الفكر السياسي الناصري وقضيه الوحدة الفكرية
تمهيد: يطرح الفكر السياسي الناصري قضيه الوحدة الفكرية نتيجة لأسباب متعددة ، من هذه الأسباب انه اعتبر أن تحقيق الوحدة السياسية (العربية) أحد غاياته الاساسيه،
والوحدة الفكرية سابقه عل الوحدة السياسية
. ومن هذه الأسباب أن الدلالة القطعية لمصطلح الناصرية
” اى أن يكون مميزا للانتماء، قاطعا سبل الخلط أو الادعاء، بصرف النظر عمن يقبلونه أو يرفضونه” لم تحدد بعد
(د. عصمت سيف الدولة ، عن الناصريين واليهم ).
. ومن هذه الأسباب انه فكر سياسي تجريبي، تم – ويتم – استخلاصه من تجربه سياسيه معينه ” هي التجربة الناصرية” .
غير أن مواجهه الفكر السياسي الناصري لإشكاليه الوحدة الفكرية لا يعنى أنها منتفية عنه مطلقا ،
فالواقع من الأمر أن الوحدة الفكرية متحققة فيه ، في كثير من القضايا الفكرية ، واغلبها يتصل بتناول مفاهيمه ،على المستوى النظري المجرد . كما أنها منتفية عنه ، في بعض القضايا الفكرية ، واغلبها يتصل بتناول ذات المفاهيم على المستوى العملي التطبيقي. وتركز هذه الدراسة على تناول بعض المواقف من النوع الأخير من أنواع القضايا الفكرية،
وتبين الدراسة أن بعض هذه المواقف ، لا تساهم في تحقيق الوحدة الفكرية للفكر السياسي الناصري، لأنها قائمه على الركون إلى احد النقيضين وإلغاء النقيض الآخر، كما أن بعض هذه المواقف تساهم في تحقيق الوحدة الفكرية للفكر السياسي الناصري ، لأنها تتجاوز المواقف السابقة كنقيضين ، وتؤلف بينهما في تركيب جديد ، من خلال الانتقال من موقفي الرفض والقبول المطلقين للقضايا الفكرية، إلى موقف نقدي منها، والانتقال من القول باولويه بعد معين من أبعاد هذه القضايا الفكرية ، إلى الربط بين الأبعاد المتعددة للقضايا الفكرية ، باعتبار أنها ذات قيمه متساوية .
الموقف من الحرية :ففيما يتعلق بمفهوم الحرية ،
نجد أن الوحدة الفكرية متحققة في الفكر السياسي الناصري، في تناوله لمفهوم الحرية ، على المستوى النظري المجرد
( اى الحرية كغاية أساسيه للمشروع النهضوى العربي) ،
إما فيما يتعلق بتناول مفهوم الحرية ، على المستوى العملي التطبيقي (المتعلق بكيفية تطبيق المفهوم في الواقع العربي )، فإننا نجد ثلاثة مواقف فكريه:
الموقف الأول : يقول باولويه التحرر من الاستعمار والتبعية ، استنادا إلى أن التجربة الناصريةأعطت الاولويه- على المستوى التطبيقي وليس المستوى النظري- لحل مشكله الاستعمارالخارجي ، على حل مشكله الاستبداد الداخلي، لأن المرحلة التاريخية لهذه التجربةتتميز أساساً بأنها مرحلة تحرر قومي من الاستعمار،
الموقف الثاني يقول باولويه التحرر من الاستبداد ، لان المرحلة التاريخية للتجربة قد انقضت ( اى مرحله الاستعمار القديم )، وظهرت مرحله تاريخيه جديدة تطالب فيها الشعوب بالحرية السياسية ،
أما الموقف الثالث – الذي يمكن أن يساهم في تحقيق الوحدة الفكرية هنا ، لأنه يتجاوز الموقفين السابقين كنقيضين ويؤلف بينهما – فهو الموقف الذي يقوم على الربط بين مشكلتي الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي،
باعتبار أن الأول هو قيد داخلي على حرية الشعوب
( لأنه انفراداقليه “فرد أو فئة” بالسلطة دون الشعب) ،
بينما الثاني هو قيد خارجي عليها.
