الأحداث ، وبهذا الغياب لدوره الذي كان ، وبتدخل عدد من العوامل والقوى السلبية المضادة للثورة ولحركة تاريخ الأمة التي وجدت فرصتها في هذا الغياب ، تجمدت حركة تاريخنا وانغلق المستقبل وتاهت الأبصار دون الهدف وعادت رواسب الماضي تلقي بأثقالها على الحاضر، وتدور به في دوامة التأزم والتشتت والعجز.
إن عبد الناصر ما جاء، ومنذ البداية، نداء بالثورة وتاكيداً على ضرورتها ، لتغيير مجرى حياتنا وتاريخنا فحسب ، بل جاء وكأنه بدوره القيادي والمحرك فيها ، ضرورة من ضرورات تلك الثورة. جاء ليستشكف أمام جماهير أمته، مقدار ضياع حريتنا وقدراتنا ومقدار تأخرنا عن الركب الإنساني الصاعد، وليحرض في نفوسنا وحياتنا حافز الثورة لتدارك هذا التأخر وتحرير إرادتنا وإطلاق طاقات أمتنا ومبادراتها الإنسانية المبدعة.
والثورة التي قادنا عبدالناصر على طريقها ، لتحرير أوطاننا وإرادة جماهير أمتنا، ولتدارك تأخرنا واللحاق بركب التقدم والنهوض إلى مستوى العصر، لم تكن ثورة واحدة ومحددة ، لم تكن ثورة التحرر الوطني فحسب (حسب التحديد الأيديولوجي وحسب التحديد التاريخي والاجتماعي للثورات التي توالت في تاريخ الإنسانية) بل هي حركة تغيير ثوري ، تعددت وتداخلت مهماتها ومراحلها . وهي إذا ما انطبقت عليها تلك التسمية العامة التي تطلق على الثورات الوطنية لأقطار ( العالم النامي) ، أي الثورة الوطنية الديمقراطية المتعددة المراحل والمهمات التاريخية ، فإنها قد صاغت بذاتها ومن خلال مسارها، لحمتها الثورية الواحدة ، لتصبح ثورة الأمة العربية، لتحرير أوطانها وشعوبها، ولبناء اندماجها الوطني ووحدتها القومية، ولصنع تقدمها وبناء حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جديد على طريق الحرية والاشتراكية .
فمن أين بدأ عبدالناصر ثورته ، أو بالأحرى ثورة الأمة العربية في مرحلة القيادة الناصرية لها ، وأين وقفت هذه الثورة وإلى أين تنتهي؟
نستطيع أن نحدد بالتأكيد أين ومن أين بدأت : إنها بدأت ثورة وطنية مصرية تخلع الملك وتسقط النظام الملكي ومعه حلفه الطبقي ، أي تسقطه كنظام اجتماعي وسياسي ، وتطرد الاستعمار وأعوانه . ولقد حققت ثورة عبدالناصر ، أول ماحققت ، ذلك الاستقلال الوطني الكامل للقطر المصري وحكم أبناء شعبه كما لم يتحقق منذ عشرات القرون .
إنها ثورة التحرر الوطني وهي تواصل مسارها، ولكنها، ولوجود عبدالناصر على رأسها وما جسده هذا الوجود لعبدالناصر، رجل التاريخ والمتعامل مع حركة التاريخ ، عبدالناصر المنفتح بكليته على الشعب وأحاسيسه وتطلعاته، والفاعل في حركة الجماهير والمتفاعل معها ، يصنع معها وبنضالها وبتقدم وعيها، حركة التاريخ ، فإن هذه الثورة أخذت صيغة الثورة المستمرة ، محددة أبعادها الأولى في أنها ثورة سياسية واجتماعية معاً ، صاعدة بهذه الثورة مراحل وأطواراً ، آخذة شيئاً فشيئاً بعدها القومي العربي دفعاً على طريق وحدة نضال الأمة ووحدة أهدافها ، وعلى طريق اندماجها ووحدتها، متطلعة إلى أن تكون ثورة شمولية تقدم تجربتها الإنسانية ومعانيها الحضارية .
تلك بداية وذلك مسار، أما أين انتهت وأين يمكن أن تنتهي مثل هذه الثورة، فقد قال عبدالناصر بعد عشر سنوات من البداية : يسألون أين نقف بثورتنا ” لا أعرف أين نقف ، إننا لن نقف إلا عندما ينتهي استغلال الإنسان للانسان … “. وهذه النهاية جدلية مثل جدلية الصراعات الاجتماعية والاقتصادية وجدلية التاريخ الإنساني ، وتظل مفتوحة على المستقبل .
إنها ثورة بدأت من استيعاب تاريخ النضال الوطني التحرري لمصر، ومن استيعاب مراحله السابقة وانتفاضاته الثورية، واستيعاب قصورات ذلك النضال وعثراته ، لتنتقل إلى استيعاب معطيات الحاضر. وهي إذا ما أعطت المقدمات الأولية لهذا الاستيعاب في كتاب ” فلسفة الثورة ” ، مؤكدة على الأبعاد الزمنية والأطر ” المكانية ” التي تتحرك فيها هذه الثورة فلقد جاء عبد الناصر ليوضح بعد ذلك هذا الاستيعاب ، في مقدمة ” الميثاق الوطني ” ، من خلال استعراض قصورات الثورة الوطنية المصرية لعام 1919 وعوامل انتكاسها وفشلها، وقد حدد ثلاثة جوانب من تلك القصورات :
” أولاً – إن القيادات الثورية ( في تلك المرحلة) أغفلت إغفالاً يكاد أن يكون تاماً مطالب التغيير الاجتماعي ، على أن تبرير ذلك واضح في طبيعة المرحلة التاريخية التي جعلت من طبقة ملاك الأراضي أساساً للأحزاب السياسية التي تصدت لقيادة الثورة …
ثانياً – إن القيادات الثورية في ذلك الوقت لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستطع أن تستشف من خلال التاريخ أنه ليس هناك من صدام على الإطلاق بين الوطنية المصرية وبين القومية العربية . لقد فشلت هذه القيادات في أن تتعلم من التاريخ ، وفشلت أيضاً في أن تتعلم من عدوها الذي تحاربه ، والذي كان يعامل الأمة العربية كلها على اختلاف شعوبها طبقاً لمخطط واحد…
ثالثاً- إن القيادات الثورية ( تلك) لم تستطع أن تلائم بين أساليب نضالها وبين الأساليب التي واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب في ذلك الوقت…” .
وهكذا فعلى محور الصراع الاجتماعي والطبقي ، وعلى محور النضال الوطني والقومي العربي وعلى محور النضال ضد الاستعمار بأشكاله التقليدية والامبريالية الجديدة ، على هذه المحاور الثلاثة صاغت الثورة الناصرية حركتها التاريخية. ولكن عبدالناصر، وفي إطار الواقع التاريخي والجغرافي والسكاني لمصر، وفي إطار معطيات الواقع العربي وفواصل التجزئة القائمة بين أقطاره واختلاف أطوارها في التقدم والتحرر واختلاف نظمها، ثم وفي مواجهة ذلك الواقع المتجسد بقيام الكيان الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني التوسعي المدعم بالحلف الإمبريالي- الصهيوني العالمي ، أراد أن يجعل من مصر، القطر العربي الأكبر والأكثر تقدماً في اندماجه الوطني وتطوره الاجتماعي والثقافي وكذلك في موقعه الاستراتيجي الدولي، ذلك المرتكز الذي لا بد منه لبناء تلك الثورة بكل أبعادها الاستراتيجية والاجتماعية والوطنية والقومية والدولية ، وأن يجعل من تجربته في مصر النموذج والقدوة ، وأن يحمل مصر العبء الأكبر، وأن يجعل منها المرتكز الاستراتيجي لثورة الأمة ، تمشي في مقدمتها، وتدفع بحركتها وتقود تلك الحركة.
لقد قامت ثورات وحركات متعددة في أرجاء مختلفة من الوطن العربي ، بعضها جاء من قبل عبدالناصر، وبعضها في حضوره وبمساندته، وبعضها قام في منافسة ومن خلال ادعاء التقدم عليه… بعضها كان شامخاً شموخاً كبيراً وله رصيده العربي والدولي الكبير كثورة الجزائر حين مشت بنضالها الرائع إلى النصر، ولكن أياً منها لم تأخذ بعدها القومي وبعدها الشمولي مثل ثورة عبد الناصر، لعاملين اثنين هما : دور مصر وشعب مصر ومكانة مصر في الوطن العربي ، والدور التاريخي لشخصية عبدالناصر، ثم هناك علاقة قيادة عبدالناصر بجماهير الأمة ، تلك العلاقة التي لم تقم لقيادة غيرها .
وأذكر بهذا الصدد كلمة للرجل الذي كان رمزاً كبيراً من رموز الثورة الجزائرية والرئيس الأول لدولتها الوطنية المستقلة أحمد بن بلا . كان ذلك في شهر أيار (مايو) عام 1963 عند زيارة وفد رسمي وشعبي من ” حركة 8 آذار (مارس) في سورية ” للجزائر، وانفردت للحظة في إحدى مناسبات تلك الزيارة بالرئيس بن بلا ومعنا رجل ثالث ، وكان الحديث عن الوحدة الثنائية (مصر وسورية) أو الثلاثية (مصر- سورية – العراق) وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه قيادة ثورة الجزائر في التأثير على الجانبين الصديقين لها، دفعأ بمسيرة الوحدة إلى الأمام . وشاء الرجل أن يتحدث عن النقلة النوعية التي يمكن أن تحدثها الجزائر إذا ما دخلت في المسيرة الوحدوية، وعن إمكانية أن تحل الإشكالات بأن تأخذ القيادة الثورية الجزائرية دورها القيادي في تلك الوحدة . وجاء جواب أحمد بن بلا بما يعني على وجه التحديد: ” قضيتكم اليوم أن تقوم وحدة ثلاثية بين مصر وسورية والعراق ولا بد من التركيز على إنجازها، وهناك وجهة نظر هي أن تكون البداية بإعادة الوحدة بين مصر وسورية أولاً ، وهي وجهة نظر محقة لما تعنيه من إسقاط فعلي للانفصال وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي ! . أما موضوع الجزائر فإنني مؤمن بالوحدة وضرورتها ولكننا ما زلنا في بداية استقلالنا الوطني ولدينا مهمات كثيرة وعويصة لا بد من إنجازها لنضع أنفسنا على هذا الطريق . ولكن لتكن الأمور واضحة أمامكم ، لا وحدة إلا بمصر أولأ ولا وحدة إلا بعبد الناصر رئيساً لدولتها . فهناك مصر وحجم مصر أو دورها، وهناك أيضاً دور عبد الناصر كرئيس لمصر وشعبيته العربية . فلو افترضنا أننا انضممنا بالجزائر لوحدة من هذا القبيل ، فإنه سيكون من السهل علينا في مثل هذه الحال إقناع شعب الجزائر بالتصويت للرئيس عبدالناصر رئيساً له ولدولة الوحدة . ولكنني لا أتصور مطلقاً أن بالإمكان إقناع شعب مصر، بل ولا شعب سورية ولا أي شعب عربي آخر يدخل الوحدة ودولة الوحدة ، أن يكون رئيساً له غير رئيس مصر وغير الرئيس جمال عبدالناصر ” .
فمصر والدور القومي الكبير لمصر، ومصر بعبدالناصر والحيز الذي شغلته قيادة عبدالناصر، عاملان استراتيجيان كبيران في إرساء معالم ثورة الأمة تلك ، وعبدالناصر، ومنذ حرب السويس عام 1956، جاء يحتضن قضية الأمة العربية كلها، ونضال الأمة على جميع ساحاتها، وعاش لهذه القضية ولذلك النضال بكليته وقضى على طريقهما وفي سبيلهما.
ولكن ثورة عبد الناصر التي كانت الثورة المستمرة والمتعددة المراحل والمتجددة صعوداً إلى الأمام، هذه الثورة أين كان توقفها، وما هو سر توقفها عند غيابه. ولماذا جاء هدا الانتكاس وصعود قوى الثورة المضادة من بعده، وصعودها في مصر أولاً لترتد بها عن طريق الثورة، ولتخرج بها عن طريقها الوطني والقومي الثوري ، وليسهل على قوى الثورة المضادة أن تمتد بعد ذلك إلى العديد من الساحات العربية. ذلك أن تلك الثورة ، ولو أنها احتضنت قضية الأمة العربية كلها، وكانت التعبير عنها في مرحلة أساسية من مراحل التحرر العربي والنهوض ، ومن مراحل تاريخها، فإنها كانت ثورة بمصر وبعبدالناصر، كحلقتين قويتين من حلقات تركيبها وتكوينها. وبعد أن ذهبت قيادة عبد الناصر دون أن تخلف بديلاً لها وفي مستوى دورها وفعلها، تحركت الثورة المضادة من داخل مصر وخارجها، بل ومن داخل النظام الناصري نفسه، لتضرب الحلقة الثانية ، ولتجهض مشروع عبدالناصر في الثورة العربية الشاملة.
إنها قوى الثورة المضادة من أعداء التقدم وأعداء تحرر الأمة ووحدتها، كانت دا ئماً موجودة وأمام كل عثرة من عثرات الثورة وأمام كل مأزق من المآزق التي مرت بها. كانت تتهيأ للانقضاض، ولكن وجود عبد الناصر والتحام حركة الجماهير به كانت تقف سداً في وجهها . لقد تهيأت للأنقضاض عند حرب السويس، وكذلك عند انفصال وحدة مصر وسورية . ولكن ذلك ما كان ليعطي إلا دفعاً جديداً للثورة ، ونقلة نوعية جديدة ، إلا أن قوى الثورة المضادة استطاعت أن تجد رصيداً لها داخل نظام حكمه أيضاً ، ومن خلال ثغرات في تكوينه وفي تركيبه الاجتماعي ومن قصورات ديمقراطية فيه. ومحاولة الانقضاض من داخل النظام لم تأت بعد غياب عبد الناصر فقط ، بل وجاءت عندما اهتز النظام واهتزت ثورة عبد الناصر، بل وثورة الأمة العربية كلها وما بيتت عند هـزيمة حزيران (يونيه)، وعبّرت عن نفسها في تلك المؤامرة العسكرية التي استجر إليها المشير عبد الحكيم عامر على رأس زمرة من قيادات الجيش المهزوم والأجهزة المتواطئة ، والتي تحركت في 11 حزيران (يونيه) للاستيلاء على الحكم ووقف في وجهها عبد الناصر بلا جيش، وإنما بحضوره وبحركة الجماهير العظيمة التي رفعته من ! جديد في 9 و 10 حزيران (يونيه) .
إن الكثيرين ممن كتبوا وبحثوا وأعطوا تقييمات لمرحلة عبد الناصر ولتجربته الثورية وقفوا عند الهزيمة ، هزيمة حزيران (يونيه) ، وأوقفوا ثورة عبد الناصر عندها، واعتبروها هزيمة لها، وإن اختيار الحرب لم يكن كاشفاً لثغرات فيها وثغرات نظامها فحسب ، بل وهزيمة لبرنامجها ونهاية وقفت عندها تلك الثورة .
والواقع أن تلك الهزيمة واختيار الحرب ، بالشكل الذي جاءا عليه، كانا اختباراً قاسياً وخطيراً لعبد الناصر وثورته، كاد يسقطه ويسقط نظامه، ولكن الجماهير التي تحركت في 9 حزيران ، في مصر أولأ ثم في أرجاء الوطن العربي الكبير، وقفت حائلاً دون هزيمة عبد الناصر وهزيمة ثورته ، وأحبطت حركة الثورة المضادة ، وأعادت عبدالناصر إلى موقع القيادة . لقد ذهل الكثيرون ، ولكن من غير العرب، في أن يروا جماهير أمة بأكملها تقف مثل هذه الوقفة وتسير وراء قائد خسر الحرب ، ذلك أنهم لم يدركوا طبيعة الرابطة والعلاقة الثورية التي قامت وتوطدت بين جماهير الأمة وعبدالناصر، وأن حضوره في تلك المرحلة أصبح وكأنه من مستلزمات استمرار ثورتها بل ومن مستلزمات تاريخها.
إنها واحدة من المواقف القليلة التي وجد فيها عبد الناصر الجماهير أمامه لا وراءه ، بل وعندما كانت الجماهير تطالبه بالعودة لقيادة ثورتها، كانت أمامه. وهذا ما استوعبه عبد الناصر كلية، واستجابته لإرادة الجماهير في العدول عن استقالته، أخذ بها كإرادة للجماهير في التغيير، وفي تجديد حيوية الثورة وتصحيح مسارها.
إننا نعيش اليوم، وبعد أربعة عشر عاماً من ” حرب الأيام الستة ” مرارة الهزيمة بكل أبعادها ليسود هذا الجو من التمزق الرهيب الذي تعيشه أمتنا ضياعاً عن أهدافها، وعجزاً عن التصدي لآثار تلك الهزيمة ذاتها. فتلك الهزيمة كشفت ، حتى العظم، عن ضعف ما بناه التقدم العربي ، بل عن ضعف بنيان نظام عبد الناصر الذي كان متقدماً على كل ما عداه من النظم العربية. ولكننا نظلم ثورة عبد الناصر ونظلم تاريخ أمتنا إذا ما وقفنا بتلك الثورة عند تلك الهزيمة أو عند هذا التردي الذي آلت إليه أوضاعنا العربية اليوم وأغفلنا تلك المرحلة التي جاءت في أعقاب الهزيمة مباشرة ، ورداً عليها، وإذا أغفلنا النهج الذي سار فيه عبدالناصر تصدياً للهزيمة ونتائجها، وحفاظاً على مكتسبات الثورة وأهدافها . وحري بنا أن نقول عن عبد الناصر بهذا الصدد ما قاله في كلمته التي ألقاها بمناسبة ذكرى الثورة في 23 تموز في أعقاب الهزيمة مباشرة : ” إنني أثق أن أجيالاً قادمة سوف تلتفت إلى هذه الفترة وتقول : كانت تلك من أقسى فترات نضالهم، لكنهم كانوا على مستوى المسؤولية وكانوا الأوفياء بأمانتها… ” .
ولكن الهزيمة، ثم عودة عبدالناصر إلى قيادة الأمة من جديد تحت شعار ” إزالة آثار العدوان ” الذي رفعه عبد الناصر شعاراً مرحلياً لمعركة ” لا بديل عن النصر فيها ” أدخل الثورة الناصرية في طور جديد، ووضعها أمام تلك المهمة المرحلية التي أصبحت متقدمة على كل ما عداها من المهمات ، وكأنها رهنت تلك الثورة لها ، وأوقفتها عند إنجازها، لتقوى على تثبيت استمراريتها من بعدها . ولكنها أيضاً، ومن خلال ذلك الهدف المحدد الذي حصر عبدالناصر مهمته التاريخية في تلك المرحلة بإنجازه ، فقد كان مطالباً بمراجعة مساره الاستراتيجي كله .
إن الجيوش قد هزمت في الحرب ، ولكن إرادة الأمة لم تهزم … هذا هو المؤشر الذي استمده عبد الناصر من حركة الجماهير عندما عاد إلى موقع القيادة ، وراح يجدد المسار واعتبر أن تلك الهزيمة مسؤوليته من خلال موقعه القيادي الذي كان يحتله في نضال الأمة ، وأن إزالة آثار تلك الهزيمة أصبحت مهمته الأولى التي لا بد له أن يحمل أعباءها كلها، ثم يكون بعد ذلك، حكم الأمة عليه وعلى ثورته، وحكم التاريخ .
وموقفه منذ العاشر من حزيران (يونيه) لعام 1967 يمكن أن يتلخص بكلمات : لقد قاد الأمة وهزمت في معركة حربية، وأعادته الأمة إلى قيادتها فلا بد أن ينتصر. وصب كل جهده وبكل ما يطيق انسان وبكل ما يفكر ويعمل ويقوى ، على أن يجعل الهزيمة معركة في حرب لم تتوقف ولم تنته ، والانتصار في تلك الحرب أصبح الضرورة التاريخية التي لا بديل عنها، وليس لاسترجاع الارض المحتلة واجلاء العدو عنها فحسب، بل تاكيداً لقضية ثورة الأمة ولاستمراريتها وقدرتها على انجاز مهماتها وتحقيق أهدافها.
لقد ظل عبدالناصر هو نفسه من حيث توجهه العام الفكري والسياسي ، الوطني والقومي والاشتراكي، ومن حيث مبادئه ومنطلقاته، ولكنه انتقل نقلة نوعية الى طور جديد، وأضاف وأصبح شيئاً جديداً وتسلح بخبرات جديدة . لقد ظل الثورة ، ولكنه أصبح عقلنة الثورة وعقلانيتها التي تضع كل شيء على محك الواقع الملموس وعلى محك الجدوى .
كان مسار عبدالناصر، كما قال في كثير وكثير من المرات، التعلم من التجربة والخطأ. ولكن بعد الهزيمة لم يعد هناك أمامه من هامش كبير للخطأ ولا من مجال للتجربة ، فالممارسة لا بد أن تخضع لمنهجية واضحة كل الوضوح وأن تكون حساباتها دقيقة سواء في التخطيط أو في التطبيق والعمل .
وتقدم عبدالناصر بعد الهزيمة، وبجهد خارق لا يقبل التردد والكلل، تقدم على طريق بناء قوة مصر وصمودها، جدد بناء جيشها وتسليحه وتدريبه وترسيخ قوته ، وزج في صفوفه بكل خريجي الجامعات وكل الكفاءات المتاحة، ونقله أيضاً نقلة نوعية . وجدد بناء الدولة والنظام وأسقط ما قوي على اسقاطه من داخله، من ترهل ومواقع قوى وأجهزة مخابراتية ومعوقات . وصمد بالاقتصاد رغم الخسائر الكبرى ، وعزز حركة الا نتاج وأعطى لحركة الجماهير حيزاً أوسع من الرقابة على الدولة ومن الدفع بها. ولو أن وعد ” الديمقراطية السليمة ” ظل وعداً مؤجلاً في جوانب عديدة منه، والى أن ينكسر العدوان . لقد أحدث تغييرات في إطار التنظيم السياسي والتنظيمات الشعبية والحكومية والمجالس وأبقى المجالس واللجان بحالة انعقاد الى أن تنتهي المعركة ثم يأتي التقييم والحساب والتغيير الثوري .
بل وعندما تحركت مظاهرات العمال والطلاب في وجه النظام في أواخر شباط ( فبراير) لعام 68 ، احتجاجاً على ضعف الأحكام التي صدرت بحق العسكريين الذين تسببوا بهزيمة حزيران (يونيه)، واصطدمت مع قوات الأمن ، لم يقف ليندد بتلك التحركات الشعبية ، بل اعتبرها دليل صحة وعافية ولو أنه كشف عن طبيعة بعض القوى المضادة للثورة التي تحاول ان تستغل هذه الاجواء في ظروف الحرب ونادى ” لا يجوز أن تقع الثورة في تناقض مع الجماهير صاحبة الحق في الثورة وصاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة أو أن تقع في تناقض مع العمال أو الطلبة أو مع جماهير الشعب العامل … ” بل وجد في ذلك التحرك الشعبي دليلاً على أن جماهير 9 و 10 حزيران ( يونيه) ما زالت يقظة وتطالب بالتغيير وتطالب بالحساب ومضى على طريق التغيير وعلى طريق المعركة، وقدم ترجمة عملية لذلك في بيان 30 آذار (مارس) ، الذي جاء برنامجاً مرحلياً لانجاز المهمات الضرورية واللازمة لتحقيق الهدف المرحلي، هدف إزالة آثار العدوان .
ولكن بيان 30 مارس كما جاء محدداً بذلك الهدف المرحلي الذي وضعته الهزيمة على طريق الثورة، ظل منهاجاً مرتبطاً كل الارتباط بالبرنامج الاستراتيجي الأساسي للثورة ، وهو البرنامج الذي نص على منطلقاته ومقوماته وأهدافه ” ميثاق العمل الوطني ” .
لقد أصبح منهاج ” ازالة آثار العدوان ” في تلك المرحلة معياراً للثورة يحكم مسارها ويراجع ويعدّل في عدد من مواقفها وانجازاتها، ولكنه ظل منهاجاً في الخط الأساسي للثورة ، يرصد بعدها التاريخي العام والتزامها بأهداف الأمة. وكما قال عبدالناصر في خطبته التي افتتح بها ” مجلس الأمة الجديد ” في 30 كانون الثاني (يناير) عام 1969، نعمل سياسياً ونناضل عسكرياً لدحر العدوان ونظل دائماً تحت نفس الأعلام التي وقف تحتها نضالنا الوطني والقومي… مهما حاولت قوى الاستعمار… ومهما حاولت قوى الاستغلال… ومهما حاولت اسرائيل أداة هذه القوى كلها … سوف نظل دائماً تحت علم التحرير. وسوف نظل دائماً تحت علم الاستقلال الوطني . وسوف نظل دائماً تحت علم الوحدة العربية. وسوف نظل دائمأ تحت علم الاشتراكية. وسوف نظل دائماً تحت علم عدم الانحياز…” .
ولقد وقف بعد ذلك بأيام ، ليقول في 29 كانون الثاني (يناير) عام 69، في افتتاح المؤتمر الرابع للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب : ” إن الأرضية الأصلية وراء الصراع العربي الاسرائيلي هي في الواقع وعلى وجه الدقة أرضية التناقض بين الأمة العربية… وبين الاستعمار… وفيما مضى كان سلاح الاستعمار ضد الأمة العربية هو سلاح التمزيق . وبعد حربين عالميتين تعاظم الإيمان بالوحدة العربية فقد لجأ الاستعمار الى اضافة سلاح التخويف الى سلاح التمزيق … وسلم وطناً من أوطان الأمة العربية غنيمة مستباحة للعنصرية الصهيونية المدججة بالسلاح لكي يتم تكريس التمزيق للأمة العربية ولتحقيق تخويفها باستمرار… فضلاً عن استنزاف كل امكانيات القوة العربية … ولقد زاد من حدة التناقض بين الأمة العربية والاستعمار ظهور الحركة التقدمية العربية بقيادة الفلاحين والعمال العرب ، الأمر الذي دفع الاستعمار الى مغامرات عنيفة ومخيفة ، عبرت عن نفسها… بحرب السويس ، ثم عبرت عن نفسها مرة ثانية سنة 1967 في ماعرف فيما بعد بحرب الأيام الستة والتي هي في الحقيقة حرب لم تنته حتى الآن”.