( لأنهاستيلاء شعب على إمكانيات شعب أخر وتسخيرها لخدمة مصالحه)،
وهذا الربط بين المشكلتين يتسق مع المستوى النظري للتجربة الناصرية ،
ممثلا في إقرار وثائق التجربة الناصريةلهذا الربط
(بين حرية الوطن وحرية المواطن )
الموقف من الديموقراطيه : أما فيما يتعلق بالموقف من الديموقراطيه ، فإننا نجد أن الوحدة الفكرية متحققة في الفكر السياسي الناصري، في تناوله للديموقراطيه على المستوى النظري المجرد، وتتمثل في
( رفض الديموقراطيه الليبرالية ، كشكل من أشكال الديموقراطيه غير المباشرة (النيابية – التمثيلية )،
والتي يمارس فيها الشعب السلطة بشكل غير مباشر من خلال نواب ينوبون عنه ،
وقبول الديموقراطيه الشعبية، التي تقوم على انتظام الشعب في مؤسسات تبقى منعقدة دائما، وتكون إطار لعرض المشكلات ،والحوار حول حلولها ، والتعبئة لوضع تلك الحلول موضع التنفيذ،كشكل من أشكال الديموقراطيه المباشرة، التي يمارس فيها الشعب السلطة بشكل مباشر)،
إما فيما يتعلق بالموقف من الديموقراطيه ، على المستوى العملي التطبيقي
( المتعلق بكيفية تطبيق الديموقراطيه في الواقع العربي ) ،
فإننا نجد ثلاثة مواقف فكريه:
الموقف الأول يأخذ موقف القبول المطلق للديموقراطيه الشعبية ، والذي يتضمن الأخذ بصيغها التي طرحتها التجربة، دون الانتباه إلى أنها كانت تعبير عن واقع متغير، والرفض المطلق للديموقراطيه النيابية،
أما الموقف الثاني فيقوم على القبول المطلق للديموقراطيه النيابية ، والرفض المطلق للديموقراطيه الشعبية ، والذي يتضمن ردها كمبدأ نظري وكصيغه – صيغ – عمليه احتجاجا بتغير الواقع ، دون الانتباه إلى الأخذ بالديمقراطية الشعبية هو احد المبادئ الاساسيه للفكر السياسي الناصري،
أما الموقف الثالث – والذي يمكن أن يساهم في تحقيق الوحدة الفكرية هنا ، لأنه يتجاوز الموقفين السابقين كنقيضين ويؤلف بينهما – فيقوم على موقف نقدي من الديموقراطيه الشعبية، يقوم على التمييز بين الديموقراطيه الشعبية كمبدأ سياسي يجب الأخذ به ، وكصيغ عمليه خاضعة للتغيير والتصحيح ، ومن أهم أوجه التصحيح هي ضرورة أن يكون انتظام الشعب في مؤسسات جماهيريه اختياريا، وليس كجزء من مؤسسات الدولة، كما يقوم هذا الموقف على موقف نقدي من الديموقراطيه النيابية ، يقوم على الأخذ بالديموقراطيه غير المباشرة ( النيابية) في المستويات الواسعة ” الولائيه ،الوطنية القومية ..
” والأخذ بالديموقراطيه المباشرة في المستويات الضيقة ” الأحياء ، المناطق …” ، والتمييز الديموقراطيه بين الليبرالية، وقبول الديموقراطيه كنظام فني لضمان عدم استبداد الحكام بالشعب ، ورفض الليبرالية كنظام ” راسمالى في موقفه من الاقتصاد، فردى في موقفه من الأخلاق ، علماني في موقفه من الدين …” بالاحتكام إلى الشعب . ويتضمن هذا الموقف الأخذ بتعدد الأحزاب باعتبار أن عدم منع الشعب من ان يعبر عن إرادته بالطريقة التي يختارها ، ومنها تشكيل الأحزاب ، مبدأ ديمقراطي يجب الأخذ به اتساقا مع تقرير الميثاق
أن ” الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب “.
.حيث أن ” كل الحرية ” تمتد إلى حرية اختيار طريقة وأسلوب التعبير عن الرأي وممارسة النشاط الحزبي .