وفي هذا المجال بالذات فقد استطاع عبدالناصر أن يقف في وجه الهزيمة ويصمد لها وأن يحولها الى اندحار في معركة لحرب ما زالت متواصلة . ولقد تواصلت فعلاً ، بدءاً من حرب المدافع على السويس وهجمات الكوماندوس المصري ، وصولاً الى حرب الا ستنزاف ، وإعداداً للانتقال الى حرب التحرير. وكان في تقديرات عبدالناصر أن ينتقل الى تلك الحرب التحريرية وعبور القنال قبل نهاية عام 1970. واذا ما أشهر البعض هنا في وجهنا اعتراضاً ، حول قبول عبدالناصر بمبادرة روجرز في تموز (يوليو) من ذلك العام، واذا ما استغل ذلك القبول في حينه، كما استخدم من بعد وفاة عبدالناصر من قبل القوى المعادية لثورته للتشكيك بتصميمه القاطع على التحرير، فان ذلك القبول وفي السياق العام الذي جاء فيه، وفي إطار ممارسات عبدالناصر كلها في تلك المرحلة، الداخلية والعربية والدولية، يأخذ مكانه الواقعي كتكتيك بين جملة التكتيكات التي سار فيها عبدالناصر، وبدءاً من القبول بقرار مجلس الأمن رقم 242، لاعطاء آفاق للعمل السياسي وللتعامل مع القوى الدولية والفعل فيها، ثم كان ذلك القبول فرصة لالتقاط الأنفاس العسكرية في مهلة ايقاف إطلاق النار المحددة ، لاست! كمال الاستعداد للعبور وتقديم سلاح الصواريخ الى جبهة القتال …
وأذكر بهذا الصدد كلاماً سمعته من عبدالناصرفي لقاء كان لي معه في الاسكندرية في آب (أغسطس) عام 1969. كان موضوع ذلك اللقاء تعاون سورية مع مصر في معركتها المصيرية هذه أي ” معركة ازالة آثار العدوان ” وما هو مطلوب من القوى الوحدوية في سورية من مواقف ايجابية لتعزيز هذا التعاون لصالح المعركة والانتصار فيها. وما كنت بحاجة لطرح بداية السؤال : أين أصبحنا على طريق المعركة… لأرى كل شيء صريحاً وواضحاً أمامي ، فلقد كان عبدالناصر مأخوذاً بكليته للاعداد لها فكرياً ونفسياً ، وسياسياً وعسكرياً ، وبخاصة عسكرياً . والشعارات التي كنا نسمعها تتردد على لسانه في كل خطاب وتصريح ومناسبة ” لا بديل لنا عن النصر في هذه المعركة… وما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة… ” كانت مترجمة الى وقائع وانجازات وخطط ، وكان حينها يستعد لمباشرة حرب الاستنزاف وقال : ” لقد نفد صبر شعبنا ، إنني أعيش مع الشعب إحساسه هذا. لقد بذلنا جهداً كبيراً لكي يصبر علينا شعبنا، اذ لا بد أن يكون إعدادنا كبيراً وكاملاً … إن لدينا اليوم نصف مليون جندي ونيّف تحت السلاح، ولقد تدربوا وبسرعة مذهلة ووصلوا الى كفاءة ممتازة ، وسنصل بهذا الج! يش المؤهل الى مليون جندي . لقد كنت اليوم في اجتماع عسكري مشترك على مستوى القيادة العليا، إن تقدير قيادة أركان جيشنا، وكذلك تقدير الخبراء السوفيات الذين يشاركوننا ، أن جيشنا قادر اليوم على خوض معركة ناجحة ضد اسرائيل واجتياز القنال إلى الضفة الشرقية، ولكن المسألة لا يمكن ان تتوقف عند معركة محدودة ( كما كانت تتحدث بعض الصحف ذلك الحين) ولا عند اجتياز القنال . ان معنويات جنودنا وضباطنا رائعة ويريدون القتال ، والشعب يدفع بقوة ويريد، ولكن المعركة لا بد ان تمضي في طريقها كحرب تحرير، وأن تواجه مختلف الاحتمالات السياسية والعسكرية لعدونا الاسرائيلي ومن وراءه. إنني ما زلت بحاجة ، وفي المسار الذي نحن عليه الى سنة أو سنة ونصف تقريباً لاستكمال مستلزمات هذه الحرب، وكذلك للاستفادة من دعم أصدقائنا السوفيات والسير بهم الى التزام أقوى بمعركتنا هذه في مواجهة التزام أميركا باسرائيل ، ووجودها العدواني على أرضنا… ولكن هذه المدة من الاستكمال لن تكون مجرد إعداد وانتظار، بل سنشن فيها حرب الاستنزاف ، إن هذه الحرب الأولية ستؤهل جنودنا اكثر وتحافظ على جاهزيتهم القتالية، كما ستشد جماهير شعبنا من الداخل! ، وجماهير الأمة العربية دفعاً على طريق المعركة واستمراريتها الى أن نح قق هدفنا كاملاً … ” .
وفي ذلك الحديث، كما في كل المواقف والأحاديث ، كان تصميم عبدالناصر قاطعاً . وكان تطلعه المستقبلي وتطلعه لاستمرارية الثورة ولأهداف الأمة، من خلال إنجاز تلك المهمة، مهمة الانتصار في حرب ” إزالة آثار العدوان ” .
كذلك كان موقفه في تلك المرحلة، عندما يطرح عليه الكثير من المسائل والقضايا الكبرى ، كمسائل الوحدة مثلا ، أو مسألة الثورة الفلسطينية وفصائلها، أو مسائل وحدة قوى الثورة على المستوى القومي، ووحدة أداة تلك الثورة.
ولكن عبدالناصر، ومن خلال موقعه القيادي ومسؤولياته، اذا ما ظل محاصراً في تلك المرحلة بذلك الهدف المحدد، واذا ما حصر همه بإعادة بناء جيش مصر المقاتل ، وببناء صمود المجتمع المصري من ورائه ، وبالفعل في السياسة العربية والدولية لصالح ذلك الهدف ، فانه لم يضع قيداًً بذلك على حركة القوى الثورية العربية الأخرى في أن تعمل لما هو أكثر من ذلك الهدف أو لما سيكون بعده. فعبدالناصر ولو أنه أراد تحديد دوره في تلك المرحلة بازالة آثار العدوان ، فان الدور التاريخي الذي أعطته له جماهير الأمة ظل يحاصره ويطالبه بما هو أكثر، وموقفه من المقاومة الفلسطينية واضح وصريح في هذا المجال . فمنذ البداية وفي مرارة الهزيمة، وجد في صعود النضال الفلسطيني المقاوم، وبخاصة في عمليات حركة فتح ، ومضة رائعة من ومضات الأمل ومن التأكيد على الحيوية الثورية للأمة وعلى استمرارية الكفاح من أجل القضية… ولقد وجد أن من الطبيعي بل ومن الضروري أن ترفض المقاومة ويرفض الفلسطينيون ما قبلته مصر من قرارات مجلس الأمن ، وأن لا يوضع أي قيد على حركة المقاومة ونضالاتها ، وما كان يريد لها الا ان تصمد وتستمر وأن تكون بحق طليعة متقدمة من ط! لائع الثورة العربية، وليس دفعاً على طريق ” إزالة آثار العدوان ” ، فمهمتها لا تتحدد بهذا الهدف، بل ولما بعد ذلك ولما هو أبعد من ذلك بكثير. ولقد ظل ثابتاً عند هذا الموقف من المقاومة، رغم الكثير من الانتقادات والتجريحات التي نالته من بعض عناصرها وفصائلها، ورغم تحريضات تلك العناصر العنيفة ضده والتشكيك بمساره . وبخاصة عند قبوله مبادرة روجرز، وهو لم يسكت صوتها الاذاعي في القاهرة لفترة الا بعد أن أصبحت تحريضاً ضده داخل مصر ذاتها ، وعندما وقعت الواقعة مباشرة بعد ذلك وحل أيلول الأسود، كانت له وقفته المشهودة في الانتصار لها ، وكان إرهاقه من تلك الأحداث الدامية وعذابها ، الطعنة الأخيرة التي وجهت لقلبه فقضى .
ومثال آخر: موضوع الوحدة العربية والدفع على طريق خطوات وحدوية . فلقد كان شاغله الوصول في تلك المرحلة الى أقصر ما يمكن الوصول إليه من التماسك العربي في وجه مخططات أعداء الأمة، وتوظيف كل ما يمكن توظيفه من طاقات الأمة الجاهزة لصالح المعركة واسكات كل ما يمكن اسكاته من تناقضات أمام ذلك التناقض الخطير بين مصلحة الأمة ككل ، وبين عدوها الاسرائيلي المحتل لأرضها والحلف الصهيوني- الامبريالي المساند له. وكثيراً ما كان قادة النظام السوري ذلك الحين يطرحون عليه في لقاءات التنسيق معه تمنيات تتعلق بموضوع الوحدة والقيام بخطوات وحدوية بين مصر وسورية. وكان يجيب : ” دعونا الان نعمل للمعركة وللتنسيق من أجلها ولوحدة القوة فيها، وأخشى أن يؤدي فتح ملف الوحدة الى إثارة تناقضات نحن بغنى عنها الآن ” . ولكن هدف الوحدة، وقوة الوحدة لم يغيبا عن فكره واستراتيجيته الشاملة يوماً ، بل وعندما جاءت ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) في ليبيا كومضة ضياء جديدة في أيام النكسة، ورافداً جديداً للنضال العربي ، أصبح من اهتماماته الكبرى أن ينجح نظام تلك الثورة ويثبت ويقوى . ولقد جاءت الثورة الليبية منذ بدايتها تطرح عليه قضية! الوحدة ، وكان في ذلك بعض الارباك لعبدالناصر ولخط سيره في مواجهة ضرورات المعركة، وأراد لتلك الثورة أن تصلّب عودها في البداية بنفسها . ولكنه عندما جاء لزيارة ليبيا في حزيران ( يونيه) عام 1970 بمناسبة احتفالها بجلاء القوات الأميركية عن قاعدة ” عقبة بن نافع “، وتعرف عن قرب الى ما تواجهه القيادة الثورية الفتية من مصاعب ، فان تخوفه على تلك الثورة فرض عليه أن يفكر بالحل الوحدوي . لقد كان رئيس الجمهورية السورية ذلك الحين ( الدكتور نور الدين الأتاسي) موجوداً معه بتلك المناسبة في ليبيا ، وأرسل عبدالناصر يوقظه من نومه قبيل الفجر ( وبعد اجتماع طويل لعبدالناصر مع قيادة الثورة الليبية حتى ذلك الوقت) ليطرح عليه موضوع الوحدة واقامة اتحاد ثلاثي بين مصر وسورية وليبيا . لم يرد عبدالناصر أن ينفرد بوحدة مع ليبيا، لما يمكن أن تعطيه تلك الوحدة من انطباعات في بسط الهيمنة المصرية عليها. وأخذت الحماسة ليلتها مأخذها بالجميع، وذهبت الاستعدادات الفورية لتنقل في طائرة واحدة الرؤساء الثلاثة صباح اليوم التالي ( وكان يوم جمعة) ليصلوا صلاة الجمعة في المسجد الأموي ، وشكلت لجنة متابعة. وسافر بعدها عبدالناصر ! مباشرة الى الاتحاد السوفياتي . وكان من أخطر الموضوعات التي طرحها على ا لزعماء السوفيات في لقائه الأخيرمعهم، فضلاً عن مواضيع التسليح وشبكة الصواريخ والمواقف الدولية ، موضوع الوحدة، فلقد كان يهم عبدالناصر، أن يكون هذا الأمر وضروراته واضحاً أمام السوفيات وأن يكون موقفهم ايجابياً منه، وأن لا يعطي أي انعكاس سلبي على مساندتهم لعبدالناصر وللأمة العربية في معركتها ضد العدوان، ولقد كان التفهم السوفياتي جيداً والاستجابة معقولة . وعاد عبدالناصر، وظل للمعركة أولاً، وأعلن في 23 تموز (يوليو) قبول مبادرة روجرز وقبول وقف اطلاق النار ثلاثة أشهر. وذهب عبد الناصر، وأخذت المطامح والمطامع فرصتها، وتقدمت في الساحة ولكن على طريق غير طريق عبدالناصر، ووضعت نفسها في تعارض مع حركة الجماهير بل وفي تصادم معها غالباً ، وليس في تفاعل معها ومع طموحاتها.
***
هذا تاريخ أمتنا وقيادة عبدالناصر كانت قمة فيه، ومن بعدها كان الانحدار الذي لم يتوقف . ومن قبل عبدالناصر كانت هناك مقدمات وانجازات على طريق النضال القومي، وأمسك عبدالناصر بتلك المقدمات والانجازات كلها ، وصاغها فكراً وممارسة وعملاً ، صياغة نهضت بالأمة وتقدمت بثورتها مراحل وخطوات . وكانت هزيمة حزيران (يونيه) الامتحان الرهيب الذي كاد يسقط تلك القيادة ويسقط تجربتها الثورية . شيء واحد بقي وقتها في الساحة هو القوة العفوية لحركة الجماهير، تلك القوة الثورية التي وقفت في وجه السقوط ووجه الهزيمة وأعادت عبدالناصر ليتابع مهمته التاريخية، وقد حدد مهمته المرحلية بعدها بازالة آثار العدوان ، وقضى قبل إنجاز هذه المهمة . والجماهير الهائلة التي رفعته من السقوط هي نفسها التي مشت تشيع جثمانه منادية بتصميم واحد ” حنكمل المشوار ” … ولكن المشوار انقطع فالجماهبر تفرقت ولم تجد أمامها من يحشدها من جديد على طريق أهدافها ، ولم تجد من يواصل بها المسار. ذلك أن طريق عبدالناصر كان قد انقطع أيضاً بغيابه ، لأن حضوره كان مقوماً أساسياً من مقومات ذلك الطريق، ووجوده كان يشد ثورية الجماهير الى الأمام . وذلك أن ع! بد الناصر هو الذي صاغ تلك العلاقة الحية بينه وبين جماهير الشعب، وكان يندمج بأحاسيسها ومطالبها بحيث يكاد يتوحد معها، وبهذا التعامل معها كان يحس نبض حياة الأمة وتاريخها، ويتعامل مع حركة التاريخ . وفي وجه من ينادون المعلم والقائد كان يقول دائماً : الشعب هو المعلم والشعب هو القائد، ما كان يقول لقد فعلت وأنا حققت ، بل كان يقول ارادة الشعب حققت والشعب هو الذي طور المبادىء و” لقن طلائعه أسرار آماله الكبرى … وأقام من وعيه حافظاً لها … “.
ما أراد عبدالناصر أن يمارس ذلك الدور الأبوي الذي تتسم به وتفرضه على جماهير شعبها الدكتاتوريات الشرقية السائدة في الأقطار المتخلفة ، بل كان ينادي ” إرفع رأسك يا أخي… ” وما كان يخاطب جماهير الشعب بيا أبنائي … بل كان خطابه دائماً أيها الأخوة المواطنون … “. وفي وقفته الأخيرة مع الشعب ، وفي آخر كلمة خاطب بها جماهير الأمة ، عبر منصة المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي في 26 تموز (يوليو) عام 1970، تلك الكلمة التي وصفت بأنها كانت ما يشبه ” الوصية ” أعطى شهادة للتاريخ عن محصلة النضال الثوري لشعبه ، بل عن محصلة نضاله هو بالشعب ومع الشعب ومن أجل قضية الأمة، وعن محصلة تجربته الثورية حيث قال :
“… ويضاعف من قيمة المكتسبات الهائلة في ضمير الشعب المصري ، أن تجربته التاريخية كانت على مر العصور أوسع من مصلحته الذاتية ، وأكبر من حدوده السياسية وذلك بحكم انتمائه العضوي إلى أمة عربية تعيش في قلب العالم جغرافياً وحضارياً . ولست أريد ان أعود الى الماضي وصفحاته المشرقة، وانما يكفينا استعراض ما لا يزال حياً في أذهاننا منذ اليوم الذي ارتفعت فيه أعلام ثورة 23 يوليو… إن الشعب المصري تحت أعلام هذه الثورة رفض السلامة عن طريق الانعزال ، ورفض الأنانية برفض كل مغرياتها الوقتية ، لقد جعل قضية أمته قضيته ، وعاش النضال من أجلها بحياته، وكان في ذلك يصدر عن وعي بمسار التاريخ لم يساوره فيه شك أو تردد، أثبت أبناء هذا الشعب دائماً أنهم الأمناء … الأمناء بالكلمة… والأمناء بالفعل … لم تكن الحرية والاشتراكية والوحدة بالنسبة له كلمات وانما كانت الحرية والاشتراكية والوحدة بالنسبة له أعمالاً ، بل كانت كلها بالنسبة له قتالاً . وليس هناك علم شريف يرفرف على الأرض العربية الا وكانت يد الشعب المصري أول الأيدي التي امتدت لتساعد على اقامته . وليست تعنينا في ذلك شهادة أي فرد وانما تعنينا في ذلك! شهادة التاريخ مبرأة من العقد ومن الأهواء ومن التحزب ومن النسيان ” …
تلك كانت محصلة مرحلة عبدالناصر، وكان شعب مصر بعبدالناصر، وكان عبدالناصر بشعب مصر بل بشعوب الأمة العربية المتطلعة الى وحدتها كلها. ولكن عبدالناصر، وكما قال أحد الكتاب اليساريين العرب ” وصل بجماهير مصر وجماهير الأمة العربية الى منتصف الطريق ثم قطعها… وصل بها الى مستوى جديد من الوعي السياسي الوطني والقومي بل والتقدمي الاشتراكي ، ولكنه لم يصل بها الى انضاج تجربتها الديمقراطية في بناء تنظيمها وعلاقاتها ولم يصل الى إكمال الأيديولوجية التي تطابق واقعها وثورتها، وترسم بوضوح مسيرتها الى أهدافها. والقطيعة أو الانقطاع جاءا من حيث أنه لم يبن الضمانة ولم يبن البديل الذي يواصل المسار بوجوده ومن بعده . لم تكن تلك ارادته، أي أن يكون في موقع البديل دائماً ، وفي موقع الأبوية والاتكال عليه ولكن هكذا جرت الأمور، ولمجريات الأمور أسبابها وقوانينها، ولكن الوقائع استقرت على أن تظل ايجابيات عبدالناصر في مسار تجربته هي ايجابيات تقدم الأمة، وعلى أن تكون الثغرات التي خلفها من حوله ومن بعده ، هي الثغرات التي نفذت منها قوى الثورة المضادة ، ومنها دخل الارتداد والتحول عن طريق عبد الناصر وطريق ثورة الأم! ة الواحدة .
لقد أشار عبدالناصر أكثر من مرة الى واحدة من تلك الثغرات في تجربته ونص على ذلك في الميثاق بقوله “… إن هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فان هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظرية كاملة للتغيير الثوري ” … ولكن ما لم يقله عبدالناصر هو أنه بحضوره ، وبحركة فعله وحركة فكره ، كان يسد حيزاً من هذا الفراغ في حياة الجماهير وفي تقدم حركة الثورة . واذا ما كان لهذا الدور ايجابياته فلقد كانت له سلبياته أيضاً ، فمثل ذلك الاكتفاء بقيادة عبدالناصر وترله الأمور لمبادراتها ، كان حائلاً دون الدفع على طريق سد تلك الثغرة ، وبذلك أضعف جانبآ من جوانب بناء أداة الثورة وتنظيمها ، ليفقدها بالتالي ضمانة استمراريتها من بعده .
ولكن هل كانت تلك مسؤولية عبدالناصر وحده؟ أم أن مثل تلك القصورات والثغرات مرتبطة بالظروف السياسية والاجتماعية والثقافية العامة لأمتنا التي تحرك من خلالها نضالنا الوطني والقومي وتحرك من خلالها عبدالناصر، مرتبطة بمستوى تطور الوعي السياسي والأيديولوجي للطلائع المثقفة من أمتنا وللقيادات التي تقدمت على رأس حركات النضال العربي بمختلف فصائلها وأحزابها وتنظيماتها ، وإلا فلماذا لم يأت من يسد ذلك الفراغ من بعده ، أو لماذا لم يقم البديل بوجوده؟ ذلك أن هذه القصورات كانت مرتبطة بقصورات الجانب الديمقراطي في التجربة .
وهذه مسألة أساسية تستحق أن نقف عندها ، لأن الاجابة عليها هي التي تضعنا على طريق تكملة ذلك ” المشوار ” الذي انقطع ، ” مشوار” الثورة العربية الذي مضت فيه قيادة عبدالناصر بنهج معين ، عبر مراحل وأطوار متعددة ، وكانت له مقدماته ثم كانت له انجازاته وانتصاراته كما كانت له قصوراته وانكساراته. أي هي التي تضعنا في النهاية أمام ما تتطلبه المرحلة الراهنة – مع هذا التمزق والانتكاس
الذي تمر به أمتنا- من صياغة جديدة لحركة الثورة ولمنظورها وبرنامجها وقواها . ثم إن وقوفنا على تجربة عبدالناصر بكل معطيـاتها ، لا يردنا الى مرحلة مضت وفات زمانها ، بل هو يضعنا في صميم المسائل التي نواجهها اليوم في حاضرنا وفي تطلعنا للمستقبل . والواقع أيضاً أن العديدين منّا، فى أيام عبدالناصر وبخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته ، كانوا يتساءلون ويسألون أنفسهم ، ماذا سيحل بقضية أمتنا ووقفتنا النضالية اذا انتهى أو غاب عبد الناصر. أي أننا كنا ندرك ، لا ما يجسده حضور عبدالناصر وقيادته للأمة من ايجابيات فحسب ، بل ولما يغطي عليه هذا الحضور، بل ويموهه أحياناً من ثغرات و من سلبيات ، وما تؤدي إليه هذه التغطية في النهاية من قصورات في إنضاج الوعي الثوري والتجربة الثورية لحركة الجماهير وتنظيمها . ولكن وعي القصور لا يعني بالضرورة تداركه، لأن القصور لا يبقى محصوراً في اطار تجربة عبد الناصر وما قوي عليه ، بل هو قصور في حركة نهوض الأمة وفي تطور الوعي التقدمي لطلائعها الثقافية والسياسية : والا فلماذا بقينا قاصرين عن ملء ذلك الفراغ وتدارك ذلك التقصير بحضور عبدالناصر وبخاصة بعد غيابه؟
فعبدالناصرلم يكن نسيج ذاته أو قائماً بذاته ، بل هو نسيج مرحلة في تاريخ أمتنا، وأياً ما كانت ثغراتها فلقد كانت مرحلة نهوض وتقدم . وعبدالناصر اذا ما جسد صورة نموذجية للرجل التاريخي، كما هو الأمر بالنسبة للرجال التاريخيين العظام الذين برزوا في حياة الأمم وكان لهم دورهم التاريخي ، فانه لم يأت استثناء بل تجاوباً مع ظروف أمة وتلبية لحاجتها وتعبيراً عنها ، وكما قال عبدالناصر ذاته ” ما أنا الا تعبير عن القومية العربية في مرحلة من حياة الأمة… ” .
إن المسائل الديمقراطية كانت مطروحة في وجه النظام الذي كان يرأسه عبدالناصر في مختلف مراحل تطوره وانتقالاته الوطنية والقومية والتقدمية والاشتراكية . كانت مطروحة من اليسار ومن اليمين أيضاً بصيغ مختلفة. واذا ما غطت الشخصية التاريخية لعبدالناصر وجماهيريته وانجازاته وخطواته المتقدمة على من سواه ، واذا ما غطت في قليل أو في كثير، على القصورات الديمقراطية في نظامه وممارسات ذلك النظام ، فانها اليوم وبعد ذلك الارتداد الكبير من بعده وهذا الانكسار المتواصل لحركة الجماهير وللعمل الثوري ، تعود لتحتل مكان الصدارة كمسألة مركزية في النضال الوطني والقومي . لقد جاء عبدالناصر إلى الحكم في مصر وراء ” ست رايات أو مبادىء ” ، كان من بينها ” اقامة ديمقراطية سليمة… ” ولقد حاول عبدالناصر في مختلف مراحل تجربته أن يجد صياغة في ” الدساتير المؤقتة ” وفي الميثاق وفي التنظيمات الشعبية والرسمية ، لذلك المبدأ الهدف ، ولكنها كلها لم تستطع في النهاية ان تلبي الوعد الديمقراطي في تحقيق المواطنية الديمقراطية الكاملة وحرية المواطن والمساواة الفعلية بين المواطنين بعد ان أنجزت الكثير من تحقيق حرية الوطن ، هذا التحقي! ق الذي عادت وارتدت عليه هزيمة حزيران (يونيه).
ولكن هل كانت مثل هذه التوجهات الديمقراطية التي نتوجه بها اليوم ، وبعد معاناة الهزيمة، ومعاناة حركة الردة من بعد عبدالناصر وصعود قوى الثورة المضادة ونظم الاستبداد المشرقي ، هل كانت توجهات أساسية وقفت عندها قوى التقدم واليسار العربي قبل مرحلة الانكسار هذه وما كشفت عنه من ضعف البنيان العربي في لحمة الوطنية الديمقراطية الأساسية؟
واقع الأمر أن هذا التأكيد على الديمقراطية السياسية، كموقف أساسي ومبدئي، هو موقف جديد، ومن خلال استيعاب موضوعي لحركة تطورنا ومن خلال وعي ثوري جديد، بحيث أصبحنا نتلمس تلك الثغرات التي خلفتها وراءها حركة تقدمنا، وكانت تعبيراً عن تأخر وعينا الثوري من حيث استيعابه للمسار التاريخي لتشكل الدول القومية الحديثة، و من حيث مطابقته مع واقعنا وحاجات نهوضنا الأساسية، وما تتطلبه من تركيز ديمقراطي لبنياننا السياسي والا جتماعي قبل أي شيء آخر.
إن الكثير من الثورويين كانوا يحسبون أن تلك ” الليبرالية السياسية والثقافية ” ترتبط بمرحلة تاريخية لنظم اجتماعية أخرى ، تخطاها نضالهم الثوري الى مرحلة تاريخية متقدمة عليها. ولكن الفكر التاريخي، أو بالأحرى المفهوم الجدلي للتاريخ وفقاً للاشتراكية العلمية ، يضعنا أمام حقيقة، وهي أنه ليس بمقدور مجتمع من المجتمعات أو شعب من الشعوب أن يتخطى مرحلة من مراحل تطور المجتمعات الانسانية، ما لم يتمثل قيمها وانجازاتها وبذلك يقوى على تجاوزها والتقدم عليها، أي بعد توظيفها في بناء حركة تقدمه.
ان هذه المسألة، وعلى المستوى الثقافي بخاصة، كانت من المسائل التي شغلت المفكر العربي المغربي عبدالله العروي في مؤلفاته وبخاصة في كتابه ” الأيديولوجية العربية المعاصرة ” و” العرب والفكر التاريخي ” التي لخصها في مقدمة كتابه الثاني بقوله : ” بدأت أحس أن المشكل الأساسي الذي أحوم حوله منذ سنين هو الآتي : كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل ( أو بدون) ان يعيش مرحلة ليبرالية؟ . وهذه المسألة التي يطرحها العروي في بعدها الثقافي والتاريخي والحضاري ننقلها الى مستواها السياسي والا جتماعي فنقول اليوم : ما هو السبيل لأن تتقدم ثورتنا العربية كثورة ” وطنية ديمقراطية “، وان تبني اندماجها الوطني ووحدتها القومية ودولتها العصرية وتمضي في هذا الاطار لتأخذ بعدها الاجتماعي الجذري كثورة اشتراكية ، أي كيف لها أن تأخذ أولاً بمنجزات الثورة البورجوازية، في ليبراليتها السياسية والثقافية ، من غير أن تعيش مرحلة التطور البورجوازية وحكم الطبقة البورجوازية، ثم من غير ان تأخذ بالمنهج الرأسمالي في بناء قاعدتها في الإنتاج والتنمية؟
ولقد قدمت التجربة الناصرية في مسارها جواباً على هذه المسألة ، بل لقد أعطت التجربة الثورية العربية في تلك المرحلة جوابها من خلال ممارسة عبدالناصر. وكان الجواب ، وكما كشفت حركة الردة، مقصراً عن الوفاء بالحاجة، ليعود اليوم ويطرح نفسه من خلال التقصير، لا في الدور التاريخي الذي أداه عبدالناصر، بل في بناء حركة الثورة العربية ككل .
واذا وقفنا هنا عند جانب من جوانب القصور الديمقراطي في تلك المرحلة، كما ألمحنا قبل ذلك الى مسألة الأيديولوجية ونظرية العمل السياسي والثوري والوقوف دون صياغتها صياغة ملائمة، والى مسألة الحزب الثوري أي التنظيم السياسي الملتزم بالأيديولوجية الثورية والذي ” يواجه مشاكل المعركة ” ويدفع بحركة التغيير ويحمي من الا نتكاسة والردة … فانها كانت قصورات وثغرات موضوعية في مسار التجربة، بل في مسار المرحلة اذ لم تقم أمامها تجربة بديلة. ولقد كانت لعبدالناصر محاولاته وأساليب قيادته في معالجة هذه المسائل، أو في سد هذه الثغرات بحضوره في قمة السلطة، وبشعبيته التي كان يشد بها الجماهير. وبقناعتنا أن مراجعة تجربة عبدالناصر في إطارها التاريخي ، ومتابعة حركة تطوره الفكري والاستراتيجي، يقدمان لنا معطيات هامة للاستدلال بها في مواجهة هذه المسائل اليوم، وعلى ضوء ما تغير في الساحة بعد ذهاب عبدالناصر.
وما تغير شيء كثير، واذا كانت سلبيات قوى الثورة المضادة المتحركة بحرية في الساحة هي البادية على السطح، فثمة ايجابيات أمامها تعطي المؤشر للمستقبل ، منها هذا التوجه الديمقراطي الأساسي الذي تتوجه به القوى التقدمية العربية في حركة نضالها وفي فكرها وارادة التغيير وارادة تجديد نهوضها الثوري . ولكن منها أيضاً ، التقاء اليسار العربي بما يشبه الاجماع ، على الأهداف الاستراتيجية الكبرى لحركة الثورة العربية والتي تجد رموزها في كلمات ” الحرية والاشتراكية والوحدة “، وهي بذاتها الأهداف التي وضعتنا على طريقها بالممارسة تجربة عبدالناصر، أيا ما كانت ثغراتها، و أياً ما كانت التشويهات التي نالت منها والانحرافات والردات التي جاءت بعدها.
ولكن تجربة عبدالناصر ومرحلته، أياً كانت حركة المراجعة وأياً كانت الانتقادات التي توجه إليها، تبقى تجربة غنية جداً ومرحلة نهوض . وإذا كانت ثورتنا العربية تمضي مراحل وأطواراً ، فيها النهوض وفيها الانتكاس ، فاننا حين نأخذ بفكرة استمرارية الثورة وضرورتها ، لا بد أن نأخذ أيضاً من تلك التجربة انجازاتها كمكتسبات لنا ونقاط استناد . فالبناء الثوري يأتي في سياقه التاريخي ، ولا يعود لنقطة البداية أو يبدأ من الفراغ . ثم إن تجربة عبدالناصر هي التي أبرزت أكثر من غيرها ماهناك من خصوصية في حركة الثورة العربية ، وشدّت الآخرين للتطابق معها .
واذا ما بلور عبدالناصر مهمات الثورة العربية وأهدافها في صياغة استراتيجية مرحلية معينة قوامها بداية ” الوطنية ” فلقد طالب أن تكون نظريتها في النهاية ابداعاً لا اتباعأ، وطالب بثورة ثقافية لتكمل الثورة السياسية والاجتماعية ولتخلق المناخ المواتي للابداع الفلسفي والنظري ، ولتضع الثورة في سياق فكرها التاريخي ونهوضها الحضاري .
والمطالبة اذا لم تكن انجازاً فانها تبقى تعبيراً عن وعي وحاجة… واذا كان الجو السائد اليوم في حياتنا ومن حولنا هو التشتت والضياع لا جو التوحد والابداع ، فلا آقل من أن نعود لتثبيت المرتكزات التي تجمع من حولها شتاتنا وهي مرتكزات تظل تقدمها لنا تجربة عبدالناصر أكثر من سواها.
2- فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه: من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية
” إن حركة الجيش ما قامت إلا لتحرير الوطن وإعادة الحياة الدستورية السليمة للبلاد، وإن كل هدفنا أن نوفر للشعب حرية كاملة لا يمكن سلبها… ” . تلك كانت الكلمات العلنية الأولى التي سمعتها الجماهير من عبد الناصر، وعرفت فيها الجماهير لأول مرة صوت عبد الناصر، عندما وقف ليتكلم باسم ” ثورة 23 يوليو ” في احتفال بذكرى شهداء الجامعة ، أقيم في 15 تشرين أول (أكتوبر) عام 1952، وعندما أخذ يسترجع بداية تشكل وعيه الوطني والنضالي وهو طالب أيام دراسته الثانوية…
أما آخر كلماته، ولآخر مرة سمعت فيها جماهير الأمة صوته فقد كانت عندما وقف يختتم أعمال الدورة الرابعة للمؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي في 26 تموز (يوليو) 1970، حين قال :
” نحن نريد السلام ولكن السلام بعيد . ونحن لا نريد الحرب ولكن الحرب من حولنا. وسوف نخوض المخاطر مهما كانت ، دفاعاً عن الحق والعدل … ” . وقال أيضاً : ” إن النصر عمل ، والعمل حركة، والحركة فكر، والفكر فهم وإيمان ، وهكذا ترون أن كل شيء يبدأ بالانسان … ” .
ومن كلمات البداية تلك إلى كلمات النهاية كان المسار التاريخي لمرحلة عبد الناصر، أو لرحلته الثورية الشاقة التي استمرت ثمانية عشر عاماً ، منطلقة من انقلاب عسكري ينجز المهمة الأولى من مهمات الثورة الوطنية في إسقاط النظام الملكي الرجعي الاستبدادي واللاوطني ، لتتحول إلى حركة ثورية مستمرة تتطلع إلى الشمولية وتأخذ أبعادها التاريخية . وهي مرحلة ملأها عبد الناصر بحضوره الدائم في حياة الأمة ، لا كقائد سياسي من مستوى الرجال التاريخيين الكبار فحسب ، بل وكموجه فكري وسياسي وأيديولوجي لحركة الجماهير، وكان صوته يرتفع مدوياً في كل مناسبة ، وأمام كل حدث أو تغيير أو موقف ، وكان فكره دائماً معلناً ومبسطاً يهز مشاعر جماهير الشعب ويشدها إلى الحركة ويناديها إلى العمل ويستنهض طاقاتها النضالية وتقدمها ، بل إن الفكر السياسي لعبدالناصر، ظل طوال مرحلته، وبخاصة منذ انتصاره في معركة تأميم قناة السويس وصعوده كبطل من أبطال التحرر الوطني والقومي في العالم، أصبح هو المسموع من جماهير الأمة العريضة كلها قبل غيره . ومرت تلك السنوات العديدة وقد أصبحت كلمات عبد الناصر ومواقفه ، المصدر الرئيسي لتوجهها النضالي ن! حو أهدافها . وفي أيام الأزمات ، وفي مراحل الانتقال ، وفي كل مناسبة تمر أو خطوة يخطوها عبدالناصر، بل وفي مواجهة أي تغيير أو حدث في الوطن العربي أو العالم ، وأمام أية معركة تتفجر في أية ساحة من ساحات النضال العربي ، كانت جماهير الأمة تنتظر كلمة عبد الناصر والوقفة التي سيقفها والتوجه الذي سيتوجهه.
إننا إذا ما جئنا نحاول اليوم استعراض الفكر السياسي لعبد الناصر في مساره الاستراتيجي والتاريخي وفي مسار ممارساته وتجربته، واستكشاف مراميه وأبعاده ، لوجدنا أمامنا بالدرجة الأولى ما فاضت به خطبه في مختلف المناسبات ، بل وكثيراً ما كان يبتكر المناسبة في زحمة الأحداث ، ليخاطب وعي جماهير الأمة وليعلن موقفه أمام العالم . ثم إلى جانب تلك المجموعة الغنية من الخطب الجماهيرية، أحاديثه وندواته الصحفية ، وجلسات الحوار والنقاش التي أدارها في إطار اللجان والمنظمات والقيادات السياسية والشعبية ورسائله، وما تناقله عنه من التقوا به ومن عايشوه وعاشوا تجربته عن قرب . فعبد الناصرلم يترك لنا كتباً ولا مؤلفات ، في مواضيع فكره ومنظوره ، وما كان ذلك ممكناً ولا مطلوباً منه من حيت دوره وموقعه، ولقد قالها مرة . ” لو قعدت أؤلف كتاباً عن منظورنا للثورة أو عن نظرية الثورة ، لما قمنا بالثورة … ” . فهولم يترك من مؤلفات إلا ذلك الكتيب الصغير ” فلسفة الثورة “، الذي كتبه في فواصل متقطعة عام 1953، بل قطعته الأحداث ، كما يذكر في الكتاب ، ثلاثة أشهر قبل أن يعود لكتابة فصله الأخير، وهو ما كتبه في حينه إلا ليؤكد في ! وجه الآخرين من نقاده ومعارضيه، أنه لا يمضي على طريق ممارسته الثورية من تجريبية أو ممارسات تكتيكية صرفة، وإنما من خلال استيعاب تاريخي ومن منطلق ثوري أصيل ومبدئي، ومن منظور استراتيجي مستقبلي وبعيد المدى … وكتاب ” فلسفة الثورة ” ، جاء والثورة في مرحلتها الأولى ، بل وقبل أن تصل القوى المتحالفة ( وعلى صعيد ضباط الجيش أولاً ومن ثم على صعيد المجتمع أيضاً من خلال الانتماءات الطبقية والفكرية والصلات الحزبية والسياسية لضباط الجيش)، لحسم في مواقفها ولصياغة التكوين الأول والثابت لنظامها. وما تركيزنا على معطيات كتاب ” فلسفة الثورة “، وهو لا يحمل فلسفة ولا ثروة أيديولوجية وفكرية كبيرة، إلا من خلال واقع، وهو أن هذا الكتاب جاء يحمل دليلا على أن البرنامج الثوري الضمني لعبدالناصر كان متقدماً- ومن حيث استيعابه الثوري والتاريخي- على جميع العناصر والقوى المتحالفة معه (على يمينه أو على يساره أو محسوبة كذلك). ومن خلال هذا الاستيعاب استطاع أن يحسم في ” أزمة مارس عام 54 ” ، وأن يمسك بزمام السلطة على أساس برنامجه هو، وأن يسقط بقايا النظام القديم ، وأن يسقط معه بعضاً من حلفائه المتخلفين ، وأن يمضي ! على طريق الثورة، وكذلك كان شأن عبدالناصر بعد ذلك ، وفي كل طور من أطوار صعوده الثوري .
ولكن الوثيقة التي صاغها فكر عبد الناصر السياسي والثوري ، تلك الوثيقة التاريخية التي ما إن وصل إليها حتى ظل ممسكاً بها حتى النهاية، فهي ” الميثاق الوطني ” الذي قدمه عام 1962، والذي اعتبره وظل يعتبره تلخيصاً لتجربته الثورية في النضال والحكم بعد عشر سنوات من الممارسة، ومن التعلم من ( تجربة الخطأ والصواب) ، ومن أطوار الانتقال . ولقد قدمه دليلا للعمل لمرحلة أساسية من مراحل ” التغيير الثوري ” ، لثورته الوطنية الديمقراطية، وهي المرحلة التي اعتبر فيها أن عملية الثورة الوطنية وما أنجزته من مهمات ، وأن تجربة العمل الوحدوي وما كشفته من ثغرات وما وضعته من عثرات على طريق امتداد الثورة في بعدها الأفقي وإطارها القومي ، لا بد أن تدفع بالثورة على طريق الحسم لتمد جذورها عميقة ، وتأخذ مضامينها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية كاملة، أي لأن تنتقل إلى طور الثورة الكاملة ، وأن تبدأ ببناء نموذج عربي للثورة الاشتراكية .
وما بين ” فلسفة الثورة ” و ” ميثاق العمل الوطني “، أعطى الفكر السياسي لعبد الناصر الكثير من الشروح ومن التوضيحات والتفاصيل ، واستقر عند ” الميثاق ” لا لأن ذلك الميثاق كان يجسد غاية ما يفكر به ويتطلع إليه فهو ما كان بنظره إلا دليل عمل مرحلي ، بانتظار أن تقدم الممارسة، وأن يقدّم الجيل الجديد للثورة ، صياغة أيديولوجية أكثر وضوحاً وحسماً ، وصيغة ديمقراطية أكثر حرية وأكثر تقدماً … وكان تقديره، كما أشار في عدد من المرات إلى أن الخطة الثورية التي يرسم معالمها الميثاق هي لمرحلة تبقى في حدود السنوات العشر. وإذا ما أثبتت مجريات الأمور أن الميثاق حمل تفاؤلاً أكثر مما يقدم الواقع ، وواقع ما بناه عبد الناصر بالذات ، فإن العودة إلى وثائق الفترة التي قدم فيها عبد الناصر الميثاق ، وما دار من مناقشات تمهيداً له أو بصدده ، بين مجموع القيادات السياسية والثقافية المصرية في ذلك الحين ، أو ما وجه إليه بعد إعلانه ، من انتقادات في أوساط اليسار العربي ، وبعد كل ما وصف به من قبل البعض بأنه تعبير عن فكر وسطي وغير حاسم في ثوريته، أو بأن يظل ” تعبيراً عن فكر بورجوازي صغير ” ، فذلك على أن عبد الناصر كا! ن الأكثر تقدماً في مرحلته، وظل تعبيراً عن أن عبد الناصر وبرنامج عبد الناصر، متقدم على المعطيات الأيديولوجية والسياسية للقوى المحيطة به والمتحالفة معها جميعها… وفي هذا كله الدليل على ” الإرادية ” الثورية لعبد الناصر، أي أن تصميمه وتفكيره كانا يذهبان إلى قدرته- من حيث دوره السلطوي وإمساكه بزمام الدولة ومن حيث دوره الجماهيري التحريضي والثوري الدافع بوعيها ونضالها إلى أمام- على أن يختصر الزمن وأن يحقق ضرباً من النقلة النوعية أو الطفرة التاريخية .
إن استكشاف فكر عبد الناصر السياسي في مساره العام ليس بالأمر الصعب ، فلقد كان في أكثر الأحوال فكراً مبسطاً لا لبس فيه ولا تعقيد ، بل كان يأتي دائماً في المستوى الذي يعيه ويستوعبه الناس جميعاً . إلا أنه يظل في مجمله فكراً يصعب حصره وتصنيفه مباشرة ضمن المعايير الأيديولوجية المأخوذ بها في تصنيف الأفكار السياسية وتصنيف النظم التي تقوم على أساس من هذه الأفكار، وتصنيف الثورة ومراحلها . فثورة عبد الناصر كانت الثورة المستمرة المتداخلة المراحل والمتعددة البرامج والمهمات ، وفكر عبد الناصر السياسي ذاته كان حركة نضج تتقدم باستمرار ، وليس من خلال التعلم من التجربة والمعاناة فحسب ، بل ومن خلال جهد دائب في التثقف والتعلم والمتابعة والإطلاع . وهو إذ لم يجد حركة نهوض فكري ثوري صحيح من حوله ، ولا من يقدم المستند الأيديولوجي الذي يحتاجه في توجيه عملية التغيير الثوري أو يطابق خصوصية المرحلة وما تحتاجه حركة الانتقال من ذلك ” التخلف المريع ” الذي ألقى بأثقاله على واقع الأمة ، إلى مستوى العصر ومنجزاته العلمية والثقافية ومتغيراته الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة … وإذا لم يجد أمامه إلا مقولات عام! ة وعموميات، وشعارات وأحلام وأمنيات ، فلقد وجد نفسه مطالباً أيضاً بتكوين وعيه الثوري الذاتي وأيديولوجيته الخاصة . وهذا المخاض من الوعي والنضج كانت له جدليته أيضاً في تعامله مع حركة الأحداث وحركة الممارسة، وهذا ما لم يقدمه لنا عبدالناصر كتابة أو خطابة، إلا في القليل، بل كان يقدم أمامنا محصلة ذلك ، في النقلات التي كان يتنقلها بممارسته ، كما يقدمها لنا في مقولاتها العامة كما استخلصها ، ونجدها أمامنا ناظمة لحركته ومساره… ومن هنا يأتي الاختلاف في الأحكام التي كانت وما زالت تطلق، على الصيغة الأيديولوجية، أو الخلفية النظرية التي يتوجه منها عبدالناصر في مساره العام ، أو في كل مرحلة من مراحل ثورته.
إن تمثل عبدالناصر للفكر القومي العربي الأكثر تقدماً ، كان محصلة راهنة ومجسدة أمامنا ، في مواقف عبدالناصر النضالية وفي أقواله وممارساته، ولكن إذا كان المحك في الموقف الأيديولوجي، هو النظرة الاجتماعية والاقتصادية أيضاً ، فلقد كان ذلك موضوعاً لتساؤلاتنا واهتماماتنا ونحن ندفع ونندفع إلى الوحدة. وفي لقاء جرى في خريف عام 57 مع الأستاذين عفلق والبيطار، في إطار المكتب السياسي لحزب البعث وكانا عائدين لتوّهما ( أو وا حد منهما) من القاهرة ومن محاورات دارت مع عبد الناصر، تساءلنا إلى أين يمضي عبد الناصر من الناحية الاجتماعية – الاقتصادية . وما هو موقفه الاشتراكى أو موقفه من الاشتراكية . وأفاض الأستاذان في الحديث عن شخصية عبد الناصر وأفكاره ، وقالا: إننا وعبد الناصر على لقاء تام من حيث الفكر القومي ممارسة ونضالاً ومن حيث التوجه الوحدوي استراتيجية وإطاراً ، أما من حيث التوجه الا جتماعى- الاقتصادي ، فعبد الناصر آخذ بطريق الاقتصاد الموجه ولكن همه وشاغله الكبير اليوم يتجه إلى خطط التنمية والتخطيط الاقتصادي الذي يركز على التصنيع وبناء القاعدة الصناعية الأساسية للتقدم ، وهو يريد أن يعرف وأن يتث! قف ويطلع . لقد عرفنا أنه منكب الآن على دراسة علم الاقتصاد السياسى ، وهناك مجموعة من حوله مكلفة بأن تجمع له المصادر وأن تلخص أمهات الكتب في هذا المجال . ثم إن من الواضح انفتاحه لمعرفة تجارب التطبيق الاشتراكي وللتأثر بالفكر الاشتراكي العلمي وبخاصة من خلال صلاته واحتكاكاته بقيادة دول ” عدم الانحياز ” والكثير منهم ماركسيون أو من المتأثرين بالفكر الماركسي . وذكروا أن عبد الناصر قال لهم بأنه لا بد وأن يسير بنهجه وتخطيطه الاقتصادي ، على طريق التحويل الاشتراكى على مراحل وأنه إذا ما أعلنها في البداية اشتراكية- تعاونية ديمقراطية ، فإن الأمور ستتوضح اكثر في المستقبل وستأخذ طريقها المحدد.
إن السؤال الذي نطرحه على أنفسنا والذي نحاول، بهذا الجهد الذي نبذله في مراجعة تجربة عبدالناصر من جديد وفي استجلاء مسار فكره ، أن نجيب عليه ولو في قليل ، هو السؤال التالي : هل يمكن أن تقدم لنا تجربة عبدالناصر واستراتيجية عمله وممارساته، وميثاقه ومواقفه وآثاره ، قاعدة ومنطلقات لصياغة أيديولوجية مطابقة لواقعنا، أي نظرية ومنظور يدلان إلى استراتيجية في التغيير الثوري العربي ، للخروج من هذا الواقع وللمضي على طريق تحقيق أهداف الأمة؟
ذلك هو السؤال ، ولنعد إلى عبدالناصر وفكره وكلماته، ولعل الاستشهاد هنا ببعض من كلماته تحرض الذهن، وتقدم الدليل على ما كان عليه حسه الجماهيري والحس التاريخي والإحساس بنبض حياة الأمة، وما كان عليه تصميمه الثوري . ولنقف عند لحظة من تلك اللحظات التاريخية التي مر بها عبد الناصر بعد أزمة ” الانفصال ” مباشرة ، ووقف ليؤكد تصميمه الثوري وليدفع على طريق الثورة الكلية أو الشاملة.
قال عبد الناصر في خطاب له في 16 تشرين أول (أكتوبر) عام 1961 موجّه إلى جماهير الأمة : ” لقد دقت الساعة التي يتحتم فيها على كل مواطن أن ينتبه لما يجري من حوله على امتداد الأرض العربية كلها، فنحن الآن على نقطة من نقاط التاريخ الحاسمة في مصير الأمم … وليس أمامنا غير أحد موقفين : أولهما- أن تخدعنا الأمور فنقف جامدين لا نتحرك … أو تفلت منا حركة عصبية على غير هدى، ومن ثم نفقد إحساسنا بالزمان والمكان ، ويضيع منا الاتجاه الصحيح … وثانيهما أن نعي حقائق الأمور، وأن نمضي في حركتنا بقوة أكثر واندفاع أشد في طريق واضح نعرف أهدافنا عليه… واصلين بالمقدمات إلى نهاياتها الصحيحة… مهما كانت التضحيات ومهما طال المدى … لقد قضيت الأيام الأخيرة كلها أفكر وكنت بمشاعري مع شعبنا العظيم في كل مكان ، في القرى وفي المصانع ، في الجامعات وفي المعامل ، في المواقع الأمامية في خط النار المواجه للعدو مع جنودنا، وفي البيوت الصغيرة المضيئة بالأمل في مستقبل أفضل وكنت مع هؤلاء جميعاً ، مع الفلاحين والعمال والمثقفين والضباط والجنود، أحاول أن أتحسس مشاعرهم وأن أتفاعل بفكري مع فكرهم . كانت أصابعى على نبض ه! ذه الأمة… وكانت أذناي على دقات قلبها… كنت أريد أن يكون اختياري صدى لاختيارها، وكنت أريد أن يكون موقفى تعبيراً عن ضميرها … وكان قراري وكان اختياري : أن طريق الثورة هو طريقنا، أن الاندفاع بكل طاقة إلى العمل الثوري هو المفتاح الوحيد لكل مطالب نضالها الشعبي، وهو الوفاء الأمين بكل احتياجات جماهيرنا المؤمنة المصممة على الحرية بكل صورها الاجتماعية والسياسية ” .