الموقف من الوحدة : أما فيما يتعلق بمفهوم الوحدة ،
فإننا نجد أن الوحدة الفكرية متحققة في الفكر السياسي الناصري، في تناوله لمفهوم الوحدة ، على المستوى النظري المجرد
( اى الوحدة كغاية أساسيه للمشروع النهضوى العربي)
، إما فيما يتعلق بتناول مفهوم الوحدة ، على المستوى العملي التطبيقي (المتعلق بكيفية تطبيق المفهوم في الواقع العربي )، فإننا نجد ثلاثة مواقف فكريه من قضيه أداه تحقيق الوحدة :
الموقف الأول :
يقول بتعدد أدوات تحقيق الوحدة احتجاجا بما هو كائن ( التعدد ) ، الموقف الثاني
يقول بوحدة أداه تحقيق الوحدة احتجاجا بما ينبغي أن يكون (الوحدة)،
أما الموقف الثالث –
الذي يمكن أن يساهم في تحقيق الوحدة الفكرية هنا ، لأنه يتجاوز الموقفين السابقين كنقيضين ويؤلف بينهما –
فهو الموقف الذي يقوم على الجمع بين وحده وتعدد أدوات تحقيق الوحدة ، من خلال ابتكار صيغ ، تجمع بين الوحدةوالتعدد، بدرجات متفاوتة ، يتم الأخذ باى منها حسب الإمكانيات التي يتيحها الواقع، وحسب مراحل التغيير.
الموقف من الاشتراكية والعدالة الاجتماعية:
أما فيما يتعلق بمفهومي الاشتراكية و العدالة الاجتماعية،
فإننا نجد أن الوحدة الفكرية متحققة في الفكر السياسي الناصري، في تقريره الاشتراكية و العدالة الاجتماعية كغايات أساسيه للمشروع النهضوى العربي ،
إما على المستوى الاجرائى ( المفاهيمى) ،
المتعلق بهذه المصطلحات ودلالاتها ، فاننا نجد ثلاثة مواقف فكريه من دلالات مصطلح الاشتراكية :
الموقف الأول يقول بوحدة دلاله مصطلح الاشتراكية ، من خلال استخدامه لمصطلح ( الطريق العربي للاشتراكية) ، أما الموقف الثاني فيقول بتعدد دلالات مصطلح الاشتراكية ، من خلال استخدامه مصطلح (الاشتراكية العربية ) ،
أما الموقف الثالث – الذي يمكن أن يساهم في تحقيق الوحدة الفكرية هنا ، لأنه يتجاوز الموقفين السابقين كنقيضين ويؤلف بينهما – فهو الموقف الذي يقول بوحدة وتعدد دلالات مصطلح الاشتراكية ، اى أن لمصطلح الاشتراكية دلاله عامه مشتركه – واحده – تتمثل في الاشتراكية كمفهوم مجرد تشترك في فهمه كل الفلسفات والمناهج ومضمونها التحرر من القهر الاقتصادي ،وسيطرة الشعب على وسائل الإنتاج ، والتخطيط الاقتصادي والملكية العامة لوسائل الإنتاج الاساسيه…
(وهنا يمكن الحديث عن الطريق العربي للاشتراكية )
.كما أن له دلالات خاصة منفردة – متعددة – تتمثل في ما اكتسبه المصطلح من معنى كمحصله لتطبيقه في واقع المجتمعات الأخرى ، والذي تنفرد بفهمه فلسفات ومناهج معرفه معينه
(وهنا يمكن الحديث عن الاشتراكية العربية ).
.كما نجد ثلاثة مواقف حول تفضيل استخدام مصطلح الاشتراكية أو مصطلح العدالة الاجتماعية،
الموقف الأول يفضل استخدام مصطلح ألاشتراكيه ،
والموقف الثاني يفضل استخدام مصطلح العدالة الاجتماعية باعتبار أن مصطلح الاشتراكية اقترن في الأذهان باحدى دلالاته الخاصة المنفردة (الماركسية)، والتي تتعارض أجزاء كثيرة مع الدين.
أما الموقف الثالث- الذي يمكن أن يحقق الوحدة الفكرية هنا، لأنه يتجاوز الموقفين السابقين كنقيضين ويؤلف بينهما –فهو الموقف القائم على امكانيه استخدام المصطلحين، باعتبار الترابط بينهما، مع اعتبار الفارق بينهما وهو أن الأول
( الاشتراكية ) حديث على مستوى النظم الاقتصادية ،
والثاني (العدالة الاجتماعية ) حديث على المستوى القيمى ، لكن يفضل تقييد استخدام المصطلح الأول (الاشتراكية ) بتحديد الدلالة التي يقصدها مستخدم المصطلح ، لان بعض دلالات هذا المصطلح مرفوضة ، بينما يمكن استخدام المصطلح الثاني(العدالة الاجتماعية ) بشكل مطلق لان دلالاته أو اغلبها محل اتفاق وقبول .