ومضى عبد الناصر في خطابه هذا يؤكد النقلة النوعية على طريق التحويل الاشتراكي نحو تكامل الثورة وشموليتها، بعد عملية نقد ذاتي لنظامه في مساره الماضي ومسار تجربة الوحدة ، وأنهى خطبته بهذه الكلمات التي تعبر عن واقعه وعن التزامه المصيري : ” لقد أعطيت لهذه الثورة عمري . وسيبقى لهذه الثورة عمري … لقد أعطتني هذه الأمة من تأييدها ما لم يكن يخطر بأحلامي وليس عندي ما أعطيه لها غيركل قطرة من دمي ” .
لقد أعطى الثورة دمه، ولكنه أعطاها أيضاً فكره وإرادته.
ثم لنعد إلى كلمة النهاية التي قالها عبد الناصر: ” النصر عمل … وكل شيء يبدأ بالإنسان ” . ونبدأ بفكر عبد الناصر الإنسان وإيمانه، إيمانه بالله ، والإيمان بالوطن والوطنية، والإيمان بالعروبة ووحدة الأمة مصيراً وغاية، والإيمان بالتقدم الإنساني والتحرر والثورة، والإيمان بقضية الجماهير المسحوقة وحقها في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة ، من إيمان ينيره الفهم والممارسة والعقلانية، ليصوغ التوجه العام لفكر عبد الناصر ولتجربته السياسية والنضالية.
ومثل هذا الإيمان للانسان ، أي مجمل القناعات التي تترسخ في منحى تفكيره وحياته ، هو الذي يصوغ توجهه الايديولوجي العام ، في مواجهة المسائل التي تطرحها عليه تجربة الحياة التي يخوضها، والإجابات التي يقدمها، وهي التي تحدد منحى مواقفه وتوجهاته، أي هي التي توجه في النهاية سياساته.
وإذا كان تقدم العمل على التخطيط النظري ، وتقدم الممارسة على التوضيح الأيديولوجي، هما اللذان حكما المسار العام لتجربة عبد الناصر، فإن ممارسته السياسية والنضالية، كانت تستهدي ومنذ بداياتها، بقناعات ومنطلقات أساسية صاغتها الحياة في نفسه وصاغتها ثقافة البيئة الي نشأ فيها، ومنبته الطبقي والاجتماعي، والمرحلة التى كان يمر بها مجتمعه من مراحل التطور التاريخي في معطياتها المادية والروحية. ولكن عبد الناصر كان ومنذ بدايات تجربته أيضاً منفتحاً على روح أبعاد التقدم التي بلغتها الدول المتقدمة ومنفتحاً على روح العصر، وبهذا الانفتاح كان مدركاً لحالة التأخر التي يعيشها مجتمعه، وجاء يحمل هذا النزوع الثوري للتغيير والدفع بحركة التقدم إلى أقصى ما يطيق مجتمعه وقواه النضالية…
إن مبدأ التعلم من التجربة الذي كان يؤكده عبدالناصر، واستخلاص النتائج بالتعلم من تجربة الخطأ والصواب، في سبيل إنضاج حركته الثورية، والتقدم بفكره وتخطيطه للمستقبل … إن هذا المبدأ وقد وقف الكثيرون عنده في التعليق على مسار فكر عبدالناصر السياسي ليصفوه بالبرغماتية أو التجريبية، لا يجوز الوقوف به عند هذا الخط من التجربة في الوصف ، وليس من تجربة إلا ووراءها حوافز وأفكار. وممارسة عبد الناصر، لا نستطيع أن نفهمها ونفهم عمقها وأبعادها، إلا عندما نفهم الخلفية الأخلاقية والفكرية التي كان ينطلق منها عبد الناصر. فالتعلم من تجربة الخطأ والصواب لم يأت في سياق عفوي أو من منطلق تكتيكي صرف ، بل كانت تحكمه معايير ومقاييس أساسية انطلق منها عبدالناصر، وهي التي كانت تحدد قيمة الخطأ وقيمة الصواب في مسار الممارسة . وإن أي ناقد منصف، إذا ما حاول الإطلال على مسار تجربة عبدالناصرفي مراحلها كلها ، فإنه لا يجد فيها الا ما رسمته على أرض الوا قع من جدلية الممارسة ، أي الممارسة الثورية التي تملك حس التاريخ ومراحل تطوره، والتي تنطلق من معايير أساسية وتتوجه إلى أهداف تندرج في سياقها التاريخي ، وكأنها الحتمية! التي يرسمها منطق التطور وحرارة الحياة .
إن الذين نقدوا فكر عبدالناصر وعارضوه ، أو الذين انتصروا له واخذوا به، كثيراً ما أصدروا أحكامهم على منحاه الأيديولوجي العام بالوقوف به عند نقطة معينة أو مرحلة محددة من مراحل نضجه، أو هم اخذوا به في جانب من جوانبه دون الإحاطة به في كليته ومسار نضجه ، أو هم وضعوا فيه منظورهم الخاص وقناعاتهم االمسبقة… فالبعض مثلاً لم يجدوا فيه إلا فكراً تقليدياً تأثر بعض الشيء ” بالفكر التاريخي والمنظور الماركسي للاشتراكية ” والبعض قالوا إن أيديولوجيته هي أيديولوجية طبقته البورجوازية الصغيرة في تأرجحها الفكري ونهجها التجريبي والتكتيكي ، بينما وجد فيها البعض الآخر، ومنذ بداياته، الثورية الكلية والكاملة. بعضهم وقف عند نهجه الأول في صياغة الدولة وعلاقتها بالمجتمع وقواه الاجتماعية والبعض مضوا معه إلى النهاية ليجدوه وقد أخذ بالمنهج الاشتراكي العلمي الكامل لصياغة الدولة والمجتمع . وبعضهم ومن خلال موقف معاد أو مؤيد في مرحلة، كان يمسك بكلمة يقولها عبدالناصر أو فكرة يطلقها في خطاب ، ليصدر من خلالها حكماً على الخلفية الأيديولوجية التي يتوجه منها عبدالناصر، فلقد رأينا مثلاً عدداً من المزايدين على عبد! الناصر باليسارية والثورية يقفون عند كلمة قالها في خطبة له وقف يشرح فيها ظروف هزيمة حزيران (يونيه) ووقائعها إذ قال: “ولا ينجي حذر من قدر “، ليمسكوا بهذه الكلمة وحدها وليعلقوا ويحكموا على تفكير عبد الناصر، بالغيبية والقدرية… واللاعلمية..
هذا بالنسبة لبعض ناقديه والمزايدين بالثورية، أما بالنسبة للمنتسبين لعبد الناصر وفكره، فإن بعضاً من المجموعات التي تشكلت تحت عنوان ” الناصرية ” والالتزام بنهجها ، لم يأخذوا منها إلا الجانب الذي يلائم مصالحهم ووضعهم السياسي والطبقي المحافظ أو البورجوازي ، ووقفوا بها أيضاً عند مرحلة من مراحلها أو وقفة من وقفاتها ، وظلوا يخافون من كلمة طبقة وصراع طبقي ، ومن كلمة حزب سياسي أو ثوري ، بل ومن كلمة ” الاشتراكية العلمية ” تخصيصاً ، وظلوا يقولون باشتراكية عبد الناصر من غير اشتراكية وبرفض مقولة الصراع الطبقي وبرفض الحزبية والتنظيم الحزبي ، لينتهوا إلى تفريغ الناصرية من كل مضمون ديمقراطي وتاريخي وثوري .
ذلك أن فكر عبدالناصر الأيديولوجي يستعصي على التصنيفات الأيديولوجية التقليدية، وهو لا يدرك إلا في إطار جدليته الخاصة ومسار تشكله من البداية حتى النهاية، إذ أنه فكر الثورة وهي تتشكل منتقلة من مرحلة إلى مرحلة ومتدرجة من إنجاز إلى إنجاز ، وهو فكر الثورة وهي تتجاوز نفسها باستمرار إلى الأمام . وإذا كان هناك من تصنيف ينطبق عليها، فهو ما يسميه بعض المفكرين الماركسيين بالثورة المستمرة ” فهي الثورة ” الوطنية الديمقراطية المصرية المتعددة المهمات ، المتداخلة المراحل ، الآخذة ببعدها القومي العربي إطاراً وهدفاً وحدوياً ، المتوجهة باتجاه الاشتراكية عمقاً ومضموناً … وفكرها إذا ما بدأ من الفكر الوطني الليبرالي يضاف له تأثره على نحو ما ببيئته الثقافية الخاصة وما تأصل فيها من قيم دينية وأخلاقية ، فلقد تقدم منفتحاً على الفكر القومي العربي متمثلاً له ودافعاً بآماله نحو التقدم والمستقبل لا السلفية والماضي ، وتقدم منفتحاً على الفكر التحرري الإنساني والاشتراكي منه بوجه خاص . وتقدم فكر عبد الناصر كان مرتبطاً بتقدم تجربته وممارسته ، ولكنه كان محكوماً بواقع عبد الناصر السياسي ومسؤولياته منذ بداية تج! ربته ، ولذا فإنه وفي كل مرحلة وفي كل نقلة ينتقلها إلى الأمام، لم يكن يعطى أبعاده القصوى نظرته الشمولية، وكأن تلك المسؤوليات كانت قيداً عليه وتطالبه بالوقوف عند حد معين من الالتزام الأيديولوجى .
ولنعد هنا الى مقتطفات من كلام عبدالناصر عن تشكل تطلعاته الثورية وثوريته في حديث مطوّل أدلى به في حزيران (يونيه) عام 1962 (أي في مرحلة اعلان الميثاق الوطني) لمورغان مندوب صحيفة الصنداي تايمس الانكليزية، قال : ” كثيراً ما سئلت هذا السؤال : متى أصبحت ثورياً لأول مرة؟ وهو سؤال تستحيل الاجابة عليه، فهذا الشعور أملته ظروف تكويني وتنشئتي وغذاه شعور عام بالسخط والتحدي اجتاح كل ابناء جيلي في المدارس والجامعات، ثم انتقل الى القوات المسلحة… “. ” إنني الإبن الاكبر لأسرة مصرية من الطبقة المتوسطة الصغيرة وقد كان أبي موظفاً صغيراً في مصلحة البريد يبلغ مرتبه الشهري نحو عشرين جنيهاً ، وهو مرتب يكفي بصعوبة لسد ضرورات الحياة … وكان أبي قلقاً بسبب آرائي السياسية حتى في أيام التلمذة ، فقد سجن أخوه أيام الحرب العالمية الأولى بتهمة الاثارة السياسية.. ولكنني بعد اشتراكي في المظاهرة السياسية الأولى دخلت الميدان بكل جوارحي وأصبحت رئيس لجنة لتنظيم المقاومة ولا سيما مقاومة السيطرة الساخطة . ولقد كان ذلك متنفساً لا بد منه لعواطفنا الحادة ولشعورنا بالكبت الذي يضغط على وطننا … في سنوات التكوين هذه ش! غلت اهتمامي كل الأحزاب السياسية التي كان هدفها الأول أن ترد إلى الشعب حريته. وقد انضممت مدة عامين بعد مظاهرة الاسكندرية الى جماعة مصر الفتاة ولكن تركتها بعد أن اكتشفت أنها رغم دعواها العالية لا تحقق شيئاً واضحاً . وقد فوتحت في عدة مناسبات للانضمام للحزب الشيوعي لكني رغم دراستي للمذهب الماركسي وكتابات لينين وجدت أمامى عقبتين أساسيتين ، عقبتين كنت أعلم أن لا سبيل للتغلب عليهما- الأولى هي ان الشيوعية في جوهرها ملحدة – وقد كنت دائماً مسلماً صادقاً أؤمن إيماناً لا يتزعزع بوجود قوة فوق البشر … أما العقبة الثانية فهى أني أدركت أن الشيوعية معناها بالضرورة سيطرة من نوع ما من الأحزاب الشيوعية العالمية- وهذا ما كنت أرفضه رفضاً باتاً – وقد كان كفاحي وكفاح زملائي طويلا وشاقاً لانتزاع السلطة من الطبقات الاقطاعية ولتحطيم السيطرة الأجنبية على مصر ولتحقق بلادنا الاستقلال الصادق الذي كانت تحتاج اليه احتياجها الى أنفاس الحياة . وعلى هذا فلقد كان مجرد الظل لسيطرة أجنبية أمراً لا استطيع أن أقبله . وقد كانت لي اتصالات متعددة بالأخوان المسلمين … وهنا أيضاً وجدت أمامي صعوبات دينية، فقد كان في! تصرف الأخوان المسلمين ضرب من التعصب الديني وما كنت لأرضى بانكار عقيدت ي أو بأن تحكم بلادي طائفة متعصبة. وكنت واثقاً من أن التسامح الديني لا بد وأن يكون ركناً أساسياً من أركان المجتمع الجديد الذي كنت أرجو أن أراه قائماً في بلادي . وتبلورت مشروعاتي لمستقبلي بعد عقد المعاهدة المصرية الانجليزية عام 1936 التي نجم عنها أن حكومة الوفد أصدرت مرسوماً يقضي بفتح الكلية الحربية للشبان بصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو ثروتهم … فالتحقت بالجيش بعد أن كنت أدرس في كلية الحقوق … كان الجيش المصري حتى ذلك الوقت جيشاً غير مقاتل – وكان من مصلحة البريطانيين أن يبقوه على حاله- أما بعد ذلك فقد بدأت تدخله طبقة جديدة من الضباط الذين كانوا ينظرون الى مستقبلهم في الجيش بوصفه مجرد جزء من جهاد أكبر لتحرير شعبهم … ثم كانت ظروف الحرب العالمية الثانية وفي هذه المرحلة رسخت فكرة الثورة في نفسي رسوخاً تاماً ، أما السبيل الى تحقيقها فكانت لا تزال بحاجة إلى دراسة وكنت يومئذ لا أزال أتلمس طريقي إلى ذلك … ” ( وبعد الكلام عن أثر حوادث فبراير ( شباط) في نفس عام 1942 حين تدخل جيش الاستعمار البريطاني مباشرة ليفرض التغيير الوزاري الذي يريده) قال: ” وبالنسبة لي- كان عام 1945 أ! كثر من عام انتهاء الحرب – فقد شهد العام بداية حركة الضباط الأحرار.. وقد ركزت حتى سنة 48 على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور في مصر مبلغ استيائي- والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافي للاقدام على التغيير اللازم- وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء تحاول أن تخرج مثلنا العليا العامة في هدف مشترك وفي خطة مشتركة- وكانت بي رغبة عارمة للمعرفة- فأقبلت على الاطلاع بنهم والتهمت كتب المفكرين من أمثال لاسكي ونهرو ، بل وأنيوزين بيغان ، وبدأت الأفكار الاشتراكية تتكون شيئا فشيئاً… “.
واذا كان من حوافز الثورة الاحساس بالمهانة الوطنية التي يلحقها الوجود الاستعماري البريطاني ، فلقد جاءت أحداث عام 48 وحرب فلسطين لتضيف حوافز جديدة ولتكشف أمام عبدالناصر الواقع العربي العام، واقع التأخر والتبعية وقال : ” اتضح لي عندئذ أن المعركة الحقيقية هي بالفعل في مصر، فبينما كنت ورفاقي نحارب في فلسطين كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التي اشتروها رخيصة وباعوها للجيش ، ولقد كان من الضروري تركيز الجهود لضرب أسرة محمد علي… وكان في نيتي أن نحاول القيام بثورتنا في سنة 1955- (لاستكمال التنظيم والتخطيط والاستعداد)- لكن الحوادث أملت علينا قرار القيام بالثورة قبل ذلك بكثير… ” .
وبعد أن استعرض عبدالناصر العوامل والظروف التي استعجلت حركة التغيير العسكري في 23 تموز (يوليو) قال : ” نجحت الثورة لكننا لم نكن راغبين في الحكم مطلقاً … كنا مصممين على محو كل أثر للسيطرة الأجنبية وعلى اجراء اصلاح زراعي حاسم لانهاء النظام الاقطاعي الذي اختفى من قبل في أوروبا منذ ثلاثمائة عام . وكنت أريد أن يضطلع بالمسؤولية حزب يمكن أن يؤتمن زعماؤه على العمل في الحدود التي تلهمها روح الثورة . وفي بداية الأمر صفقت كل الأحزاب وهللت ، وتصور كل من الوفد والأخوان المسلمين والشيوعيين أن الثورة لهم . فقد كانوا يحسبون من اليسير عليهم تشكيل جماعة من الجيش المتحمسين بما يتفق مع منهجهم . ولكنهم عجزوا عن ادراك ما يكمن وراء الثورة من قوة في الهدف… وهكذا حملنا المسؤولية على عاتقنا والأسف يملأ قلوبنا ، ولقد كان عملي يسيطر على حياتي فقلما وجدت الوقت لشيء آخر غير العمل … وسرعان ما اكتشفت أن حكم بلد من البلاد يختلف اختلافاً عظيما عن قيادة كتيبة من الجنود، ومع ذلك فقد كانت هناك وجوه مشتركة بينهما، فقد عرفت في مرحلة باكرة جداً ضرورة التخطيط ، فالاصلاحات التي أردنا ادخالها كان لا بد من تنفيذ! ها على أساس المخطط الطويل الأجل . ولقد شغل التخطيط بالي في هذه المرحلة ، ورحت أتحدث عنه الى كل من تتيح لي الظروف فرصة أن ألتقي به ، وتكون لديه فكرة عنه أو تجربة . واني لأذكر أن موضوع التخطيط كان أول حديث طويل بين البانديت نهرو وبيني … ولم أكن أستطيع أن أعتبر نفسي خبيراً ، كما أنه لم يكن تحت تصرفنا الا عدد قليل من الخبراء ولا سيما في المجال الاقتصادي- وهو مجال ذو أهمية حيوية- فالخبراء رغم كل شيء قد يكونون في بعض الأحيان عبئاً ، أكثر منهم عاملاً مساعداً ، فلقد يكونون متحجرين فيما ألفوه من أساليب ولهذا فاني أفضل المفكرين على الخبراء . ان التفكير يجب أن يرسم الاطار العام للحركة أولا ثم يجيء دور الخبرة في خدمة الاطار العام … ” .
وعلى سؤال وجهه مورغان عما اذا كانت الأفكار التي ظهرت في كتاب ” فلسفة الثورة ” ما زالت تعبر عن آراء عبدالناصر وسياسته، أجاب : ” ربما كان مرور عشر سنوات على قيام الثورة مرحلة مناسبة لننظر الى الوراء فنرى الطريق الذي قطعناه ، وننظر الى المستقبل لنبصر طريقنا الى الأمام … وفي هذا أقول : إن الاهداف والمعتقدات الأساسية التي بينتها في كتابي ” فلسفة الثورة ” لا تزال ثابتة… ففي كتابي الصغير هذا تحدثت عن الدوائر الثلاث التي تتداخل في حياتنا ألا وهي : الوحدة العربية- التعاون الاسلامي- والتضامن الافريقي . وليس بين هذه الدوائر تعارض من أي نوع كان . فنحن أولاً وقبل كل شيء أمة عربية، ولذا فان الوحدة العربية في مقدمة ما نفكر فيه… ومن الواضح أن الوحدة السياسية التامة لا يمكن فرضها وانما هي الفكرة وأول ما يمهد لهذا الاجماع هو وحدة في الفكر، ولهذا فان أول ما نحاول ايجاده هو وحدة في التفكير بين الشعوب العربية حتى يمكن تحقيق الوحدة فيما بعد بالارادة التلقائية عند أبناء هذه الشعوب . ولا بد أن تترك المجال أمام كل بلد من هذه البلاد، وهى تتفاوت في كيانها من المجتمع الاقطاعي الى الدولة الاشتراكي! ة الحديثة ، لكى تخطو نحو التطور بحسب قدرتها. ولكن الاضطرابات والتقلبات الشديدة التي تجري في منطقة الشرق الاوسط انما مردها الى أن تطور هذه البلاد لا يمكن أن يتحقق ببطء فيستغرق القرون الطوال التي استغرقها في دول اوروبا الغربية فقوى الضغط الأيديولوجى اليوم أعنف ما يكون … “.
وعلى سؤال مورغان حول ما إذا كان عبد الناصر. يعتقد أن ” نظام الدولة الشمولية لازم في مرحلة التكوين التي تمر بها البلادالنامية ” قال : ” … الاجابة على هذا السؤال تتوقف على المقصود بالدولة الشمولية. والذي لا شك فيه أن النظرية الغربية المألوفة في الديمقراطية ليست النظرة الوحيدة ولا المحتومة للديمقراطية ولقد قلت إن من المهم أن تربط تذكرة الانتخابات برغيف العيش، فان حرية التصويت يمكن التلاعب فيها مع رجل جائع . هذه كانت حقيقة الأحوال سنة 1952، فلو أنا أقمنا بعد الانقلاب مباشرة في تموز (يوليو) نظاماً على الطراز الغربي ، لأفضى ذلك الى انتخاب نوع من الحكومة الفاسدة لا تختلف في شيء عن الحكومة التي أزلناها … فالسلطة كانت مرتكزة في يد طبقة واحدة تتمتع بالامتيازات.
كانت أول جوهريات الثورة اذن هي إزالة الحواجز بين الطبقات واعادة توزيع ثروة البلاد بطريقة أقرب الى العدالة ورد الحريات الأساسية للمصري العادي كحرية العمل والقوت ، وحرية تملك الأراضي التي يفلحها وكذلك حق حماية نفسه وأسرته وحق المشاركة في الثروة القومية والاشراف عليها وهي جميعاً حقوقا وحريات ساعدت على استرداد عزته وكرامته الشخصية، وهما حق طبيعي لكل إنسان . والأحزاب السياسية محظورة في مصر في الوقت الحاضر لأن بلادنا تجتاز ثورة شاملة تحتاج فيها الى وحدة قواها العاملة… لا أعرف متى تجد الأحزاب السياسية لنفسها مكاناً في حياة أمتنا من جديد، ونحن في سبيلنا الى وضع دستور جديد سوف يؤدي الى انشاء برلمان منتخب انتخاباً كاملاً… أما بالنسبة للمستقبل فان شعبنا لا يرضى بأي دكتاتورية من أي نوع كانت، فقد حطمنا الدكتاتورية السابقة التي كانت تفرضها الطبقات العليا في المجتمع . إن الشعب لمصمم بنفس القوة على أن لا تقع البلاد فريسة لأية دكتاتورية بديلة لها ” .
ونقف عند هذا الحد من الحديث ، ولا نخوض في التعقيب عند هذه الوقفة على موضوع الديمقراطية، وكيف انكسرت الثورة بعد عبدالناصر وانكسر تصميم الجماهير، بحيث لم يتحقق الوعد الديمقراطى بل عادت لتتحكم الحكومات الفاسدة ودكتاتورية الفرد ودكتاتورية الطبقة ، فسيكون لذلك مجاله، فالذي أردناه من هذا الاسترسال مع أفكار عبدالناصر في هذا الحديث، هو اعطاء صورة عن مجمل العوامل والظروف التي أعطت آثارها في توجيه فكر عبدالناصر وتوجيه مساره.
لقد أثرت في التشكل الفكري والسياسي لعبد الناصر ثلاثة عوامل :
1- منبته الطبقى، فهو ابن أسرة برجوازية صغيرة متواضعة ، والبيئة الثقافية الأولى التي ترعرع فيها كانت بيئة محافظة ومتدينة ، كما كانت في الوقت ذاته بيئة وطنية تحمل في ذاكرتها الشعبية تراث النضال الوطني في سبيل التحرر والاستقلال . ثم كانت تربيته المدرسية في مرحلة بدأت فيها تحركات الطلبة تشكل ركيزة أساسية من ركائز النضال الوطني وتتعامل مع المناخ السياسي الوطني العام .
ولقد كان عبدالناصر مصرياً وعربياً أصيلاً ومن بني مر ، وإذا لم يكن لنا أن نقف عند ذكر هذه الأصالة فعبدالناصر لم يحمل في نهجه وفي تفكيره أي يوم شعوراً بالتمييز أو بالتمايز العنصري أو الطائفي أو الاقليمي بل على العكس فأصالته الثورية بالأساس هي أصالة الفكر والهدف والالتزام بقضايا الجماهير الكادحة والعريضة المتطلعة الى الاندماج الوطني والى التحرر الكلي ، ولكن تلك الأصالة الوطنية والقومية جعلته أيضاً منعتقاً بالطبيعة من أية عقد أو تعقيدات تحول دون اندفاعه للوحدة الوطنية والاندماج القومي بكليته…
2- تربيته وثقافته العسكرية، فهو ولو أنه انتسب للكلية الحربية في ظرف معين وبحافز وطني شدّه ورفاقه الى الجيش في سبيل استخدامه ثورياً للتغيير الوطني وللتحرر والتحرير، فلقد كان لتلك التربية والثقافة دورهما في تغذية ملكة التنظيم والتخطيط عنده ، انتقالا من الانضباط العسكري الى الانضباط الثوري بعد ذلك، والى الفكر الاستراتيجي وتكتيكاته، والى تحمل المسؤولية والاندفاع للفعل والتنفيذ .
3- ثم حكمت فكر عبدالناصر مسؤوليته في الحكم كرأس نظام ورئيس دولة، فتلك المسؤولية الأولى اذا ما وضعت بين يديه امكانيات كبرى استخدمها بروح ثورية في الدفع بحركة التجديد والتقدم والتغيير، فلقد كانت في الوقت ذاته ( وإذ بدأ الثورة من هذا الموقع ومن غير تكامل أيديولوجي ووضوح نظري مسبق) قيدأ على فكره، وخاصة أن المثقفين من حوله لم يعملوا شيئاً كثيراً في هذا المجال ، بل كانوا يتكلون عليه في الفكر والتنظير أيضاً وينتظرون ما يقدمه، وفي أكثر الأحوال كانوا متخلفين عنه وعما يقدمه وما كانوا يدفعون الى الأمام .