قضيه العلاقة بين الدين والدولة :
أما فيما يتعلق بموقف الفكر السياسي الناصري من قضيه العلاقة بين الدين والدولة ،
نجد أن الوحدة الفكرية متحققة في الفكر السياسي الناصري، في إقرار موقف ايجابي من الدين ، والدعوة إلى دوله مدنيه، ورفض الثيوقراطيه (الدولة الدينية بالمفهوم الغربي).
ا/ الموقف الايجابي من الدين :
حيث أنالتجربة الناصرية قد اتخذت موقف ايجابي من الدين ،
على المستويين النظري والعملي”
وهو ما يعنى الإقرار النظري والفعلي بتدخل ألدوله في الحياة الدينية والنشاط الديني للمجتمع إيجابا بالدعم والتشجيع ”
حيث يتمثل هذا الموقف الايجابي للتجربة الناصرية ، منالدين ،على المستوى النظري ،في تقرير وثائق التجربة – على سبيل المثال لا الحصر- أن أحد عوامل نجاح نضال الشعب المصري والشعوب العربية والمسلمة الأخرى هو
(إيمان لايتزعزع بالله وبرسله ورسالاته القدسية، التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسانية في كل زمان ومكان)
(الميثاق الوطني ، 1962 ،الباب الأول)
، وكذلك تقريرها أن الإسلام هو الذي وحد الامه العربية
(واتحدت المنطقة بسلطان العقيدة حين اندفعت تحت رايات الإسلام تحمل رسالة السماء الجديدة – الإسلام – وتؤكد ما سبقها من رسالات وتقول كلمة الله الأخيرة في دعوة عبادة إلى الحق)
( خطاب أمام مجلس الأمة في 5/2/1958)،
كما تحدد الدوائر الثلاث التي تنتمي مصر إليها،
وهى ا لدائرة العربية
والدائرة الأفريقية
والدائرة الإسلامية، (فلسفة الثورة )
كما يرى جمال عبد الناصر ان الإسلام هو الحل الأول والأخير لمشكله العلاقةبين الفرد والمجتمع
( … ومشكلة الفرد والجماعة التي حيرت المفكرين والفلاسفة في أوروبا منذ قرون ،
وجدت الحل الصحيح في بلادناالعربية والإسلامية منذ ألف وثلاثمائة سنة ،منذ نزل القرآن على محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وسلم) يدعوا إلى الأخوةالإنسانية ،
ويفصل مبادئ العدالة الاجتماعية على أساس من التراحم والتكافل الأخوي والإيثار على النفس في سبيل النفع العام للجماعة ،
بغير طغيان على حرية الفرد ، ولاإذلال له ولا إنكار لذاتيته ..
” إن الله يأمر بالعدل والإحسان،وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي..”
ذلك هو النظام.. فليكتف المفكرون والفلاسفة بمابذلوا من جهد،
ولا يبحثوا منذ اليوم عن حلول أخرى لمشكلة الفرد والمجتمع.. عندنا الحل..
الحل هو الذي نزل به الوحي
على نبينا منذ ألف وثلاثمائة سنة.. هو الحل الأخير لمشكلة الإنسانية ) (مقال بعنوان “الحل الأول هو الحل الأخير”، العدد 5 من سلسلة اخترنا لك “العدالةالاجتماعية وحقوق الفرد”، أول يوليو 1954، طبعدار المعارف) .
كما تمثل الموقف الايجابي للتجربة الناصرية،من علاقة الانتماء الاسلامي ، على المستوى العملي في الكثير من المظاهر،ومنها :زيادة عدد المساجد في مصر ، من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة،إلى واحد وعشرين ألف مسجد عام 1970 ،
( عشرةألاف مسجد ) ،
وهو ما يعادل عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ الفتح الإسلامي وحتى عهد عبد الناصر.
وجعل ماد ة التربية الدينية مادة إجبارية، يتوقف عليها النجاح أو الرسوب
،كباقي المواد لأول مرةفي تاريخ مصر، وإنشاء مدينة البعوث الإسلامية ،التي كان ومازال يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين،القادمين من سبعين دولة إسلامية ويقيمون فيها مجانا ,وإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي جمعت كل الشعوبالإسلامية ، وترجمه القرآن الكريم إلى كل لغات العالم . وإنشاء إذاعة القرآن الكريم.
ووضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي،
و.بناء آلاف المعاهدالأزهرية والدينية في مصر ، و افتتاح فروع لجامعة الأزهر في العديد من الدول الإسلامية،بالاضافه إلى بعثات الأزهرلنشر الإسلام فى أفريقيا وأسيا ،
وإصدار قانون تحريم القمار ومنعه .
و إلغاء تراخيص العمل الممنوحة للنسوةالعاملات بالدعارة ،
وتقرير دساتير المرحلة الناصرية أن الإسلام هو دين الدولة..
.(الدين والدولة والثورة : رفعت سيد أحمد. النبي والفرعون : جيلكيبل .لمؤامرة ومعركة المصير : سعد جمعة. تقرير مجلس الكنائس العالمي لعام 1974،
تقرير الحالة الدينية في مصر عام1982 .
الإسلام في عهدجمال عبد الناصر : عمرو صابح( ، وهنا يجب الاشاره إلى أن الصراع الذي حدث بين جماعه الأخوان المسلمين وجمالعبد الناصر لا ينفى الموقف الايجابي للتجربة الناصرية من الدين، لان هذا الصراع لم يكن صراع ديني بل صراع سياسي
، وقد اقر بعض الإخوان المسلمين والإسلاميين بهذه الحقيقة ،يقول د.عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين سابقا ، في الحلقة الأولى من مذكراته التي حملت عنوان
( شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر)، التي قامت بنشرها الشروق
(ورغم أن نظرتي تغيرت تماما عن جمال عبد الناصر فلم تصل يوما إلى تكفيره،
فقد كنت أرى أنه من الصعب أن نقول إن جمال عبد الناصر كان ضدالإسلام أو عدوا له كما كتب البعض، ومازلت أرى أن الصراع بينه وبين الإخوان كان صراعا سياسيا في الأساس ، بدليل أنه استعان بالعديد من رجالهم في بداية الثورةكوزراء مثل الشيخ الباقورى والدكتور عبد العزيز كامل.
الدولة المدنية :
الدعوة إلى الدولة المدنية ، التي مضمونها الدولة التي تقوم على إسناد السلطة السياسية للشعب، وبالتالي فان السلطة فيها نائب ووكيل عنه ، له حق تعيينها ومراقبتها وعزلها، وهى نقيض للدولة الثيوقراطيه (الدينية بالمفهوم الغربي) ، التي ينفرد بالسلطة السياسية فيها فرد أو فئة دون الشعب ، كنتيجة لازمه لانفراد هذا الفرد أو الفئة بالسلطة الروحية ( الدينية ) دونه . وهى دعوه تتسق مع الفلسفة السياسية الاسلاميه ،
لأنها تقوم على إسناد السلطة السياسية
– التي عبر عنها القران بمصطلح الأمر- إلى الجماعة (الشعب)
﴿ وأمرهم شورى بينهم﴾،
وبما يتسق مع إسناد السلطة الروحية ( الدينية)
– التي عبر عنها القران بمصطلح الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر – إليها
﴿ كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ ، كما تتسق مع تعريف علماء أهل السنة للبيعة بأنها عقد مرضاه واختيار ، وما يترتب على ذلك من اعتبار الحاكم نائب ووكيل عن الجماعة، لها حق تعينه ومراقبته وعزله ،
يقول الماوردي
( البيعة عقد مرضاة واختيار لا يدخله اكراة ولا إجبار)،
ويقول أبو يعلي (الخليفة وكيل للمسلمين ) (المارودي، الأحكام السلطانية، ص 7 ).
رفض الثيوقراطيه :
رفض الثيوقراطيه ( الدولة الدينية بالمفهوم الغربي )،
والتي مضمونها انفراد فرد أو فئة بالسلطة السياسية دون الشعب ، كنتيجة لازمه لانفراد هذا الفرد أو الفئة بالسلطة الروحية
( الدينية ) دونه .
وهذا الرفض يتسق مع رفض الإسلام للثيوقراطيه
، لأنه يرفض إسناد السلطة الدينية أو الروحية ، إلى فرد أو فئة تنفرد بها دون الجماعة اى الكهنوتية أو رجال الدين،
قال تعالى ( واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله )
الأكثرون من المفسرين قالوا ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم،
بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، ،
فضلا عن أن الثيوقراطيه تؤدى إلى تحويل المطلق (الدين) إلى محدود (الدولة أو السلطة) أو العكس ،
وبالتالي إضفاء قدسيه الدين و اطلاقيته على البشر واجتهاداتهم المحدودة بالزمان والمكان ،
و هو ما رفضه الإسلام حين ميز بين التشريع كوضع الهي ثابت ، والاجتهاد ككسب بشرى متغير.
الموقف من العلمانية :
إما فيما يتعلق بتناول الفكر السياسي الناصري للعلمانية هي : الموقف الأول هو قبول العلمانية ،
والموقف الثاني هو رفض العلمانية ،
أما الموقف الثالث – والذي يمكن أن يساهم في تحقيق الوحدة الفكرية هنا ، لأنه يتجاوز الموقفين السابقين كنقيضين ويؤلف بينهما – فهو الموقف النقدي من العلمانية والقائم على :
أولا: تجاوز موقفي القبول اوالرفض المطلقين :
إشكاليات القبول المطلق:
حيث أن الموقف الأول (القبول المطلق)
يواجهه الإشكاليات التالية :
ا/ تناقض العلمانية مع التجربة الناصرية
: حيث أن التجربة الناصرية – على المستويين النظري والتطبيقي – تتناقض مع العلمانية كحل قدمته أوربا الليبرالية، ضمن ظروف تاريخيه خاصة ، لمشكله العلاقة بين الدين والدولة، يقوم على الفصل بينهما، فمن الناحية الشكلية-
أن عبد الناصر لم يستخدم مصطلح علمانيه في اى من خطاباته الشفهية أووثائقه المكتوبة ،
يقول مخلص الصيادي
(من الناحية الشكلية ليس في تاريخ الناصرية – وفق علمي- ما يشيرإلى تبنيها للعلمانية من حيث المصطلح
، ولم تثرهذه القضية في تاريخ الناصرية ،
ولا يعرف أن جمال عبد الناصر أتى عليها، على الرغم من أنها كانت مثارة بقوة وبوضوح في المجالين الإسلامي بالنموذج التركي، والعربي بالنموذج البورقيبي)(د.مخلص الصيادي ،
الناصرية والدين ، منتديات الفكر القومي العربي) ،
هذا فضلا عن رفض عبد الناصرلمضمون العلمانية في بعض الخطابات والوثائق،
حيث يقول سنة 1963
(الإسلام دين التطور والحياة ، والإسلام يمثل الدين ويمثل الدنيا، لا يمثل الدين فقط)
هذا فضلا عن أن التجربة الناصرية قد اتخذت- كما سبق ذكره – موقف ايجابي من الدين – على المستويين النظري والعملي- بمعنى تدخل ألدوله في الحياة الدينية والنشاط الديني للمجتمع إيجابا بالدعم والتشجيع –
وهو ما يتناقض مع كون العلمانية- طبقا لدلالتها الاصليه تتخذ موقفا سلبيا من الدين ،
بمعنى عدم تدخل الدولة في الحياة الدينية والنشاط الديني للمجتمع ، سواء سلبا بالحظر والمنع أو إيجابا بالدعم والتشجيع ، ليصبح النشاط الديني بذلك مقصورا على الأفراد.
ب/ التغريب:
أن العلمانية في الأصل جزء من الديانةالمسيحية ،
إلا أنها تحول إلي تيار فكرى معين، ظهر في مرحله معينه من مراحل التاريخ الاوربى ،تحول إلي ثوره ضد تدخل الكنيسة في الحكم، انتهى إلي أقامه نظام متكامل للحياة ، هوالنظام الليبرالي التي تشكل العلمانية احد أركانه، كان محصله عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية سادت أوربا نحو سبعه قرون.
بناءا على ما سبق فان جوهر الدعوة إلى العلمانية في مجتمع اسلامى – كالمجتمع العربي- هو أن تستبدل القيم والآداب والقواعدالاسلاميه
(التي تشكل الهيكل الحضاري لهذا المجتمع)
بالقيم والآداب والقواعدالغربية، لتحقيق قدر من الشعور المستقر بالانتماء إلى الحضارة الغربية اىالتغريب (د. عصمت سيف الدوله، عن العروبة و الإسلام ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1989) .