ولكن عبدالناصر جاء في مرحلة من المخاض الثوري الوطني والقومى والعالمي، وعاش تجربة ثورية حقة، وتوجه للتغيير المتواصل، وخاض صراعات قاسية ومتلاحقة في شتى الاتجاهات وفي مواجهة أصعب المعوقات وأشرس الأعداء . وعاش في مرحلة انتقال كبرى في حياة الأمم ، وهو في هذا المسار الصعب كان يحاول ان يتثقف دائماً وأن يجني مزيداً من المعرفة ، وجهد ما قدر على ذلك ، في أن يجمع ويؤلف بين شخصية القائد الثوري والمفكر السياسي ورجل الدولة القادر والمنفذ، بل ووظف امكانية الدولة ووسائل تثقيفها واعلامها ، في مساندته لتسهيل مهمة الاطلاع والتثقيف الدائب . فالعمل لتحقيق أهدافه السياسية، المرحلية منها والبعيدة ، كان يطالبه بالعودة الى انضاج فكره وتصوراته النظرية. وكان في هذا كله منفتحاً كل الانفتاح في اتجاهات عدة :
1- كان منفتحاً كل الانفتاح على حركة الجماهير، وعلى حركة تقدم وعيها السياسي والاجتماعي وتقدم نضالها وعطائها، فاعلاً فيها منفعلا بها ، ولقد وقفنا عند هذا الجانب من تجربة عبد الناصر الثورية كثيراً.
2- كان منفتحاً كل الانفتاح على تراث النضال الوطني المصري بكل معطياته الايجابية، وانعكاساته على الدولة والمجتمع، بل وعلى الجيش وعلى دور الجيش المصري في هذا التاريخ الوطني، وعلى حركات الاصلاح الديني والتحرر الاجتماعي والاستنارة بالغرب وتقدمه العلمي ، كما انفتح أيضاً على الفكر العربي القومي بكل معطياته الايجابية والمستقبلية وبكل مقدماته النضالية والوحدوية . لم يكن للقومية العربية حزبها في مصر عند الثورة وقبلها . فجاء عبدالناصر ليصبح حزبها والمساند لقواها النضالية كلها.
3- وكان منفتحاً كل الانفتاح للتقدم الانساني وللتفاعل مع روح العصر ومع الفكر التاريخي، وهذه نقطة سنقف عندها ونعود اليها بعد قليل لما لها من دلالة على عدد من المقومات في التوجه الأيديولوجي الضمني عند عبدالناصر الذي وضعه في النهاية على طريق الاشتراكية العلمية.
وحركة فكر عبدالناصر وجدلية تقدمه ونضجه قد واكبت مسار ثورته منذ أن صمم عام 53 على الامساك بقيادة هذه الثورة وأن لا يسلم الأمر لقيادة غيرها ترتد بها الى مواقع القوى والنظم السياسية السالفة. ومنذ أن صمم على مواصلة المسار بها كثورة تغيير سياسي واجتماعي معاً . وهذه الثورة اذا ما وصفناها مراراً ، بأنها أخذت دورها كاملأ كثورة ” وطنية ديمقراطية ذات امتداد قومي وحدوي، وذات تطلع اشتراكى ينزع الى شمولية الثورة في بعدها التاريخى والانساني العام ” .. واذا ما قلنا عنها أيضاً إنها ثورة متداخلة المراحل جدلية التطور، تاريخية المدلول والأهداف، فاننا ونحن نحاول الامساك بمسار تطورها، من حيث الفكر والممارسة، ومن حيث التقدم والانجاز، نجد أن هذه الثورة قد مرت بمرحلتين رئيسيتين في تطورها ونمائها . وعبدالناصر هو الذي أعطى لكل من المرحلتين تسميتها وأوصافها، كمرحلة سياسية للثورة أو ثورة سياسية ثم مرحلة الثورة الاجتماعية.
ففي المرحلة الأولى كانت الجهود مكرسة لانجاز مهمات التحرر الوطني بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولتصفية مرتكزات النظام القديم السياسية والطبقية وتصفية الوجود الاستعماري وكل ما زرع وخلف ، بل وتصفية القوى السياسية التي كان يرتكز عليها ذلك النظام أو تدور في اطار مرحلته. كما كان التوجه في الوقت ذاته الى تجديد بناء الدولة وترسيخ عملية قيام دولة عصرية حديثة “… التي لا تقوم بعد الديمقراطية، الا استناداً على العلم والتكنولوجيا… “. كما قال بعد ذلك في بيان 30 مارس ( آذار) ، وعلى التخطيط ، وعلى بناء وطن حر وشعب مندمج وطنياً ، وعلى بناء مقومات الشعور بالمواطنية حياتياً ومصلحياً ، والشعور بالمشاركة ووحدة المصير لدى أبناء الشعب الواحد، وفي بناء القاعدة الصناعية والانتاجية التي تساند هذا التطور على أساس من الاقتصاد الموجه الذي تمسك بزمام المبادرة فيه بالضرورة السلطة الوطنية… تلك كانت مرحلة السنوات العشر الأولى لحكم عبدالناصر، والتي كانت مرحلة الانتقال الاولى في ثورته، والتي سماها عبدالناصر بمرحلة التجريب وتبلور التجربة بالممارسة والتعلم من ” الخطأ والصواب ” كما يعطيان نت! ائجهما على أرض الواقع .
وفي تلك المرحلة، كانت المكتسبات التاريخية للفكر الليبرالي في مقولاته العامة وفى معطياته في بناء الدول القومية الحديثة في الغرب ، هي الموجه العام لممارسة عبدالناصر، بل إن أفكار الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي ، كالاصلاح الزراعي والقضاء على الاقطاع ، وتمصير المصالح الأجنبية، وتدخل الدولة في توجيه حركة الانتاج وبناء التراكم الرأسمالي للتصنيع وتحديث البناء الاقتصادي، ظلت موجهة بمعطيات الثورات الوطنية الليبرالية، ولو أن قيادة عبدالناصر و شخصيته ومعطيات بيئته الخاصة وثقافته، بما في ذلك الثقافة الوطنية والدينية أعطتها قدراً من الخصوصية . وكثيراً ما كررعبدالناصر: ” إننا عملنا لنقطع في عشر سنوات ما قطعته الدول الأوروبية العصرية خلال ثلاثة قرون… “
أما المرحلة الثانية ، وهى المرحلة التي بدأت زمانياً باجراءات التأميم عام 61 وتأكدت فكرياً وعملياً عام 62 وتواصلت، فقد سادها التوجه الاشتراكى ومنظور ” الاشتراكية العلمية ” في التخطيط والبناء. وهى التي حسب عندها عبدالناصر أنه قد أنجز مهمات الثورة الوطنية الليبرالية ، وأصبحت ثورته في انجازاتها العامة، وبخاصة في التقدم بوعي الجماهير، قادرة على خوض غمار الثورة الاجتماعية، والدخول في طور الانتقال، وعن طريق التحويل الاشتراكي للدولة والمجتمع ، نحو الثورة الكاملة ، أي تكملة الثورة السياسية بالثورة الاشتراكية والوصول الى مجتمع الكفاية والعدل ، مجتمع الديمقراطية الاشتراكية ، مجتمع ا لحرية…
إنهما مرحلتان، ولكنهما من منظور تاريخي ومن خلال امساك قيادة واحدة بهما، تتطور معهما وتنتقل بخطواتهما وانجازاتهما، فلم يكن هناك من قطيعة أو انقطاع بين المرحلتين، فقد كانتا متداخلتين. فالمرحلة الأولى مضت وكأنها تحمل بذور المرحلة الثانية في طياتها ، والمرحلة التالية جاءت لتعطي وضوحاً وترسيخاً وامتداداً لمنطلقات أساسية كانت سبقتها، وهما تتجليان أمامنا في أنهما مرحلتان كان لا بد منهما في مسار تقدم المجتمع ثورياً وفي مسار التطور التاريخي العام للأمة ، ولتجعلا من ثورة عبد الناصر ثورة متكاملة، ولتصنعا وحدة هذه الثورة.
ولم يغير من طبيعة هذه الثورة ومسارها، تشابك المسألة الوطنية مع المسألة القومية، وطرح قضية الوحدة العربية عليها. فلقد جاءت الوحدة في المسار كأنها بعد من أبعاد الثورة، وضرورة لا بد منها لتكون للثورة خصوصيتها واطارها. ولقد كان لهذا البعد أيضاً بدايات منذ أن أخذت الثورة منطلقها كثورة تمسك بزمامها قيادة عبدالناصر. فهذا التشابك التاريخي والمصلحى والمصيري، ما لبث أن أصبح في سياسة عبدالناصر، استراتيجية عمل ونضال سواء في تأكيد وجود الأمة وتطلعها لاستكمال وجودها الذي لا يتم الا في منظور وحدوي وبالتطلع للوحدة ، أو في النضال التحرري للخلاص من التبعية والسيطرة الاجنبية، وللتصدي للأمبريالية والصهيونية، كما تأكد في تلك الخطوة الثورية الكبرى التي أعطت وحدة مصر وسورية عام 1958، بل وفي كل ما جاء من مشاركة لمصر عبدالناصر في حركات الثورة والنضال العربي التحرري في كل مكان من أرجاء الوطن العربي . فمن قبل الوحدة أرسلت مصر الثورة جيوشها الى سورية لتقف في وجه التهديد الامبريالي بالاخضاع والعدوان. كما أرسلت جيوشها انتصاراً لثورة اليمن ، ولقد ناصرت ثورة الجزائر بكل قواها ، بل إن حرب السويس
كانت في جانبها الفرنسي ثمناً لالتزام مصرعبدالناصر بثورة الجزائر، وكذلك ساندت تلك الثورة وأنجدتها للدفاع عن استقلالها عندما أخرجت الاستعمار من أرضها وأقامت حكمها الوطني .
وهكذا وكما قال عبدالناصر عن جدلية أهداف ثورته ، في الحرية والاشتراكية والوحدة بأنها ” أهداف متكاملة تأخذ من بعضها وتعطي لبعضها … “. كذلك فان فكره كان يتقدم جدلياً باتجاهها مثل جدلية العلاقة بين تلك الأهداف . وظل فكره يحمل معطيات الثورة الوطنية الليبرالية في بناء التحرر وبناء الدولة العصرية، وظل يحمل معطيات الفكر القومي والارتباط المصيري بقضية الأمة وتاريخها، وظل يحمل حافز الوحدة، كما تقدم ليأخذ بمعطيات الفكر الاشتراكى العلمى ، ولو أنه ظل في هذا المجال يقف عند عموميات ذلك الفكر التاريخي من غير صياغة أيديولوجية قاطعة . وكان يطالب بالتمهل ، كما عبر عن ذلك عام 64 في اجتماعه بأعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي حين قال : ” إن مجتمعنا نفسه كان عبارة عن تناقضات اجتماعية وفكرية، ومن أجل ذلك فلا بد ان ندخل أبواب الفكر الاشتراكى بتمهل وبساطة… فاننا في مرحلة حساسة جداً وتلك هى مرحلة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية… وطالما أننا في مرحلة التحول والانتقال فسوف يوجد الفكر أثناء التطبيق … الا ان الأساس قائم والسبيل محدد وسوف يزداد التعمق وسيزداد التفصيل كلما خطونا في طريق! نا الى الاشتراكية… ” ، ولكن هذا الفكر الاشتراكى لدى عبدالناصر، وحتى في تمهله وبساطته، كان الأساس فيه قائماً ، وأخذ يرتكز على مقولات ثابتة ويتطلع الى أهداف محددة ، وعاد يلقى ضوءاً على المسار الثوري السابق وعلى بقية أهداف الثورة ، بحيث أصبح شرطاً من شروطها ، فالثورة الاجتماعية في صيغتها الاشتراكية العلمية اصبحت ضرورة من ضرورات الديمقراطية ولاستكمال مقومات الحرية، حرية الوطن وحرية المواطن ، وكما أصبحت ضرورة من ضرورات الوحدة أيضاً ، لتزيل التناقض الطبقي بين مصالح الحاكمين والمحكومين ، ولتزيل ما يشد الحاكمين الى الاقليمية والتبعية واللاوطنية، ولتأتي الوحدة عندها بالضرورة تعبيراً عن ارادة الجماهير العريضة وتحقيقاً لوحدة مصالحها ولوحدة التاريخ الذي تريد أن تصنعه، ولوحدة هدفها.
إننا، من هذه الاستطرادات كلها ، أردنا التأكيد على أن عبد الناصر كقائد ثوري حمل مسؤولياته كاملة، فكرأ وممارسة، قد وضع فكره وممارسته في سياق تاريخي من حيث الاستيعاب والتطور والنضج، وصولاً إلى الأخذ بالقواعد العامة لمنهج الفكر التاريخاني (كما يسميه البعض)، والذي يقدم محصلته التطبيقية، تحت عنوان ” الاشتراكية العلمية “، وإلا فماذا يبقى المقصود بالفكر التاريخاني والفكر الاشتراكي العلمي، إلا أن يوضع نضال شعب من الشعوب، وأن يوضع تقدم مجتمع من المجتمعات وحركة تغييره الثوري، في سياق تاريخي هادف يدفع بتلك الحركة قدماً إلى الأمام؟
ولقد كان عبد الناصر كذلك ، أو هو أصبح في مساره كذلك، ولكن تبقى لتجربة عبدالناصر خصوصيتها، وفي هذا المجال أيضاً ، أي في مجال الفكر الاشتراكى العلمي . وتلك الخصوصية لا تقف عند مقولة عبد الناصر: إن الاشتراكية واحدة ولكن لنا طريقنا الخاصة في تطبيقها وفي تحقيق إنجازاتها وأهدافها، بل إن تلك الخصوصية التي علينا أن نستكشفها من خلال حركة فكر عبد الناصر وممارسته، تتعدى هذا، إلى الإطار الأيديولوجى العام للاشتراكية العلمية، فلقد حذف منها عبدالناصر وأضاف إليها، وهذا ما يمكن أن يلمس من نصوص ” الميثاق الوطني ” ، ومن كل شروح عبد الناصر له، وهذا ما يفسر لنا حذره من أن يوصف نهجه التاريخي، وأخذه بالاشتراكية العلمية، أخذاً بالماركسية ككل ، من حيث أن الماركسية (أو الماركسيات كما أشار…) كانت تقدم نفسها في صيغ كاملة وشبه مغلقة فلا تقبل الإضافة أو الحذف. وبهذا المعرض أي بمعرض الإضافة والحذف تأتي تلك الأفكار التي قالها عبدالناصر بصدد موقفه الحذر تجاه الأحزاب الشيوعية ، في مصر، وهي مسألة الانتماء القومي واستقلالية التنظيمات السياسية عن الارتباطات الخارجية ومسألة الموقف من الدين . ولكن هذه الخصوصي! ة في الإضافة والحذف ليست خصوصية تجربة عبد الناصر الثورية وحدها ، بل هي سبيل أية ثورة تريد أن تشق طريقها الخاصة بها، كما وأن مسائلها من المسائل التي أخذ يتمثلها تيار الفكر التاريخي الإنساني العام . ولكن خصوصية تجربة عبد الناصر، عند دور شخصيته التاريخية التي جاءت وكما لو أنها حاجة ضرورية من حاجات المرحلة التي تمر بها الأمة، كما تقف قبل ذلك وبعده على الدور التاريخي الأساسي والرئيسي لمصر والمجتمع المصري في حركة الثورة العربية، ثم خصوصية قضية القومية العربية المجسدة في هدف وحدة كيان الأمة وضرورة توحيد شعوبها وأوطانها.
تلك الخصوصية في أبعاد ثورة عبد الناصر، هي التي ظلت وستظل .. تطرح مسائلها بعد غياب عبد الناصر، وعلى كل الذين يقولون ” بتكملة المشوار ” ، ومواصلة مسار الثورة .
وإذا كان البديل لدور عبدالناصر، لم يعد من الممكن أن يكون دور شخصية تاريخية أو رجل تاريخي، فلقد كان لذلك مرحلته وجاء تلبية لها ، بل البديل الذي يجب أن يوجد هو الأداة المنظمة لحركة الثورة، أي حزبها أو جبهتها… كذلك فإن الدور الذي يطالب تاريخ الأمة وثورتها بأن يعود هو دور مصر، أي أن تستعيد مصر دورها النضالي القومي وكما كان لها في عهد عبد الناصر، وهو أن تقود قضية الوحدة القومية كنهج استراتيجى تصاغ على أساسه من جديد حركة الثورة وأداتها.
بقي ما يحسب سلباً على تجربة عبدالناصر، ولكأنه جانب من خصوصيتها، وما استبعاده إلا حذف من تلك الخصوصية وسلب منها، وهو قصور تلك التجربة عن استكمال الثورة الوطنية- في مرحلة الثورة السياسية- بإنجاز مهمات الديمقراطية السياسية، كما قصرت عن ذلك في طور الثورة الاجتماعية والسير على طريق التحويل الاشتراكى، كما عجزت عن أن تعزز لحمة الوحدة القومية به، عندما قامت وحدة مصر وسورية. ثم ما طرح على ” الزعامة الفردية ” لعبد الناصر، وعلى منهج الثورة في تخطي المراحل من مغريات دفعت في قليل أو كثير، على طريق شمولية الدولة وهيمنة أجهزتها وسلطاتها… وتلك مسائل كثيراً ما أخذت على التجربة والثغرات التي خلقتها . إلا أن من الحق أن نسوق هنا ملاحظة، وهي أن هذه المغريات أو التجاوزات ، قد دفعتها ، وعلى نطاق أوسع ، أكثر التجارب الثورية التي قامت في مناطق عديدة من العالم، لتصبح من المسائل التي يطرحها اليوم على نفسه الفكر الثوري العالمي ويطالب بإيجاد حل ديمقراطي لها. لكنها مسألة تظل تعترض طريقنا خاصة بعد كل ما طرأ وما أصاب حركة التقدم العربي من ترد بعد عبد الناصر، ليصبح حلها والإجابة عليها، ووضع ضمانات للديمقر! اطية، أساساً لا بد منه، مطلوباً في أية صياغة جديدة لفكر الثورة العربية ونهجها واستراتيجية سيرها.
3- من الاستراتيجية العسكرية إلى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي
ونعود لنقول إن الإيجابية الكبرى في تجربة عبدالناصر، هى أنها وضعت الثورة العربية في مسار تاريخي ، وملكت حساً تاريخياً ، وإن عبد الناصر صاغ فكره وممارسته في نهج استراتيجي ، وهذا ما وضعه في تماس مباشر مع صراعات المجتمع ومع حركة التاريخ ومراحلها ، ووصل به إلى الإمساك بمنهجية الفكر التاريخي، في تحديد ملامح الثورة وأهدافها .
ونترك الكلام هنا لعبدالناصر، في هذه الفقرات المتقطعة من كتاباته وأفكاره ، والتي تقدم لنا عددأ من الانطباعات عن المنحى التاريخي لفكر عبدالناصر :
في ” فلسفة الثورة ” قال : “… ولقد قلت مرة اني لا أريد أن أدعى لنفسي مقعد أستاذ للتاريخ فذلك آخر ما يجري إليه خيالي، وقلت إني سأحاول محاولات تلميذ مبتدىء في التاريخ . فلقد شاء لنا القدر أن نكون على مفترق من الطرق من الدنيا، وكثيراً ما كنا معبراً للغزاة ، ومطمعاً للمغامرين . ومرت بنا ظروف كثيرة يستحيل علينا أن نعلل العوامل الكامنة في نفوس شعبنا إلا إذا وضعناها موضع الاعتبار. وفي رأيي أنه لا يمكن إغفال تاريخ مصر الفرعوني ثم تفاعل الروح اليوناني مع روحنا ، ثم غزو الرومان والفتح الإسلامي وموجات الهجرة العربية التي أعقبته. وفي رأيي أيضاً أنه يجب التوقف طويلاً عند الظروف التي مرت علينا في العصور الوسطى ، فإن تلك الظروف هي التي وصلت بنا إلى ما نحن عليه الآن . وإذا كانت الحروب الصليبية بداية فجر النهضة في أوروبا، فقد كانت بداية عهود الظلام على وطننا… ” . وبعد أن يتابع أطوار الغزو والقهر وهيمنة الإقطاع والغرباء وعهود التخلف والتبعية يقول : ” وبعد هذا الانقطاع التاريخي بدأ اتصالنا بأوروبا والعالم كله من جديد وبدأت اليقظة الجديدة، ولكنها بدأت بأزمة حادة… كنا قد انقطعنا عن العالم ! وانطلقت علينا تيارات من الأفكار والآراء لم تكن المرحلة التي وصلنا إليها في تطورنا تؤهلنا لقبولها ، وكانت أرواحنا ما زالت تعيش في آثار القرن الثالث عشر، وإن سرت في نواحيها المختلفة مظاهر القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين. وكانت عقولنا تحاول أن تلحق بقافلة البشرية المتقدمة التي تخلفنا عنها خمسة قرون أو يزيد، وكان الشوط ماضياً والسباق مروعاً مخيفاً …” .
وبعد هذه الفقرة التي يتحدث فيها عن وعى حالة تأخر الأمة في سياقها التاريخي ننتقل مع عبدالناصر إلى طريقة تدارك هذا التأخر حين يقول في ” الميثاق ” : ” لقد أثبتت التجربة وهى ما زالت تؤكد كل يوم أن الثورة هي الطريق الوحيد الذي يستطيع النضال العربي أن يعبر عليه من الماضي إلى المستقبل… والثورة هي الوسيلة الوحيدة لمغالبة التخلف الذي أرغمت عليه الأمة العربية كنتيجة طبيعية للقهر والاستغلال … والثورة بعد ذلك هي الوسيلة الوحيدة لمقابلة التحدي الكبير الذي ينتظر الأمة العربية وغيرها من الأمم التي لم تستكمل نموها… “.
وبعد هذا الإدراك وبعد الكلام عن الجذور التاريخية لنضال الأمة يضعنا عبدالناصر أمام عدد من الأفكار الأساسية للمفهوم التاريخي للأشتراكية العلمية التي أخذ بها فيقول : ” إن الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعى في مصر وصولاً ثورياً إلى التقدم لم يكن افتراضاً قائماً على الانتقاء الاختياري، وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين … ” ويقول : ” إن من الحقائق البديهية التي لا تقبل الجدل أن النظام السياسى في بلد من البلدان ليس إلا انعكاساً مباشراً للأوضاع الاقتصادية السائدة فيه وتعبيراً دقيقاً للمصالح المتحكمة في هذه الأوضاع الاقتصادية… إن الاشتراكية العلمية هي الصيغة الملائمة لإيجاد المنهج الصحيح للتقدم … إن التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل الاجتماعي ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة والاستغناء بها عن التجربة الوطنية… إن الرجعية الحاكمة كان لا بد لها أن تطمئن إلى سيطرة المفاهيم المعبرة عن مصالحها، ومن ثم انعكست آثار ذلك على نظم التعليم ومناهجه وأصبحت ل! ا تسمح إلا بشعار الاستسلام والخنوع … إن الشعب… كان مصراً على أن يستخلص للمجتمع الجديد الذي يتطلع إليه علاقات اجتماعية جديدة تقوم عليها قيم أخلاقية جديدة وتعبر عنها ثقافة وطنية جديدة “.
هذه الكلمات أو هذه المبادىء والمقولات العامة التي وردت في ” الميثاق ” إلى جانب ما ذخرت به كلمات عبد الناصر وخطبه وتصريحاته من تأكيدات بهذا الشأن ، وخاصة تلك التي جاءت منذ بداية عام 62، هي ذات دلالة ولا شك على أخذ عبد الناصر بالمنهج التاريخي للاشتراكية العلمية وتأثره به، مع ما أشرنا إليه من تمييز للخصوصية في الحذف منه والإضافات إليه. ولكن هذا الأخذ لم يأت عفواً، ولا استعارة لتغطية حاجة سياسية بل جاء وكأنه نتيجة طبيعية لمسار تجربة عبد الناصر ومسار ممارسته.
***
قال العروي في هامش من هوامش كتابه ” العرب والفكر التاريخي ” : ” من الملاحظ تاريخياً أن نقل التمييز بين التكتيك والاستراتيجية من ميدان القتال إلى ميدان السياسة لا يأتي إلا في إطار فكر تاريخاني . فالأحزاب – البورجوازية عموماً – تمتاز في التكتيك ، بل يعود لديها التكتيك مرادفاً للسياسة. وإذا ظهر في أحضانها من يعتمد التمييز المذكور كتشرشل وديغول ، فإن فكره يكون متأثراً بالفكر التاريخي . والملاحظة تصدق أيضاً على سياسة عبد الناصر ” .
ولن أخوض هنا تفصيلاً في مناقشة الأحكام التي أصدرها الأستاذ العروي في كتابه هذا على التجربة الناصرية من حيث منظوماتها الأيديولوجية، فتلك الأحكام جاءت بالانطلاق من موقف ثقافي وحضاري عام يواجه مسألة التأخر العربي ، من غير أن يخوض في غمار تلك التجربة الناصرية وأن يعيش مسارها ومعاناتها، ولكن لنمض قليلاً مع تلك الأحكام لما لها من أهمية ، ولو أن دور عبد الناصر يتجاوزها بمقدار لا بأس به ويشكل استثناء عنها . فلقد نقل العروي صورة شكلها من خلال معايشته لصديقه المناضل المغربي والقومي التقدمي الشهيد ” المهدي بن بركة ” ، وطريقة تكوين أيديولوجيته السياسية، ليسقطها العروي على عبد الناصر. ولقد كان المهدي بن بركة صديقأ حميماً لعبد الناصر أيضاً ومنسجماً معه في جوانب كثيرة من فكره السياسي ومن نضاله، ولكن الفارق أن عبد الناصر استمر وأنجز مهمات للثورة العربية ودفع بمسارها نحو المستقبل ، وحمل مسؤولية بناء نظام جديد ودولة….
يقول العروي بصدد البحث عن دور الوعي الثوري والتكوين الأيديولوجي في رفع مستوى القيادة الثورية، وما تعيشه القيادات السياسية العربية من قصورات من هذه الناحية : ” اتضح لدي شكل النقص الأيديولوجي بصفة أخرى عندما استخرجت العبرة من النظام الناصري وهو في آخر سنة من تجربة الوحدة . كانت ( أزمة المثقفين ) آنذاك على أشدها وكان الميدان الثقافي مرتعاً للسلفيين (القوميين) المجندين وكان زعماء اليسار يجهلون حتى الخطوط العريضة للفكر الماركسي بل حتى مقومات الفكر الغربي المعاصر، ويعتمدون في تشخيصهم لمشكلات مصر والعالم العربي على معلومات هزيلة جداً عن تاريخ الاقتصاد، عن نظريات الاجتماع ، عن الحركات الاجتماعية، بل حتى عن الجوانب الأساسية من التاريخ الإسلامي “.
وإلى هنا يظل التحليل واقعياً ولكن العروي يقفز من هذا إلى الحكم بقوله : ” ولا أدل على ذلك الضعف وضيق الأفق من ” الميثاق ” الذي كان زبدة تفكير النخبة المثقفة المتعاونة مع النظام الناصري … “.
إن هذا الحكم يظل عند إدراك العروي لمأساة التأخر العربي في بعده الثقافي، ولكنه وبكل منهجية الفكر” التاريخاني ” الذي يمسك به العروي بقوة وجدارة ، والذي نحذو حذوه فيه ونستلهم منه الكثير، فهو لا يخوض في* تاريخانية ” تجربة عبد الناصر، ولا يضع الميثاق في مكانه كبرنامج عام لتحالف سياسي- اجتماعى لمرحلة من مراحل الانتقال التاريخية، ولا يضعه في سياقه من تقدم التجربة الناصرية التي كانت الممارسة عنوانها، والتخطيط الاستراتيجى مرتكزها ، والإنضاج بالتجربة والمعاناة والاستيعاب التاريخي أيضأ طريقها ، هذا فضلاً عن أن ذلك ” الميثاق ” الذي وضعه عبد الناصر كدليل للعمل في مرحلة، وكدليل سياسي ، لم يأت إلى الآن مع الأسف من يتقدم عليه في مواثيق القوى والتحالفات السياسية التي تقول بالثورية والثورة في الوطن العربي .
فالنقص لم يكن عند قيادة عبد الناصر، من حيث أن الميثاق لم يعط تعبيراً عن الفكر التاريخي إلا في حدود العموميات، فكذلك تأتي ” المواثيق ” السياسية، ولكن الشيء الذي يضع العروي يده عليه حقاً هو فقدان ذلك التفتح الثقافي المستوعب والمجدد والإبداعي ، في المناخ العربي العام . ويظل عبد الناصر مع ذلك، متقدماً على ” ميثاقه ” من حيث تطلعه للمستقبل ، وليس وراءه . أما ” النخبة ” المحيطة بعبد الناصر فلقد كانت في غالبيتها اتباعية لا إبداعية وكانت تأخذ منه أكثر مما تعطيه ، وتتكل عليه ولا تأخذ مبادرتها.
العروي يجيب على نفسه بعد ذلك فيقول : ” كانت الظاهرة الاساسية هي العجز الأيديولوجى ، أو بكيفية أدق هي تخلف الذهنيات عن الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية العامة ، وهذا تخلف نسبي في اطار تخلف عام … وكل سياسة (علمية) لا تستقر في الأمد الطويل إلا على أساس التوضيح المتواصل ، ثم يقول : ” لكن عدم التسلح بالايديولوجية الملائمة كان أيضأ من الأسباب التي أضعفت التجربة من جذورها … “.
ولكن من أين تأتي الأيديولوجية الملائمة…؟ إن العروي يرى أن الطريق إلى وعي التأخر بالنسبة لمثقفي الشعوب ” النامية ” ولتدارك هذا التأخر، هو الأخذ بالمنهج التاريخي، كما أخذت به الماركسية في مرحلتها الأولى ، أي في مرحلة نقدها واستيعابها في آن واحد للمعطيات الحضارية للثورة الليبرالية الأوروبية… ثم تجاوزها من خلال هذ الاستيعاب والتقدم بها وعليها .
وعبد الناصر لم يبدأ من منطلق كهذا، وما كان من الممكن له في ظرفه الخاص والعام أن يبدأ. ولا نريد أن نعطي لعبدالناصر من تقديراتنا ما لم يعبر هو عنه ، ونقول إنه انتهى إلى مثل ذلك المنهج أو قال بالأخذ به كاملاً ، أمام ما كان متراكماً من سلبيات ” التأخر ” ، التي تعترض سبيل الأخذ بمنهج صحيح للتقدم .
إن عبد الناصر بدأ من القول كما جاء في ” الميثاق ” من أن الثورة أو ” إرادة التغيير الا جتماعي ، في بداية ممارستها لمسؤولياتها، تجتاز فترة أشبه بالمراهقة الفكرية تحتاج خلالها إلى كل زاد فكري . ولكنها في حاجة إلى أن تهضم كل زاد تحصل عليه وتمزجه بالعصارات الناتجة من خلاياها الحية. إنها تحتاج إلى معرفة ما يجري حولها . ولكن حاجتها الكبرى هى إلى ممارسة الحياة على أرضها ” . ولقد تقدم عبدالناصر بالممارسة السياسية وممارسة الحياة ليأخذ بنهج تاريخي على طريقته وحسب معطيات ظرفه وإمكاناته.
ولا نمسك بفكر عبد الناصر التاريخي – وفكره كان حركة تعلم وحركة نقد وتمثل ذاتي ونضج- إلا من خلال حركة سياسته ومعطياتها الاستراتيجية والتكتيكية .
ونعود إلى كلمات العروي عن ” نقل التمييز بين التكتيك والاستراتيجية من ميدان القتال إلى ميدان السياسة ” تأثراً بالفكر التاريخى … وهنا إذا لم يكن وجه المقارنة صحيحاً بين عبد الناصر من جهة وبين تشرشل وديغول من جهة ثانية ، إلا من حيث الأخذ بنهج استراتيجى ، فإن ملاحظة العروي العامة تبقى صحيحة. إن تشرشل وديغول كرجلين تاريخيين قاما بهذه النقلة الاستراتيجية، ولكن في مجتمع متقدم ومتبلور، وقاما بهما من خلال المواقع الأيديولوجية لطبقتهما ونظاميهما لا ضدها ، أي أنهما لم يضعاها في خدمة التغيير الثوري بل في خدمة المحافظة، وعلى النقيض من ذلك جاء عبدالناصر: إنه جاء حركة تغيير بل وتدمير للمواقع الطبقية والأيديولوجية للنظام السياسي والاجتماعى والثقافي الذي كان سائداً حتى 23 تموز (يوليو) عام 1952. وإذا حصرنا تلك النقلة الاستراتيجية في إطار التخطيط الاقتصادي أولاً والسياسي بالتالي ، مسلوخة عن لحمتها الطبقية والنضالية، فهى ولو أنها مستمدة من المكتسبات التي حملها التطبيق الماركسي في نهجه ” الاشتراكي العلمي ” وسياسة الخطة الاستراتيجية، نجد أن الغرب الرأسمالي، بما في ذلك الإمبريالي والأميركى، قد ت! مثل على طريقته تلك المكتسبات، هذا مع الاحتفاظ بالمواقع الأيديولوجية والنظام الطبقي المعادي للأيديولوجية الاشتراكية.
وإذا كان هناك من مجال للمقارنة بهذا الصدد، فالأجدر أن تجري بين عبدالناصر ولينين والنقلة التي انتقلها بنظامه الثوري بعد تصفية مواقع النظام القديم ، ووضع خطته الاقتصادية الجديدة ” النيب ” NEP عام 1921 التي اعتبرت الممارسة العملية للبناء الثوري بحيث سميت مرحلة كاملة من الثورة الشيوعية باسمها. وسياسة ” الخطة ” الاستراتيجية كانت سياسة عبد الناصر منذ أن أمسك بقيادة نظام ثورة تموز ( يوليو) مع الفارق في أن لينين كانت لديه أيديولوجية جاهزة صاغها تقدم الغرب كله، وكان قد طورها لحاجات مجتمعه وطابق بينها وبين خصوصية ” المجتمع الروسي ” في مرحلة تمهيدية طويلة من النضال سبقت التغيير الثوري واستلام الحكم . أما عبدالناصر فلم تكن أمامه ” نظرية كاملة ” يبدأ منها، أو أيديولوجية جرت ملاءمتها ليأخذ بها ، وكان عليه أن يبدأ من المعطيات الأولية البسيطة التي كانت بين يديه ومن حوله، وأن يشق طريقه بالتعلم من الممارسة ومن معطيات الواقع وهو يتحرك بالتغيير ومع الحرارة التي تدفقت بها حماسة الجماهير وهي تدفع به وتندفع معه على طريق التغيير والثورة . ولينتقل بالثورة مراحل وأطواراً ، من خلال هذا التعامل التاريخ! ي الجدلي مع حركه الواقع وهو يتغير وحركة العالم من حوله ، وانفتاحه على الفكر التاريخي وتأثره به ولو أنه جاء بالانفتاح المتدرج ، فلقد أخذ به في النهاية، على نحو خاص ، ليعطي لثورته الوطنية أبعادها القومية ومنحاها الاشتراكي، متطلعاً إلى ثورة ثقافية تعطي لهذه الثورة السياسية أبعادها الأيديولوجية فالحضارية، وليقول بعد ذلك ما جاء في الميثاق ” إن هذه التجربة أثبتت أن الشعوب المغلوبة على أمرها قادرة على الثورة ، وأكثر من ذلك أنها قادرة على الثورة الشاملة “.
إننا ونحن نطل هذه الإطلالة العامة على تجربة عبد الناصر الثورية وفكره التاريخي لا بد لنا هنا من هذه الوقفة عند شخصية عبدالناصر العسكرية وثقافته العسكرية. وما كان لهما من دور في تلك النقلة الاستراتيجية باتجاه التعامل مع الفكر التاريخي وحركة التاريخ . فعدا أن الجيش كان هو المجال الأول الذي أثبت فيه عبدالناصر كفاءته التنظيمية وجدارته القيادية، ليجعل من تنظيمه العسكري تنظيماً سياسياً قادراً على التعامل مع القوى السياسية الوطنية الموجودة في الساحة وعلى اسقاط النظام الملكي، فإن عبدالناصر في الحكم ، ومنذ البداية ، قد أخذ بمنهجية استراتيجية في السياسة من خلال ذلك التكوين العسكري والثقافة العسكرية. ولقد كان عبد الناصر أستاذاً في علم ” الاستراتيجية والتكتيك العسكري “، في كلية الأركان، كما كان عدد من زملائه العسكريين الذين تعاونوا معه في بناء تنظيم ” الضباط الأحرار ” وفي المراحل الأولى لبناء ” نظام الثورة ” ، ثم خلفهم وراءه بحركة تقدم ممارسته الثورية وفكره التاريخي . فمن الا نضباط العسكري انتقل عبد الناصر بقيادته وحاول أن ينقل من حوله إلى ” الانضباط الثوري ” في السياسة، ومن التخطيط الاس! تراتيجي العسكري ، انتقل عبد الناصر إلى التخطيط السياسي والاقتصادي البعيد المدى ، ومن التكتيك والخطط التفصيلية في ميدان القتال ، التي تطالب بسرعة المبادرة وسرعة التنفيذ، انتقل أيضاً إلى رسم خططه التنفيذية، في ميدان السياسة وإلى سرعة المبادرة فيها . ولقد عاش عبد الناصر حياته السياسية كلها معارك متواصلة وعاشها نضالاً وقتالاً.
وفي الجيوش هناك اليوم – كما هو معروف- العقيدة العسكرية التي ينظم على أساسها الجيش وأسلحته وانضباطه وعلاقاته، وتعين المنطلقات العامة التي تقوم عليها استراتيجيته. وهناك الاستراتيجية أي الخطة العامة أو ” الخطة الهدف ” وهناك التكتيك ، أي الخطط التنفيذية والمرحلية التي تترجم لها الاستراتيجية، ولكن الجيش يبقى جيش الدولة والنظام ، ويبقى محكوماً بسياسة ذلك النظام وأيديولوجية الطبقة السائدة أو المهيمنة. كما أن العقيدة العسكرية لها حيزها المحدد، ومن الممكن أن تستعار كما يمكن ملاءمتها في غيرعناء كبيرمع الواقع وحاجاته ، كما يمكن أن تحد منها إمكانات هذا الواقع . ولكن ما أن تنقل الاستراتيجية والتخطيط العام من الميدان العسكري إلى ميدان السياسة ، إلا ويواجه آفاقاً أبعد وأشمل، تضع القيادة بالضرورة أمام المجتمع بكل حركته وصراع المصالح والطبقات والأفكار فيه وكل تعقيداته، وليضعها بالتالي في ميدان التاريخ وما يصنع حركة التاريخ .
وعبد الناصر انتقل بذهنيته الاستراتيجية في التخطيط والتنفيذ من الميدان العسكري إلى ميدان السياسة ولو أن ” ميدانه العسكري ” كان محكوماً ومنذ البداية لا بالعقيدة العسكرية المستعارة ، وإنما بحسه الوطني وحافز التغير الثوري . وهذه الذهنية نلمس ملامحها منذ بدايات عبدالناصر في ” فلسفة الثورة “. فهو عندما أراد أن يعطى منظوراً لحركته السياسية ، جاء ليدلل في مقدمة الكتاب على ذلك التأثر بالتخطيط العسكري في نهجه السياسي ، من خلال ما قاله في تقديم ذلك الكتاب أو ذلك المنظور السياسي في أنه : ” أشبه ما يكون بدورية استكشاف … محاولة لاستكشاف نفوسنا لكي نعرف ما نحن وما دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات … ومحاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا في الماضي والحاضر، لكى نعرف في أي طريق نسير.. ومحاولة لاستكشاف أهدافنا والطاقة التي يجب أن نحشدها لتحقيق هذه الأهداف… “.
و ” دورية الاستكشاف ” تلك التي تقدمت لتستطلع الطريق وتختبر طبيعة ” المكان ” الذي تمارس فيه استراتيجيتها وتستكشف واقع المنطقة ودوائرها العربية والإسلامية والأفريقية ، ولتضعها في حركة الزمان، إنما هى الدليل الأول على المنهجية التي اتبعها عبد الناصر في إنضاج وعيه الثوري من خلال استيعاب تاريخي أولي ، لتداخل العوامل والاحداث التي فجرت ثورة يوليو ، أو جعلت من ذلك الانقلاب العسكري ، حركة ثورة ، ولتضع أمام تلك الثورة مهماتها الوطنية والقومية ، ومهماتها السياسية والاجتماعية …
والأدّل على ذلك النهج الاستراتيجي ، وبأكثر من دلالة مقدمة ” فلسفة الثورة ” هو ما قاله عبد الناصر في حديث للصحافي البريطاني مورغان ، حيث يقول : ” سرعان ما اكتشفت أن حكم بلد من البلاد يختلف اختلافا عظيما عن قيادة كتيبة من الجنود . ومع ذلك فقد كانت هناك وجوه مشتركة بينهما . فلقد عرفت في مرحلة باكرة جداً ضرورة التخطيط … الخ ” وفي سبيله الى هذا التخطيط لبناء الدولة وبناء قاعدتها المادية في الانتاج والتنمية ، راح عبد الناصر يطلب الخبرة من ” ذوي الخبرة ” ويطلب الفكر الموجّه من ذوي الثقافة والفكر … ولكن لا الخبراء كانوا على المستوى المطلوب ، ولا المفكرون قدموا له كثيرا ” لرسم الاطار العام للحركة … ” . وأخذ بالمعطيات المتوفرة واعتمد سبيل التعلم والممارسة . إن خطة عبد الناصر من البداية أخذت طابعها الاستراتيجي كخطة هادفة لا كمجرد خطط تكتيكية في مواجهة المشاكل والازمات المطروحة أمامه ، أي أنه وجد نفسه مطالباً بمغالبة مشكلة التأخر بكل أبعادها ، بالتخطيط السياسي البعيد المدى ، والهادف الى بناء دولة عصرية متحررة ومتقدمة .
والخطة السياسية الاستراتيجية تعني بالضرورة الخطة الاقتصادية ، ولكنها خطة يوجهها الهدف الوطني في التحرر الكامل ، والحاجة الى بناء القاعدة المادية التي يقوم عليها بناء دولة عصرية ، ويقوم عليها تقدم المجتمع . والهدف الوطني في التحرر ، لابد أن يتوجه بالضرورة هنا ، ويوجه الخطة الى تحرير الاقتصاد من التبعية للمصالح الاستعمارية والسوق الرأسمالية العالمية ، ومن أن يكون مرهوناً بمصالح القوى الطبقية – السياسية التي تشد الى الوراء وتشد الى التبعية، من خلال مصالحها الاستغلالية ، وأن يوجهها الى مواجهة القوى المضادة للثورة ( تحالف الاقطاع ورأس المال التابع للمصالح الأجنبية) ، ويوجهها الى التنمية ومغالبة التأخر المقيم … ومن هنا يصبح الاقتصاد المتغير قاعدة توجه سياسة النظام وتحبك عرى علاقاته الوطنية والخارجية وتدفع للتجديد في الفكر والثقافة.
ثم أن عبد الناصر – وقد أخذ بهذا التوجه – كان لا بد له أن يلمس بالضرورة أن التخطيط الهادف والبعيد المدى ، وأن وضع الخطة الاستراتيجية العامة في مجالاتها التطبيقية ، أي وضعها في خطط تفصيلية وتنفيذية ، لابد أن يواجه الواقع وما يعتلج فيه من امكانيات ومعطيات وما يقابلها من معوقات وعقبات. والخطة الاقتصادية ذاتها – وهي هادفة الى التحرر الوطني والتنمية وتعزيز امكانات الدولة وارضاء الحاجات المعاشية للجماهير، وبناء القاعدة الشعبية للنظام ، وتحقيق هدف من أهداف ثورته الوطنية في جيش قوي وتسليحه- كان لابد أن تواجه القاعدة القائمة من قبل للانتاج وقوى الانتاج وعلاقات الانتاج ، أي أن تواجه الصراع الطبقي والمصالح المتعارضة … وهكذا فإن الخطة العامة لكي تشق أمامها طريقاً ، ولكي تترجم على أرض الواقع والفعل صيغ تنفيذية ومرحلية، كان لا بد لها أن تجد نفسها مطالبة بأن لا تقف عند حدود التقدم بخطوات اصلاحية تتناول الزراعة والاصلاح الزراعي ، والتصنيع والتطوير الصناعي ، وبناء نوع من التراكم الرأسمالي في يد الدولة لتوظيفه في خطط التنمية، بل وكان لابد لها – ومنذ البداية – أن تتدخل لتحدث تغييرات في علاق! ات الانتاج وفي السلم الاجتماعي الذي يقوم عليها، ليتوجه ” النظام ” الى اعتماد القوى الشعبية المنتجة من عمال وفلاحين، والذين تلتقي مصالحهم وأهدافهم مع خط التقدم هذا ومع الهدف الوطني العريض، قاعدة له ولسياسته وتوجهاته…
ثم إن المقاومة التي واجهتها تلك الخطة مباشرة من القوى المضادة للثورة داخلياً وخارجياً ، دفاعاً عن مصالحها الطبقية وعن تسلطها واستغلالها ، أعطت لتلك الثورة الوطنية لا بعدها الوطني السياسي فحسب، بل وبعدها الاجتماعي أيضاً . ثم إن قيادة الثورة ومن خلال ذلك المنظور الاستراتيجي في التخطيط ، فضلا عما تحمله من قبل من حوافز للتغيير الثوري والتقدم ، أخذت تتمثل، شيئاً فشيئاً، أبعادها التاريخية الأوسع والأشمل ، ومن هنا وجدت نفسها تربط استراتيجياً بين الوطنية والمنظور القومي والنضال الوحدوي . وهكذا وصلت أيضاً الى الموقف القاطع ضد الامبريالية لتضع نفسها خارج النهج الرأسمالي وعلى طريق النهج الاشتراكي …
أي أن نهج عبدالناصر في التخطيط الهادف والاستراتيجي ، كان عاملاً أساسياً من العوامل التي وضعته على طريق التأثر بالفكر التاريخي ، وصولاً الى الأخذ بالمنهج الاشتراكى ، وهذا التعامل مع الفكر والتخطيط دفع به وأعطاه – كما أعطته ودفعت به أكثر- حركة الجماهير…
ولكن اذا كان النهج الاستراتيجي في التخطيط هو الذي أنضج الفكر التاريخي لعبدالناصر باتجاه الأخذ بمبادىء المنهج العام لذلك الفكر، انتقالا بمنظوره الوطني الثوري ، الى منظور ثوري سياسي واجتماعي ، قومى واشتراكي علمى ، فالذي أنضج ذلك المنظور أكثر مما فعلت الخطة والاستراتيجية والتخطيط ، كان هو حركة الجماهير ، وما أعطته حركة الجماهير بيقظتها الثورية الجديدة من دعم لعبد الناصر ، ومن دفع لثوريته بأن تتقدم ، بل وأن تتجاوز مقدماتها كلها …
والفكر التاريخي أو الفكر التاريخاني بكل ايديولوجياته ومعطياته ، اذا ساعد على التنظير الاستراتيجي البعيد وعلى وعي الواقع ووعي التأخر ، وعلى الدفع للتغيير ، فإنه لا يصنع الثورة ولا يصنع حركة التاريخ ، وانما الذي يصنع الثورة هو الذي يقاتل من أجل أهدافها .
ان الذي صنع الثورة ، والذي حوّل الفكرة الى حركة ، والوعي الى التزام ، والهدف الى عمل ونضال لتحقيق الهدف … والذي حول بالتالي ” الكم الى كيف ” ، كان أن عبد الناصر جاء وجاء به ليهز حياة الأمة وتاريخها وليحوّل أحلام الأمة الى ممارسة ، بنزوعه الثوري وتحمله لمسؤوليته التاريخية وإقدامه ، ورفدته جماهير الأمة ، وجاءت اليه من كل حدب وصوب ، وبذلك اصبحت الخطة خطة ثورية ، فتعاملها مع الجماهير وتعامل الجماهير معها هو الذي أعطاها حيويتها وروحها الدافعة .
فعند تأميم قناة السويس أحكم عبد الناصر الخطة ، ووضعها في اطار استراتيجيته العامة للتحرر الوطني وللتحرر الاقتصادي بل وخطة التنمية ، وأحكم ترتيب تلك الخطة التكتيكية والتنفيذية والادارية ، كما أدار بإحكام مناوراتها السياسية والدولية ، وبوقفة وطنية واعية وشجاعة ومسؤولة . ومع ذلك فقد كان من الممكن لتلك الخطة أن تهزم ، بل إن تلك الخطة نفسها لم تكن صائبة في تقديراتها كلها ، وخاصة فيما يتعلق بزمان العدوان ، وبحجم العدوان ، وباحتمالات قيام ذلك التحالف الثلاثي (الاسرائيلي – الفرنسي – البريطاني ) في حملة العدوان .
فلو بقيت الأمور عند الخطة والتدبير وعند القوى الادارية والعسكرية التي أعدها عبد الناصر ، بل وحتى عند القوى الصديقة والمناصرة لوقفة عبد الناصر ، لظل من الممكن أن تفشل الخطة ، بل وأن يسقط النظام ، لولا ذلك المناخ الثوري الذي تفجر مباشرة في الساحة الوطنية لمصر ، وفي الساحة القومية معها ، لولا عاملين تلاقيا معاً واتحدا هما : عزيمة عبد الناصر الثورية وتصميمه ( أي اراديته الثورية ) ، يضاف اليها بل ويتقدمها ويزيد عليها : حركة جماهير الأمة التي تلاحمت حول قيادتها في تصميم قاطع على النضال . وقصة حرب السويس معروفة ولن نقف عندها ، ولكنها كانت في تاريخ مصر وفي تاريخ الأمة ، النصر الأول لأهدافها ، ومنها بدأ تاريخ الأمة يتحرك …
قبل السويس وفي بدايات ثورة يوليو ، لم تكن هناك في واقع الأمر وفي حياة جماهير الأمة يقظة تاريخ وحركة ثورة . إن عبد الناصر نفسه يعبر في ” فلسفة الثورة ” عن خيبة ظنه بعد الحركة العسكرية في 23 يوليو وبعد اسقاط الملك واستلام الحكم ، اذ لم ير ” الزحف المقدس ” للصفوف المتراصة ” تتقدم الى ” الهدف الكبير ” للثورة . ولكن عبد الناصر واصل دأبه الثوري ، واستكشف بالممارسة والمعاناة طريق الجماهير ، واستكشف طريق تحريك تاريخ الأمة .
والجماهير عندما يأتيها من يحرك تاريخها ويعمل بوعي وتصميم لتحقيق أهدافها ، ملتزما بقضيتها ومصالحها … عندما تكون القيادة منها ، تعاني معها ، وتقاتل في صفوفها ، كما فعل عبد الناصر أيام معركة السويس ، فإن الجماهير تتحرك وتعطي ، بل وتعطي أكثر مما يكون في التقدير من قبل وفي التصور .
وذلك هو الفارق بين حرب السويس وحرب تشرين ( اكتوبر ) ، فحرب السويس ، جاءت تفجر احساس الأمة بوجودها التاريخي ، احساسها بنضالها، بارادتها ، وأن ارادتها تتحقق، وأن مصلحتها وأهدافها هي العليا… ومن هنا جاء النهوض والتقدم ، ثم جاءت الوحدة وأصبح التاريخ في حركة جماهير الأمة وأمامها .