ج/ العلمانية احد أركان الليبرالية :
وطبقا للتعريف السابق فان العلمانية هي احد أركان الليبرالية كتيار فكرى متمايز عن الناصرية ، حيث أن الاخيره لا تتخذ موقف القبول المطلق من الليبرالية وأركانها، بل تتخذ من الليبرالية وأركانها موقف نقدي يرفض سلبياتها
(فترفض مثلا الراسماليه كركن اقتصادي لليبراليه ،
وما نتج منه تاريخيا من استعمار قديم وجديد ودوره في نهب ثروات الامه العربية وتجزئتها وغرس دوله الكيان الصهيوني في قلبها …)، ويقبل ايجابياتها ( كإقرار مفاهيم المواطنة والدولة المدنية …) ،
فضلا عن أن اغلب القوى السياسية الليبرالية الخارجية (الغرب ) والداخلية (كثير من الأحزاب والحركات السياسية الليبرالية المصرية والعربية )، ظلت تناصب الناصرية العداء.
إشكاليه الرفض المطلق:
التكفير:
كما أن الموقف الثاني (الرفض المطلق)
يواجهه إشكاليه تكفير كل من يتبنى أو يدعو إلى العلمانية،
بينما الأقرب للصواب هو رفضها لمبرر ديني هو:
أنها لا تعبر عن جوهر الحل الاسلامى لقضية العلاقة بين الدين والدولة ، رغم أنها كانت في الأصل جزء من الديانةالمسيحية ، استنادا إلى قول المسيح (عليه السلام)
” أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر ” ،
ولمبرر رفضها الحضاري هو أنها شكل من إشكال التغريب .
ثانيا:التمييز بين دلالات مصطلح العلمانية :
كما يجب التمييز بين الدلالات المتعددة لمصطلح علمانيه ،
حيث أن للمصطلح دلاله أصليه – تاريخيه واحده –
هي فصل الدين عن الدولة ، كما أن له دلالات لاحقه – خاصة متعددة ، وبالتالي فإننا إذ نرفض الدلالة الاصليه التاريخية للمصطلح، لا نرفض أو نقبل دلالاته اللاحقة- الخاصة إلا بعد تقييمها.
ثالثا: الايجابيات والسلبيات :
كما انه يجب تقرير ان للعلمانية سلبيات تتناقض مع الإسلام كالدين ومنها إقصاء واستبعاد الدين عن الحياة العامة وقصره على الحياة الخاصة… كما ان لها ايجابيات تتسق مع الإسلام كدين : ومنها تقرير مدنيه السلطة ورفض الثيوقراطيه…وبالتالي فانه يجب رفض سلبياتها وقبول ايجابياتها .
رابعا: الحل الثالث: تجاوز الثيوقراطيه والعلمانية:
وأخيرا فانه يجب التوافق على حل ثالث لمشكله العلاقة بين الدين والدولة ، يتجاوز كل من الثيوقراطيه والعلمانية .
وهنا نرى أن الحل الذي يتسق مع الموقف الايجابي للتجربة الناصرية من الدين على المستويين النظري والعملي-
كما يعبر عن جوهر الحل الاسلامى الصحيح لمشكله العلاقة بين الدين والدولة – هو الحل الذي يقوم على اعتبار أن علاقة الدين بالدولة هي علاقة وحده وارتباط
(وليست علاقة خلط ودمج كما في الثيوقراطيه )،
اى يقوم على دينيه التشريع وليس السلطة كما في الثيوقراطيه،لان السلطة في الإسلام مقيده بمفاهيم وقيم وقواعد كليه ثابتة” كالشورى والعدل والمساواة …”
، والمقصود بالتشريع هنا مصدره الرئيسي ،
من خلال تقرير أن أصول الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع ، وهو ما يتسق –
فيما نرى – مع تقرير دساتير التجربة الناصرية
أن الإسلام هو دين الدولة .
كمايقوم هذا الحل على اعتبار
أن علاقة الدين بالدولة هي علاقة تمييز
( وليست علاقة فصل كما في العلمانية)،
اى يقوم على مدنيه لسلطة وليس التشريع كما في العلمانية ، لان الإسلام ميز التشريع كوضع الهي ثابت
والاجتهاد ككسب بشرى متغير.
د.صبري محمد خليل/
أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم- مجلة الوعي العربي