وفي حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973، تحركت جماهير الأمة وأعطت وقدمت ولكنها ما لبثت أن انكفأت، ووجدت القيادات الممسكة بالسلطة وراءها لا أمامها ، ولتجد في النهاية وبعد تقلب الأحداث، تاريخها نفسه وراءها لا أمامها . ولتجد نفسها لا على طريق النهوض بل على طريق النكوص والردة. فالخطة التي وضعها عبدالناصر لدحر العدوان ، وإزالة آثاره ، قطعت أوصالها، وقلبت رأساً على عقب ، وفصلت فصلا تاماً عن نهجها التاريخي وفكرها وجماهيرها، بل ارتدت ضده خروجاً بمصر عن الدور الذي أراده لها عبد الناصر، بل أراده تاريخ مصر العربية ونضال شعبها عبر مراحل التاريخ ، وعبر مراحل ثورة عبد الناصر، لتصبح مصر وتصبح الأمة كلها بالنتيجة، في هذا الوضع اللامعقول والتائه عن حركة التاريخ .
4- الناصرية ومستقبليتها : الاقتناع والتجديد
هذه إطلالة عامة على التجربة الثورية لعبدالناصر في مسارها الاستراتيجي والتاريخي انطلقنا معها من بداياتها، ودخلنا في جدلية حركتها وتطورها ، وصولاً بها الى حيث توقف وغاب عبدالناصر، ومقصدنا لا مجرد انصافها فيما أعطت في مرحلتها بل أن نستخلص منها ما يساعدنا ، وما يعطينا ركائز نتوجه منها نحو المستقبل . ذلك أن قناعتنا، والتزامنا بقضية تحرر أمتنا وتقدمها ووحدتها التي هي بالأساس قضية عبدالناصر وأهداف ثورته … هذه القناعة كانت – وهي اليوم تتأكد أكثر- وهي أن مرحلة عبدالناصر كانت مرحلة نهوض ثوري بالأمة ومع وعي جماهير الأمة ، بل تكاد تكون المحور الرئيسي- إن لم يكن الوحيد- لحركة نهوض هذه الأمة في تاريخها الحديث . فهي تجربة استطاعت أن تفجر ثورية الأمة، وأن تصوغ طريقاً للوصول بها إلى أهدافها ، وأن تضعها في مسار تاريخي جديد… ومن بعدها وبالارتداد ضدها وبالخروج عن طريقها، كان التقهقر وكان هذا التشتت والضياع الذي تعيشه الأمة في مرحلتها الآنية الراهنة .
والسؤال الآن : هل استطعنا بهذا كله استجلاء معالم تلك التجربة ومعطياتها لما يفي بالغرض الذي قصدناه ، وهل وصلنا الى استخلاص كل ما نريد استخلاصه من هذه التجربة الغنية والرائدة ؟
هذا ما لسنا ندعيه في شيء ، بل وكأننا في الطريقة التي اتبعناها، لم نصل الا الى استكشاف عدد من القواعد والمنطلقات العامة ، التي وجهت استراتيجية عبد الناصر ، والى الاشارة الى جملة العوامل التي فعلت في انضاج حركة فكره وتعامله مع الفكر التاريخي والانساني العام ، أي لكأننا بقينا عند محاولة استيعاب القوانين أوالمعادلات العامة التي طبقها عبد الناصر في معالجة المسائل وفي مواجهة المشاكل التي طرحها الواقع ، وطرحتها حياة الأمة وتاريخها الراهن أمامه . وهي المسائل التي ما زالت مطروحة أمامنا ، وأمام جميع القيادات السياسية والثقافية العربية التي تتصدى للفعل في الواقع الراهن وتغييره . وما زالت تطالب الجميع بإجابات عليها وحلول لها .
بل إن تلك المسائل الاساسية التي تصدت لها الطلائع السياسية والثقافية لأمتنا ، وتصدت لها قيادة عبد الناصر ، والتي حسبنا في تلك المرحلة أننا حللناها جزئياً على الأقل أو وضعتنا اليقظة التاريخية الجديدة لأمتنا على طريق حلها … كمسألة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري ، ومسألة التجزئة ومشاكل التبعثر العربي من اقليمية وطائفية وغيرها ، بل ومسألة التحرر الوطني وتحرير الأرض العربية والخروج من مواقع النفوذ الاستعماري ومن التبعية للقوى والمصالح الامبريالية ، واختيار طريقنا في التقدم الاجتماعي والاقتصادي ، وفي بناء الاندماج الوطني والوحدة القومية العربية ، وفي بناء الدولة العصرية وصياغة حياة ديمقراطية … هذه وغيرها من المسائل التي تحمل مهمات انجازها ثورة وطنية ديمقراطية عربية وحدوية تتوجه وجهة اشتراكية وتحمل طموح تقديم تجربة حضارية ، والاسهام في حركة التقدم الانساني والتحرر العالمي .. هذه المسائل كلها تعود لتطرح علينا من جديد وبشكل أكثر حدة مما مضى .
ولقد جاء عبد الناصر ، وبنهجه وعلى طريقته ، وفي إطار ظرفه ومرحلته ، ليجيب على تلك المسائل وليسلك طريقا أو طرقاً الى حلها ، والتغلب على المعوّقات التي تعترض سبيل الوصول بالأمة إلى أهدافها .
وإن تجربة كتجربة عبد الناصر الثورية ، كان عنوانها الممارسة أولاً ، والتعلم من مواجهة نتائج تلك الممارسة فيما جاء صواباً ومجدياً أو فيما كان خطأ وتعثراً ، فيما كان تقدماً ونهوضاً وانتصاراً ، أو فيما جاء بالنتيجة فشلاً وخيبة أو انكساراً … ستطالبنا هذه التجربة – لاستكمال ابعادها – أن نسير معها في صيغها التفصيلية ، وأن نتابع الاساليب التي اتبعتها قيادة عبد الناصر في تلك المجالات كلها ، وأن نطبق عليها المبدأ ذاته التي اختطته لنفسها ، أي مبدأ مناقشتها أخطاءها واجاباتها الصحيحة . أي سيكون مطلوبا من كل من يريد استكمال أبعاد تلك التجربة ، والتعلم منها ، واستخلاص نهج مستقبلي بالاستناد الى معطياتها الايجابية ، أن يأخذ بكل خيط من خيوطها ، وبكل مهمة من المهمات التي مشت لانجازها ، وبكل هدف من الاهداف التي تطلعت لتحقيقها وتوجهت نحوها ليرى كيف كان التصور والتفكير ، وكيف كانت الصياغة والتخطيط ، وكيف كان المسار الى التحقيق وإلى أين وصل الانجاز ، وأين كان التبعثر ، وما الذي عاقها وكان من قصوراتها أو كان خارجا عن طاقتها وامكاناتها …
أي سيكون مطلوبا لذلك متابعة الثورة في مسارها الوطني في مختلف مراحله ، والصيغ النضالية والسياسية التي سارت فيها لانجاز مهمات التحرر والاستقلال ، ومهمات الاندماج الوطني وبناء الوحدة الوطنية لشعبها ، ومهمات تحرير اقتصادها ومجتمعها وفكرها ، وبناء قوتها وجيشها ، والصيغ المتعددة التي تقدمت بها في كل خطوة من خطوات ذلك التحرر، لمفهوم ” الشعب ” وقواه الاجتماعية ، ومفاهيم الحرية والديمقراطية ، والأشكال التنظيمية التي اعتمدتها… ثم كيف مضت تلك التجربة الى صياغة الدولة العصرية ومقوماتها ، وماذا حملت من بقايا الماضي وماذا جددت وأدخلت، وماهي الأفكار التي قامت عليها ، والقوى والمصالح الطبقية التي مثلتها، في كل مرحلة من مراحل تلك الثورة . واذا كان عبدالناصر قد أرادها دولة تجسد ” ديمقراطية كل الشعب “، ولا تجسد دكتاتورية فرد أو طبقة أو فئة، وأرادها منعتقة من المذهبية والطائفية ومن العصبيات الاقليمية والطائفية ، كما أراد أن يقيها من التسلط البيروقراطي وأن يبقيها منفتحة للرقابة الشعبية وفعلها في تجديدها وحمايتها من الانحراف والفساد، وأراد أن يتقدم بصياغة هذه الدولة وصياغة نظامها السياسي الاجت! ماعي وتنظيماتها، وأن يقدم في النهاية نموذجاً لأقطار الأمة يدفع تطورها ويشدها إلى الوحدة… فإلى أي حد حالفه التوفيق فيما أراد وهدف وإلى أين وصل؟
ثم كيف أثر الانفتاح بمصر على انتمائها القومى وتطلعها الوحدوي والاندماج بنضال الأمة العربية وحمل مسؤولياته مصيراً وهدفاً ، واستراتيجية حركة وعمل؟ وماذا أعطت تجربة عبدالناصر- في مراحلها المتعددة- لقضية تحرر الأمة العربية ، ولقضية وحدتها ، من دعم ومرتكز ورصيد، ومن انجاز وتحقيق؟ ومن أين كان التقدم نحو الوحدة ومن أين جاء الانفصال؟ وما الذي وقف بعد ذلك في وجه الامتداد الوحدوي؟ وما الذي أدخلت تجربة عبدالناصر من تقدم وتجديد على الفكر القومي العربي وعلى التوجه الوحدوي في هذا المنحى من استراتيجية عمله ونضاله؟
كما سيكون مطلوباً متابعة عبدالناصر في تخطيطه ونهجه الاقتصادي والاجتماعى بدءاً من تركيزه على الاصلاح الزراعى في بداية الثورة والتخطيط والتصنيع ، فالتمصير والتأميم ، وصولا الى طريق التحويل الاشتراكي للانتاج وعلاقات الانتاج ، والتطلع الى نهج خاص في تطبيق الاشتراكية العلمية في مصر وبهدف تقديمها هنا أيضاً كنموذج يدفع ببقية الأقطار العربية على هذا الطريق ، حفزاً لثورة الأمة وتعميقاً لها، وليجعل من هذا النهج الاشتراكي أساساً لا بد منه لاستكمال التحرر ومقومات ممارسة الديمقرا طية، بل وكمرتكز لازالة التناقضات والمصالح التي تعترض سبيل الوحدة ، ولتصبح الوحدة وحدة في التحرر والتقدم وتحقيقاً لمصالح الجماهير العريضة للأمة . فماذا كان الانجاز أيضاً في هذا النهج الاشتراكي؟ والى أي الأبعاد مضى؟ وماذا أحدث من تغيير في البنيان الا قتصادي والطبقى للدولة والمجتمع؟ وماذا كان له من انعكاسات ؟
وكذلك أن نتابع خط عبدالناصر في النضال ضد الاستعمار القديم منه والجديد، وموقفه القاطع ضد الامبريالية وسياساتها وقواعدها وأحلافها، وضد مواقع نفوذها وهيمنتها، وضد التبعية لسوقها الرأسمالية واحتكاراتها الدولية ، وضد الصهيونية ووجودها الاستعماري الاسرائيلي على الأرض العربية. ومتابعة نهج عبدالناصر في السياسة الدولية والدور الكبير الذي أداه في بناء حركة عدم الانحياز. ومتابعة تجربته أيضأ في بقية المجالات التي فعلت فيها، فكراً ونضالاً ، وعملأ وبناء ، أو سياسة وتنظيماً .
ولكن لو أننا استكملنا هذا كله، واستخلصنا من تلك التجربة كل معطياتها كما تحققت، هل يكون بمقدورنا بعد ذلك أن نقول : هذه هي ” الناصرية ” وهذا فكرها وهذه اهدافها ، وتلك كانت وستظل استراتيجية العمل والنضال لتحقيق ثورة الأمة وأهدافها في الحرية والاشتراكية والوحدة ؟ إنها كذلك ، أو هذه هي الناصرية ، اذا لم نرد أن نعطي لكلمة ” الناصرية ” مايعطي لمثل هذا التعبير عن الأخذ بمنظور ايديولوجي كامل ، ووقفنا بها عند حدود تجربة عبد الناصر وما قدمت لحركة الثورة العربية من رصيد ومعطيات ، وما أنجزت وحققت في مرحلتها من مهمات ، ووقفنا بها عند مجمل فكر عبد الناصر بممارسته في حياته السياسية والنضالية . ولكننا اذا ما وقفنا بمعطيات تلك التجربة عند هذا الحد ، وقلنا انها كانت تجربة كافية ووافية ، وحاولنا أن نستخلص منها اجابات قاطعة أو نهائية على كل المسائل والقضايا ، نكون قد مذهبنا فكر عبد الناصر وثوريته ، وهذا ما لم يرده عبد الناصر وكان ضده ، وضد مذهبية السياسة والدولة ، وضد اخضاع حركة الثورة للمعتقدات القاطعة والنظريات الشمولية . ثم نكون قد اغفلنا ” الناصرية ” كحافز ثوري وانغلقنا عليها ، وجمدنا نزعتها! الجدلية والمستقبلية في التجدد والاستمرار ونكون قد وضعنا ثورتنا العربية في الماضي ، ليصبح الأخذ بها على هذه الصورة ضربا من الرجعة ، أو نمطا من الاتباعية ، ونكون قد سلبنا من فكر عبد الناصر بالتالي ما حملته تجربة عبد الناصر الثورية من حوافز تجديد وابتكار في الفكر والممارسة ، ومن حافز ابداعي .
ولكن الذي نريد الأخذ به من ” الناصرية ” ، ولتصبح نهجا لتجديد مسار الثورة العربية ، هو هذا الحافز للتقدم والتجاوز والابتكار ، وما تقدمه لهذا التقدم من ركائز ومعطيات … نريد منها مستقبليتها وما تقدمه من منظور استراتيجي لمواجهة هذا الحاضر الذي يثقل كثيرا بما يحمله من تشتت وتراجع وضياع ، فلا نقف عند الالتفاف من حوله بتكتيكات قاصرة ومقولات وشعارات فقدت الفعل في حياة الجماهير وفقدت حس التاريخ ونبض الحياة . فالوفاء لتجربة عبد الناصر وفكره يبقى في اطار الوفاء لقضية الثورة العربية التي كانت قضيته ، وإنصاف عبد الناصر لا بد أن يبقى في خدمة ما أراده عبد الناصر من التقدم بقضية الأمة . ومن هنا فإن الوقوف عند ما أعطى عبد الناصر لم يعد كافياً ، هذا إذا ما أردنا من الناصرية والالتزام بها : نهجاً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً يسهم في تقديم صياغة جديدة لحركة الثورة العربية ولاستراتيجية حركتها باتجاه أهدافها وانجاز مهماتها .
ومن هنا يصبح مطلوباً منا ونحن نستخلص معطيات تلك التجربة في مرحلتها ، أن نمد بها إلى الأمام ، وأن نأخذ بجدلية حركتها في عبور المراحل وتجاوزها ، وأن نطبق عليها معاييرها أيضاً في النقد وفي تقييم الخطأ والصواب فيما أعطته وتقدمت به .
وعدا هذا فإن كثيراً من الأمور قد تغيرت بعد عبد الناصر ، في مصر وفي الوطن العربي كله ، بل وفي العالم أيضاً ، مما يقتضي مراجعة نقدية لكل مسار حركة التقدم العربي . فلا يجوز أيضاً أن نغفل عدداً من العوامل والمقدمات التي كانت لمرحلة عبد الناصر ، ولم تعد متوفرة الآن ولا بد من بدائل لها . فتجربة عبد الناصر السياسية والفكرية ، وحركة تقدمها ونضجها كانت التعلم من الممارسة وهو في قمة المسؤولية والحكم ، فضلا عما إذا كان لشخصيته التاريخية ولشعبيته من دور فعال ومؤثر . ولقد كانت بين يدي قيادته الدولة وقواها المادية والسلطوية وامكاناتها ، وكان اعتماده على سلطة الدولة رئيسياً في إدارة تلك التجربة ، وكذلك كانت تحت قيادته قوة الجيش ، وكانت من حوله حركة الجماهير في توقد ثوري وفي صعود…
فالتجربة الناصرية في إنجاز مهمات الثورة العربية في التحرر والتقدم والوحدة قد مشت في سياق، وهذا السياق قد انقطع ، فاليوم لا عبدالناصر موجود ولا قيادته ولا ابداعه وا بتكاره ، والدولة وأدواتها وامكاناتها ليست موظفة لمساندة حركة التقدم والثورة ، بل ضدها، وليست مجال تطبيقها وتأثيرها ، بل هى نقيضها. وأجهزة السلطة وأدواتها وقواها موضوعة في الاتجاه المضاد لحركة الجماهير وتعمل على قمعها وحماية تحرك النظام في الاتجاه المعاكس لثورة الأمة وأهدافها . ثم إن حركة الجماهير بعد هذا كله في انحسار، أو هي تتحرك بعفويتها الصرفة وتتفجر بين حين وآخر تعبيراً عن نقمتها.
ومن هنا يصبح من الضروري لتجديد مسار الثورة ، قلب معادلة تلك التجربة الثورية التي بدأت من فوق ومن الامساك بزمام السلطة والدولة بداية ، لتتحرك من القاعدة ولتبدأ نموها في أحضان حركة الجماهير، وهي تعرف سلفاً أن القوى السلبية والمعاكسة لحركة الثورة هى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة، وهي التي تفرض نفسها عليها من فوق كصانعة للمرحلة ولتاريخ هذه المرحلة ، وفعلها هذا انما هو جهد جديد يضاف للتأخر القديم لتجميد حركة هذا التاريخ وقسره.
وهذا القلب في معادلة تلك الثورة ، أي انزالها من قمة السلطة الى ساحة النضال الشعبي أولاً ، يدخل عنصراً جديداً على المعطيات التي قدمتها تجربة عبدالناصر، فما كان مؤجلاً عند عبدالناصر، أو متروكاً ليأخذ مقوماته وأبعاده بالتدرج وبتراكم الخبرات والضمانات ، كمسألة ” الحزب الثوري ” وتحويل تحالف قوى الشعب العامل إلى ” كتلة شعبية تاريخية ، متحركة وفاعلة ، ومسألة صياغة أداة الثورة على المستوى القومي ، أي ما أطلقه عبدالناصر تحت شعار ” الحركة العربية الواحدة ” أو الجبهة الموحدة لقوى الثورة العربية ، ومسائل التنظيم والتنظير الأيديولوجي، تصبح من المسائل المطلوبة أساساً وفي المقدمة . ومن هنا وفي هذا السبيل أيضاً تأتي مسألة الديمقراطية لتحتل مقام الصدارة بين المسائل التي لا بد من الاجابة عليها والأخذ بمقدماتها في أية صياغة جديدة لحركة النهوض العربي، ولتصبح المقدمة التي لا بد منها لأي نهوض يقوى ويمضى على طريق التقدم والثورة. ذلك أن وعد ” الديمقراطية السليمة ” هو الوعد الذي لم يتحقق في التجربة الناصرية، وليس هذا فحسب ، بل إن أوجه قصورها، وما تؤدي إليه من ضعف في البنيان السياسي التنظيمي وفي ال! بنيان الثقافي، كانت وما زالت هي الثغرات التي تنفذ منها أكثر العوامل والقوى السلبية المضادة للثورة .
وهذا ما يطالب ببدائل عديدة للأطر التي كان يبني عليها ، ويتوجه اليها، فكر عبدالناصر. وأولها البديل لقيادة عبدالناصر، والبديل هنا لم يعد من الممكن أن يأتي عن طريق رجل تاريخي فرد، أو زعيم سياسى مهما بلغت قدرته وشعبيته، بل البديل هو حركة ثورية جديدة وقيادة ثقافية وسياسية جماعية، قادرة على الوعي وعلى الاحاطة لا بتجربة النهوض في مرحلة عبدالناصر، فحسب، بل وبكل ما جاء بعده وكل ما تغير من بعده.
والبديل لسلطة النظام لا يمكن أن ينهض اليوم الا كإرادة شعبية منظمة وسلطة شعبية. والمقولة التي قدمها عبدالناصر لصياغة هذه السلطة والارادة وهى مقولة ” التحالف ” التي أقام عليها بناء ” الاتحاد الاشتراكي ” بقاعدته العريضة ” وتنظيمه السياسي ” اذا ما صلحت كفكرة عامة توجه العمل الوطني فإن تطبيقها من جديد لا بد أن يطالب بصياغة مختلفة لذلك التحالف الطبقي ، ولطليعته أو طلائعه المنظمة أيضاً ، ونهجها واستراتيجية نضالها ، ولتلك القاعدة الوطنية والديمقراطية للثورة والتغيير الثوري ، بحيث تقوى على التصدي لحلف القوى المضادة ، وعلى استبعاد ” دموية الصراع الطبقي ” واحتمالات تحوله الى حروب أهلية وطائفية في آن واحد . وهذه بذاتها معادلة صعبة .
وفي مواجهة هذا كله ، ومواجهة تعثر المرحلة ، إذا كان من الجائز بل ومن الضروري الاسترشاد بالنهج الذي سار فيه عبد الناصر في مبادئه الاساسية وفي أهدافه الثورية وفي جدلية حركة تطوره ، وسمينا ذلك التزاما بمنظور ونهج ” ناصري” فإن الوقوف عند هذا الحد ليس كافيا ، ولا يتفق مع جدلية النهج التاريخي وحركة تقدم الثورة واستمراريتها .
فليس كافيا الوقوف عند ما قال عبد الناصر وما أنجز ، وليس المطلوب اتباعه في كل صيغ ممارساته … ثم هناك ما قاله عبد الناصر وطالب به ولم يصل الى تحقيقه ، ثم هناك ما لم يقله وما لم يجب عليه من مسائل ، وتتطلب حركة التقدم العربي الاجابة عليها اليوم .
بل وبالنسبة للعديد من هذه المسائل كمسألة الديمقراطية ومسألة الحزب الثوري ، والنظرية أو الايديولوجية التي توجه مسار الثورة … يمكن الاسترشاد بنهج عبد الناصر فيما رفض من صيغ وجدها غير ملائمة وفيما وجده متخلفا وقاصرا ومربكا لحركة الثورة ومشتتا لقواها ، أكثر من الاسترشاد بما حقق في هذه المجالات وانجز .
لقد رفض عبد الناصر القوالب التقليدية للعمل السياسي العربي والتنظيم الحزبي والشعبي ، ورفض دكتاتورية الطبقة في الحكم ، ورفض حزب الفئة الاجتماعية الواحدة ، ورفض اخضاع النضال السياسي للمذاهب النظرية الشمولية والجاهزة ، ورفض مذهبية الدولة ، ورفض الاتباعية والتقليد .
ولكن البدائل التي قدمها لسد هذه الفراغات ، ظلت مرحلية أو ناقصة وظل حضوره هو الذي يغطي نقائصها . ولقد كان واعيا لجوانب كثيرة من هذه النقائص ، وهو الذي وقف ينادي في اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي : ” إننا نبني الاشتراكية بدون اشتراكيين ، والاتحاد الاشتراكي تعشش في داخله قوى للثورة المضادة ، وقوى الثورة المضادة منظمة ، أما القوى التقدمية والاشتراكية فغير منظمة ، بل هي شبه غائبة او متنحية ولم نكشف مواقعها ، ولم نشدها الينا وننظمها ولم نعدّها لقيادة الثورة والدفع باستمراريتها ” .
وعبد الناصر هوالذي طالب ” بحزب اشتراكي ” من طراز جديد ، ونادى بالطهارة الثورية للقيادة ، وبجماعيتها في تحمل المسؤولية واتخاذ القرار . وقال بخطورة الاعتماد على قيادة الفرد وطالب باسقاط ” دولة المخابرات ” والاجهزة ، وطالب بالعمل لوحدة فكر الثورة وتوحيد قواها وأداتها … ولكن ذلك كله ظل عند حدود المطالبة للنفس وللآخرين ، وتوجها نحو المستقبل . ثم إن ثورة عبد الناصر كما قلنا كانت وهو في الحكم ، والثورة اليوم إذ تنزل الى القاعدة الشعبية تجد أمامها تمهيدات لها من عبد الناصر ، ومن مرحلة عبد الناصر . تجد أمامها امتدادا افقيا في صياغة الوحدة الوطنية مثلا ، وفي تفتيح وعي حركة الجماهير على مصالحها وأهدافها وقدراتها وفي تحريض نضاليتها ، والمطلوب اليوم اعطاؤها بعدها في العمق ، تثقيفاً وتنظيماً .
وهذا الترسيخ للثورة في العمق بحاجة للفكر المتقدم الذي يوحد تيارات الثورة ويضعها أمام نهج استراتيجي جديد في انجاز مهمات الثورة والتوجه نحو أهدا فها ، بدءاً من ترسيخ قواعدها الديمقراطية في ادارة العلاقات بين قوى التقدم ، وفي بناء اللحمة الوطنية والتبلور الاجتماعي والطبقي وتعبيراتهما، وفي الدفع بحركة التغيير. وهذا التوجه بحاجة للطليعة التي تحمل فكره وتقود النضال على طريقه وتبتكر الصيغ المناسبة في التنظيم وفي بناء العلاقات بين القوى ، واضعة أمامها – لا وراءها – مقولة عبدالناصر عن الحاجة الى وحدة الفكر ووحدة الأداة . والمبدأ الديمقراطى من جهة ، والمنظور الجدلي والتاريخي ، من جهة أخرى ، لا يجعلان منها وحدة قسرية ، بل وحدة في إطار التنوع والتحاور والتنافس، وينزعان عنها الاقتتال والتصادم والصيغ الانقلابية والقسرية في الصراع على السلطة .
ولكن هذا التوجه الذي يطالب بتحديد ووضوح أكثر بكثير… إنما يطالب أول ما يطالب بالخروج عن الصيغ التقليدية والاتباعية التي انتهجتها وما زالت تنتهجها القوى والتنظيمات التي ترفع الشعارات والأهداف التي رفعتها ثورة عبدالناصر، ولو أنها ما زالت الشعارات الأكثر رسوخاً في حياة جماهير الأمة والأكثر تعبيراً عن مصالحها وهى وحدها التي تشكل وحدة في تطلعاتها . ذلك أن تلك الصيغ التقليدية لم تستطع الحفاظ على مسار التقدم ، في فكرها أو في نضالها، وهي لم تستطع أن تقدم شيئاً كبيراً في مواجهة السقوط الذي جاء بعد عبدالناصر، وهي ما زالت في تعثر وتشتت.
إن تجديد فكر الثورة ونهجها الاستراتيجى وصياغة قواها ومراحلها ومضامين أهدافها ، يبدأ عندما تصل الطلائع السياسية والثقافية لحركة التقدم الى مثل هذا الوعي النقدي لواقعها وضرورة تجاوزه، والى مثل هذا التصميم، أي الى وعي الفشل الذي منيت به ، من خلال الأشكال التي قامت وتقوم عليها في التخطيط والعمل والتنظيم ، وفي التعامل مع حركة الواقع المتغير والتعامل فيما بينها… إن مثل هذا الوعي، أو إن هذه المواجهة الواعية لفشلها السياسي، هو الذي يضعها في مواجهة الواقع باستيعاب جديد، وهو الذي يضعها في التعامل مع حركة التاريخ والفكر التاريخي بجدليته وتطلعاته المستقبلية، مثلما وضع عبدالناصر وصنع تقدميته وتقدمه. وهذا ما يطالبها بتجاوز نفسها وبأن تضع حركتها في مسار غير المسار الراهن الذي تتمسك به ، بعد أن ثبت عجزه في ساحة الممارسة والجدوى .
وهذا كله يطالب اليوم بثورة ثقافية، ومثل هذه الثورة كان قد ألمح إليها عبدالناصر وطالب بها في عدد من المواقف والمناسبات ، وطالب بها لتكملة ثورته الوطنية كثورة سياسية واجتماعية وعربية وحدوية، ولتعزيز لحمتها الأيديولوجية، ورسم تفاصيلها في صياغة المجتمع الجديد بكل تعابيره الثقافية والحضارية. ولكنه تطلع الى الثورة الثقافية ” كتكملة ” وطالب أن تشمل جوانب الحياة الاقتصادية والاعلامية والتعليمية والأدبية والفنية… لتأخذ الثورة هويتها المتكاملة. وفي واقع الأمر، إن عبدالناصر في النصف الثاني من مرحلته، أعطى تمهيدات لها وفتح الأبواب أمامها ، ولكنها ظلت فتحات ضيقة ومحاصرة بالمجتمع التقليدي من جهة وبالتكوينات البيروقراطية من جهة ثانية. ومع ذلك فقد أعطت… إنها أعطت في ” المعاهد الاشتراكية ” ، وأعطت في الاعلام ، وفي التعليم ومناهج التعليم المتجددة، وفي الاصلاح الديني … وأعطت في الأدب المسرحى وفي الفنون وفي مجالات أخرى عديدة … ولكنها كانت تطلعات وتمهيدات عادت وعصفت بها رياح الردة .
والمطلوب اليوم لا أن تأتي الثورة الثقافية خاتمة وتكملة، بل أن تأتي بداية ومنطلقاً. والثورة الثقافية تبدأ مع فتح أبواب النقد على مصاريعها في كل المجالات . ولذا فان عنوانها الرئيسي اليوم هو الديمقراطية والنضال في سبيل الحريات الديمقراطية السياسية والفكرية ، فبغير الديمقراطية لا يمكن توفير المناخ اللازم لهذه الثورة ، الا اذا تحريناها في الهجرة خارج الوطن وخارج الحدود ، كما هو حاصل ويحصل اليوم بالنسبة للكثيرين . واذا كان التعبير الديمقراطي للثورة الثقافية يعني أول ما يعني حرية الرأي والمعتقد والتنظيم السياسي، ويعني الحوار بين الأفكار والمنظورات الأيديولوجية بحثاً عن هوية وعن وحدة… فإنها تعني في الوقت ذاته صراعاً عريضاً أيضاً ، والمحور الرئيسي له ، الصراع بين التقليد والتجديد، وبين الاتباع والابداع ، بين المحافظة على الأطر القائمة للتفكير والعمل ، وبين اختراقها وتجاوزها تفتيشاً عن حلول جديدة للمسائل ، وعن أطر جديدة للعمل .
إن دعاة الاتباع ، وفي أطر المجموعات السياسية والفكرية التى تقول بالثورية والثورة ذاتها ، لا تقدم شيئاً للخروج من التعثر الراهن بل تزيده . والاتباعية هنا لا تزيد عن أن تعود إلى الجمود في الفكر والتشتت في العمل والبعد عن الهدف لتقلب معادلة الثورة رأساً على عقب وتتطلع بها الى الوراء لا الى المستقبل . وهذا ما وقف فكر عبدالناصر ضده وأراد التغلب عليه ، ولذا فإن الاتباعية في ” الناصرية ” ( كما في غيرها من المنظورات الأيديولوجية) ومحاولة تطبيق ما كان في مرحلة على مرحلة أخرى مختلفة عنها، يجعل منها معوقاً لا حافر تقدم . والدليل أمامنا فيما يجري من ارتداد الى المواقع والأطر السالفة في العمل السياسي من غير نزوع للتغيير والابتكار، لا لتصبح تلك الأطر قاصرة وعاجزة فحسب، بل وكذلك محاولاتها في صياغة التحالفات والتكتلات و ” الجبهات ” الوطنية والقومية، والاتباعية في الفكر تصبح بالضرورة هنا اتباعية في السياسة ، بل هي بالأصل اتباعية في السياسة ( بل وكثيراً ما تكون انتهازية) تسخر الفكر للمصالح الفئوية والزعامات الفردية . فهذه الائباعية تلغي المبادرة وتحارب الابتكار والابداع وتعطل بالتالي حركة الت! غيير، وتصب بالنتيجة في وا قع الضياع وإستمرارية الأوضاع الراهنة، وتعوق بوجودها الثقيل في الساحة ، وبمن تشدهم إليها بشكل أو بآخر، تجديد حركة الثورة وتجديد قواها وأداتها .
وما دمنا ندور في إطار فكر عبدالناصر، وما يقدم من حوافز، فإن تلك النزعة الاتباعية، التي تأخذ بها أو تقوم عليها بعض المجموعات التي تحمل اسم “الناصرية” ، تظل بعيدة عن حركة التجديد والتعلم من التجربة في فكر عبدالناصر، وهي تؤذي المشروع الثوري الذي سار فيه عبدالناصر، من ناحيتين رئيسيتين :
1- تجميد الجدلية التاريخية في ثورة عبدالناصر من حيث أن النهج الناصري كان حركة نضج و تقدم، وهو في الفكر تأليف وتركيب ومحاولة ابتكار وابداع لا عملية أخذ وانتقاء وتجميع واتباع . وهو في السياسة عملية توحيد للقوى وتعبئة لحركة الجماهير وتحديد للأولويات التي توحد الموقف الوطني على طريق الهدف الاستراتيجى ( وفكره لم يكن موجهاً لفئة سياسية محددة ، بل كان موجهاً لكل القوى الوطنية والتقدمية في الوطن العربي) . وهكذا فان الاتباعية هنا تقلص مشروع عبدالناصر الثوري وتضيق آفاقه، وتبقى بالضرورة في مواقع متأخرة عن حركة عبدالناصر وفكره ، وهي تغلق هذا الفكر عن التفتح وعن استيعاب التغيرات وعن التجدد . كما أنها تجمد معها المجموعات التي تمسك بها حركة الجماهير وهذا ما يعطي بالتالي رصيداً ، لا للثورة وتجاوز أزمتها الراهنة وانقسامات قواها ، بل رصيداً للقوى التقليدية والرجعية في السياسة ، وللقوى المحافظة والسلفية في المجتمع ، تلك القوى التي تتحرك في الساحة من جديد وتمتد على حساب أوجه قصور قوى الثورة والتقدم .
2- إبقاء الثغرات التي كان يسدها عبدالناصر بحضوره على رأس حركة الثورة … إبقاء هذه الثغرات مفتوحة. فعبدالناصر بحضوره القوي والمتحرك كان يسد فراغ التنظير الفكري والاستراتيجي لخطوات الثورة ومراحلها ، وكان يسد فراغ ” التنظيم السياسي ” أو الحزب الثوري الذي يتقدم أمام حركة الجماهير وكان يسد، الى حد ما، فراغ الديمقراطية ورقابة الشعب على القيادات وعلى الحكم… ثم إن عبدالناصر بحضوره كان تعبيراً عن وحدة الأمة وكان ممسكاً بمصر كلها وبتقدمها وبقوة شعب مصر وتماسكه الوطني ، ومن هذا الموقع كان سنداً لكل قوى النضال والتقدم في الوطن العربي وكانت مساندته ايجابية ومؤثرة وفاعلة.
ومن هنا فان مثل هذه الاتباعية تظل تدور في إطار مغلق لا خروج منه، وهي بالتالي لا تقدم شيئاً لتغيير هذا الواقع المتعثر. وهذا ما ينطبق لا على من يأخذون ذلك المنحى الاتباعى والجامد من الناصرية وفكر عبدالناصر فحسب ، بل ينطبق أيضاً ، وعلى نطاق أوسع وأشمل ، على كل التيارات السياسية على اختلاف مناهلها الأيديولوجية، حين تأخذ بهذا المنحى السكوتي والاتباعي ، أياً كان ما تحمل من شعارات الثورة والتغيير.
وبين هذه الاتباعية من جهة- التي تقلص مشروع عبدالناصر في الثورة ، وتقلص بالتالي مشروع الثورة العربية عموماً وتحبسه في اطرها القاصرة ، لتتقلص هي بالتالي وتتشرذم ، ولتصبح هامشية أو تابعة- وبين هذه العودة للسلفي والرجعي التي تستشري وتمتد من جهة ثانية وفوق هذا كله، ونتيجة لهذا كله- تصعد قوى الثورة المضادة وتبسط هيمنتها في مواقع عديدة على مراكز السلطة ومراكز النشر والتعليم والاعلام والهيمنة الثقافية والاقتصادية (هذا اذا ما تركنا جانباً زمر الأقلام الانتهازية التي تتلون بتلون النظم والطبقات البيروقراطية والطفيلية المتسلطة والمتنامية ، وتبقى ساحة العمل الثوري، وتجديد نهوض الأمة ونضالية جماهيرها ، خالية إلا من محاولات تشق طريقها في كثير من التعثر والعناء وتدفع ثمناً باهظاً لكل حركة من تحركاتها ، من حريتها وكرامتها وحياتها . والنداء الذي تجده أمامها ويلح عليها هو نداء عبدالناصر : أيها الوطنيون العرب وحدوا أفكاركم ومضامين أهدافكم في توجه مستقبلي، ومن غير ضياع في المسالك الفرعية ، ووحدوا منهاج عملكم واستراتيجية نضالكم دفعأ الى طريق وحدة الثورة العربية وتوحيد أداتها…
ولكن في مقابل ذلك فان المسائل المطروحة اليوم على فكر الثورة وحركة الثورة ، والمشكلات التي تواجهها، لم تعد بتلك البساطة والتحديد الأولي الذي بدأت فيه الثورة الوطنية لينتقل بها عبدالناصر في مراحل وأطوار على طريق الثورة الكاملة.
فالثورة الوطنية تعرف اليوم، ويعرف أعداؤها أيضاً ، جميع أبعادها، وأنها ثورة سياسية واجتماعية متكاملة، وأنها ثورة للوحدة العربية وتطالب أيضاً بثورة ثقافية لتعزيز لحمة هذه الثورة السياسية- الاجتماعية- الوحدوية .
فاليوم وقد وجدت قوى الثورة المضادة فرصتها في الانقضاض ، وفي السيطرة على العديد من مراكز السلطة والحكم والهيمنة ، كما تحركت كل القوى المعادية للأمة العربية ولوحدتها ، لقطع طريق الثورة ومحاربة فكرها وتشتيت قواها … فإن معادلة الثورة الوطنية الديمقراطية لا تعود ثورة سياسية أولاً فثورة اجتماعية فوحدة عربية ثم تأتي الثورة الثقافية وتأتي ” الديمقراطية السليمة ” … بل تصبح المعادلة : ثورة ثقافية وديمقراطية أولاً ، تواكب مسار العمل السياسي ومسار النضال ، وتصوغ وحدة توجهاته الفكرية ووحدة استراتيجيته ووحدة قواه ، وتربط أواصر الثورة منذ البداية في جدلية حركتها التاريخية وتداخل مراحلها وأهدا فها .
والمعادلة التي سارت بها ثورة عبد الناصر في أدوار نضجها المتلاحقة، وفي تقسيمها الأهداف والمهمات إلى مراحل ، وفي صياغة القاعدة الشعبية التي تستند إليها ومفهوم الشعب ، في كل دور ومرحلة، وصياغة تحالفاتها الطبقية أو صراعاتها، لا بد أن يؤخذ بها في طورها المتقدم أي في صيغتها الكاملة .
وقوى الثورة إذ تحدد طريقها، وتحدد أعداءها فإن صياغة قاعدتها الشعبية والاجتماعية، وتحالفاتها الطبقية والسياسية، الاستراتيجية منها والمرحلية ، تصبح واضحة لها منذ البداية . ولكنها وفي هذا الاتجاه المستقبلي أيضاً ، تجد في فكر عبدالناصر وتجاربه مقدمات لها .
فتحالف ” قوى الشعب العامل ” تلك المقولة الناصرية لبناء القاعدة الشعبية للثورة وتنظيمها وبلورة مقوماتها الطبقية والاجتماعية ، يمكن أن تتجدد في صيغة ” الكتلة التاريخية “، كتحالف للعمال والطلاب والفلاحين والمثقفين الديمقراطيين ، تزرع قوى الثورة أدواتها في قلبها، كطلائع لها تصوغ تنظيمها وتلاحمها النضالي…
أما مسألة الطليعة المنظمة التي تدير حركة الثورة وتقود النضال فإنها المسألة التي ظلت شعاراً ومجرد عنوان، ولم تعط في تجربة عبدالناصر في النهاية إلا ثمرة صغيرة لم تقو على الثبات والاستمرار من بعده . فتجربة عبد الناصر من هذه الناحية ظلت تتردد في البداية بين الحزب واللاحزب ، وبين الحزب الواحد وتعدد الأحزاب ، وكان نقدها لما هو قاصر وعاجز ولما هو غير ملائم ، أكثر من تحليلها لما يجب أن يكون ، إلا في أحاديث قليلة ، ظلت في أطر القيادات المحيطة به ، ولم تعلن على الملأ. وهو قد نص في الميثاق على ضرورة خلق ” جهاز سياسي ” داخل الاتحاد الاشتراكي ، وسماه أيضأ ” حزباً اشتراكياً ” و ” تنظيماً طليعياً ” ، كما نادى بعد الانفصال بضرورة قيام ” حركة عربية واحدة ” على المستوى القومي ، ولكنها كلها تظل مسائل مطروحة وليس أمامها في تلك التجربة من حل واضح، كما أن الإجابات عليها من القوى والتنظيمات السياسية القائمة، والقائلة بالثورة وأهدافها الواحدة، ما زالت مختلفة وقاصرة .
ولكن من منطق الأمور، ونحن نتوجه إلى ضرورة الأخذ بالمنطلق الديمقراطي منذ البداية ، وبعد كل ما عانته حركة التقدم من الصيغ الاستبدادية وصيغ الهيمنة المطلقة في السلطة والحكم ، والتي أدت بها إلى هذا الوضع البائس ، الأخذ بمبدأ التعدد وحرية التنظيم السياسي والحزبي ، بل وبالنسبة للقوى والتيارات التي تأخذ بمبادىء الثورة الواحدة ، فإن صيغة الحزب الطليعى الواحد بالمفهوم اللينيني ، لا تطابق واقع توزيع القوى وواقع التوزيع الطبقي والأيديولوجى لحركات النضال العربي . فمبدأ التنوع وتعدد التيارات في إطار نوع من التلاحم الجبهوي الاستراتيجى يبقى إلى الآن المبدأ الأكثر ملاءمة. ولو أن هذه المقولة أيضاً – مقولة الجبهات الوطنية والقومية- أمامها صيغ متباينة ، وأكثر ما قام باسمها لم يقدم ما يسد هذا الفراغ ، وأكثرها محكوم بواقع النظم والعلاقات السلطوية، وهذا ما يطالب أيضاً بصيغ مبتكرة و جديدة .
وإذا وقفنا في النهاية عند المنطلقات الأيديولوجية والنظرية، التي توجه قوى النضال الوطني وأحزابها وفكرها السياسي والاجتماعى وإذا ما بقينا اليوم أيضاً أمام واقع التعدد والتنوع في إطار الأهداف النضالية والاستراتيجية الواحدة فإن النهج الذي سار فيه عبد الناصر بهذا الصدد يعطينا تجربة ثمينة في منحاها العام .
فعبد الناصر في توجهه الفكري وجد نفسه أمام ثلاثة تيارات أيديولوجية وطنية لها فعلها وتعبيراتها لدى القوى السياسية والثقافية وفي حياة الفئات الاجتماعية والشعبية ، كما كان لها أثرها في ثقافته وتوجهاته وهي : التيار الوطني الديني، والتيار الوطني القومي العربي الوحدوي ، والتيار الماركسي .
وهو إذا ما تقارب في عدد من مراحل تجربته أو تصادم مع قوى وتنظيمات سياسية تحمل هذه الأيديولوجيات متفرقة، وهو إذا ما ندد بمواقفها وقصوراتها وعصبياتها ، وما حملته الواحدة أو الأخرى من سلفية وأسطورية ، أو من تبعية واتباعية أو من قصور، فإنه قد فعل جاهداً للتأثير في هذه التيارات ليضعها في سياق الوطنية والتقدم والثورة ، وفي تذليل أسباب التصادم والتناقض الكلي فيما بينها ، لما له من انعكاسات على الوحدة الوطنية للقاعدة الشعبية للثورة . لقد كان لكل واحدة منها تعبيراتها في حياة قطاعات من جماهير الشعب وفي ثقافتها وفي توجيه مواقفها السياسية . ولقد حاول أن يستخلص من المعطيات الإيجابية لكل منها ما يفيد في صياغة المنظور الأيديولوجي لحركة فكره وحركة الثورة. وأخذه هذا واستخلاصه لم يكن انتقاء وتجميعاً لما يرضي الحاجة والدعاية ، بل تركها تأخذ صياغتها الجدلية في حركة فكره ووعيه واستيعابه ، لتأخذ صيغة إبداعية من التأليف والتركيب ، ليصبح فكره هو هذه الايديولوجيا كلها ، ولكن ليس أية واحدة منها على حدة .
ومثل هذا التأليف الجدلي الذي نتلمس معالمه في فكر عبد الناصر ، إنما نستطيع أن نتبينه من خلال تعابيره العامة، ومن خلال ممارساته، فهذا التاليف ظل عملية وعي ذاتي ، فهو لم يشرحه ولم يفصله، ولم يقدم لنا الطريقة التي استخلص بها من خلال التحليل والنقد، ثم من خلال التركيب والصياغة، وصولاً إلى المحصلة والتجاوز، أي إلى أن يصنع هو نفسه نهجه الأيديولوجى المنسجم . ولكن هذا كله أعطى دلالاته في خطب عبد الناصر وكلامه وفي نهجه وصياغة ” ميثاقه ” وبرامجه ونظامه. ولقد جهد لوضع هذه المحصلة في حياة الناس وقناعاتهم أفكاراً ومقولات عامة ، وضعها في خدمة المشروع الثوري ولتوجه عمله. ولكن عبد الناصر لم يفرض هذا التأليف على الآخرين بل دل على مثل هذه الامكانية .
فهو قد أخذ من التيار الوطني الديني جانب الإيمان وما يعطيه من متانة خلقية وحوافز نضالية ، من خلال التطلع للحق والعدل والمساواة بين بني البشر، ثم بما للدين من رصيد راسخ في وجدان جماهيرالشعب وثقافتها وحياتها ، وقال ” بجوهر الدين ” كحافز تغيير وثورة ضد الظلم وضد الفساد، وطالب بأن ينزع عن الدين ما لحق به من أسطورية وخرافة وجمود ، وما سخر له من قبل قوى الاستغلال والاستبداد، وأراد له إسهامه الثقافي والأخلاقي والروحي وأن يوضع في سياق تاريخي يتطلع للتجدد والإصلاح، وقال بحرية المعتقد وبرفض مذهبة الدولة ورفض الطائفية السياسية والتعصب .
وأخذ من التيار القومى الضرورة التاريخية في بناء وحدة الأمة، وأخذ به في مفهوم علماني لبناء الدولة الوطنية والقومية العصرية، والقائم على اندماج جميع فئات الأمة في إطار الوطن الواحد واللغة الواحدة والتاريخ المشترك وإرادة التحرر والتقدم والحياة المشتركة . وأخذ به كنهج استراتيجي لبناء نهوض الأمة وقوتها ووحدتها وتقدمها وبناء نضالها المشترك في وجه أعدائها وأعداء تحررها ووحدتها وتقدمها، ووضع هذا التيار في توجه مستقبلي وأخرجه عن السلفية والتوجه للماضي، وحرره من العصبيات الإقليمية والعنصرية والطائفية ، ومن النزعات والتطلعات الأمبراطورية .
وأخذ من التيار الماركسي نهجه النقدي وجدليته التاريخية، وأخذ بالمنهج الاشتراكى العلمى وطالبه بالخروج من علاقات التبعية، وأن ينطلق في الولاء أولاً للوطن والأمة ، ففي إطارهما تجري الصراعات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية ، ومن خلالهما يأتي التطلع إلى صياغة العلاقات والروابط العالمية والفلسفات الكونية .
وهذا ما يمكن تأكيده من خلال استعراض كلمات عبدالناصر ، ومن خلال استطلاع محصلته في مقولات ” ميثاقه الوطني ” وشروحاته، وكان الحري بنا أن لا نقول أخذ عبدالناصر من هذا التيار أو ذلك ، يل أن نقول إنه يلتقى مع هذا التيار من حيث وضعه في هذا المنحى … فعبدالناصر كما ذكرنا وكررنا، لم يكن في حركة نضجه الفكري والاستراتيجى انتقائياً يجمع ما يناسب حاجته من هنا وهناك ومن هذا وذاك ، ولم يكن اتباعياً ، بل كان جدلياً ، وعملية النقد والتأليف الجدلي هي التي تصنع من هذا كله منحى فكرياً متكاملاً يوجه مساره الثوري .
فالنظام ، أو الدولة التي أقامها عبد الناصر، أرادها نموذجاً للدولة القومية العصرية، تمثل إرادة كل فئات الشعب وطوائفه، وتساوي بين كل المواطنين على اختلاف انتماءاتهم . وهو لم يردها دولة لطائفة أو مذهب أو فئة، ولكن علمنة الدولة هذه لم يضعها في تعارض مع القيم الروحية والحريات الدينية ومع ” جوهر الدين ” في تحقيق تطلعاته الأخلاقية ، كما أنه أراد أن يعطيها مقومها الحديث ، في الجمع بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية ، وأن يرسى مقوماتها على أساس من التخطيط العلمي والنهج الاشتراكى.
قلنا إن عبد الناصرلم يقدم لنا عن هذه العملية في التأليف نظرية أو منظوراً أيديولوجياً ، كما أنه لم يقم على أساسها حزباً أو أحزاباً أو جبهة تمثل كل هذه التيارات أو تمثل تلاقياً بينها ، ولكن بهذا الجهد الذي بذله وهذا النهج الذي اتبعه ، قد ذلل الكثير من العقبات التي تعوق التلاقي الوطني لهذه التيارات في إطار مشروع ثوري مشترك ، وهو قد وضع قاسماً مشتركاً بينها يتحدد بتطلعاتها المشتركة للتحرر الوطني والتقدم والاشتراكية والوحدة ، ووضع أمامها قاعدة اجتماعية وشعبية واحدة ، أو تحالفاً طبقياً هو قاعدتها كلها وتتوجه إليه كلها. فهو قد سحب من ساحة علاقاتها الوطنية ورقة التصادم الايديولوجي والتصادم الطبقى فيما بينها، وحوّله إلى تصادمات بينها مجتمعة وبين المصالح والقوى الطبقية والايديولوجية التي تشد إلى الوراء وتشد إلى الرجعية وتشد إلى التبعية وإلى المصالح الاستغلالية والفئوية وإلى الفساد وتحلل القيم الأخلاقية والروحية .
تلك في الواقع معطيات تقدمها لنا تجربة عبد الناصر وفكره . ومحاولتنا هذه ترمى إلى أن نستخلص منها تمهيدات لفتح باب الحوار، من أجل تهيئة المناخ المواتي لصياغة روابط قوى الثورة العربية وعلاقاتها، وللوصول إلى ” وحدة الفكر ” أو لما هو ضروري من الوحدة في الفكر لصياغة استراتيجية مشتركة، ونضال مشترك لتجديد مسار الثورة نحو أهدافها ، وفي مواجهة القوى المضادة للثورة والمعادية للأمة … فالبقاء عند المواقع القديمة والتقليدية في التفكير السياسي والعمل الحزبي والتعصب الايديولوجي ، وفي صياغة العلاقات والتحالفات ، يعني بالتالي عدم الاستفادة من التجربة، والارتداد إلى مواقع متأخرة عن مرحلة عبد الناصر… فينقطع سياق التقدم ، وتأخذ القوى المضادة للثورة مداها ، وتبقى قضية الأمة معلقة تطالب بمن يحمل رايتها من جديد .
مجلة الوعي العربي
تعليق واحد