من خبايا الأرشيف الفرنسي : الناجح الأول في أول مسابقة لاكتتاب معلمي اللغة العربية في عهد الاستعمار .
من صفحة االاستاذ
بدن ولد سيدي:
—————
في مطلع سنة 1955 أعلنت الإدارة الاستعمارية عن عزمها تنظيم مسابقة لاكتتاب معلمين للغة العربية في المدارس النظامية الفرنسية المنتشرة في بلاد شنقيط في مدينة سان لويس (اندر ) عاصمة المستعمرة بعد أن كادتْ تلك الوظيفة تكون حكراً على بعض الجزائريين المستجلبينَ من ” خارج الحدود “.
انتشر الخبر بين الناس كالنار في الهشيم و تداعى إلى مدينة انرْ سائر المثقفين من كل مكان و خاصة منهم طلاب المحاضر فدفعوا طلباتهم بأعداد كبيرة إلى الجهة المختصة في الأجل المرسوم.
و جرى تنظيم المسابقة يوم 5 مايو 1955و أرسلت أوراق الامتحان إلى باريس ليتم تصحيحها هناك في تلك المؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي و الثقافي و المهني المسماة ” المعهد الوطني للغات و الحضارات الشرقية” و المعروفة اصطلاحًا باسم ” ´Langues O .
و استغرق التصحيح ثلاثة أشهر كاملة و جميع سكان المستعمرة ينتظرون النتائج على أحر من الجمر .و لكن حديث الساعة ظل يدور طوال كل تلك الفترة حول ذلك الشاب السباعيّ المترشح حديث عهد بالمغرب الأقصى حيث وُلِدَ و نشأ .لم يكن المشفقون على هذا الفتى من أبناء عمومته و الحريصون على سمعته و سمعة القبيلة من بعده يتوسمون فيه من العلم و المعرفة ما يؤهله للترشح لذلك المنصب الخطير إلى جانب هذه الكوكبة من العلماء الموهوبين.و لكن كل محاولات هؤلاء في ثني صاحبهم عن تلك “المغامرة ” العجيبة باءت بالفشل و هم على يقين راسخ أنه لن يجلب لهم من ذلك الترشح سوى العار و الشنار . يقول محمدن بن سيد ابراهيمْ رحمه الله : ” لا زال الوجهاء البارزون من جماعة الحل و العقد من جماعتنا يلحون عليه في التراجع و يستعطفونه و يُغرونه بافتتاح أكبر المتاجر و لكن أبى صاحبُنَا إلاَّ أن يخوض تلك المنافسة الخاسرة من وجهة نظرنا الخاصة “. و لا زال القوم يتوجسون خيفةً من تلك النتائج و عواقبها الوخيمة ، و يتجاهلون ما يسمعونه أو يرونه عند الغير من أمارات السخرية و الغمز و اللمز حتى إذا جاءت البشارة المدوية على لسان سيد المختار انچايْ نقلاً عن صديقه الحميم المختار ولد دادَّاه القادم لتوه من العاصمة الفرنسية .
جاء الأستاذ المختار بن داداه من فرنسا بالخبر اليقين عن نتائج المسابقة و إن كان غيرَ رسميٍّ . جاء يحمل معه لائحة الناجحين الأبع عشرة (14) التي زودته بها لجنة الامتحانات الفرنسية التي قالت له كذلك إنها لن تكون نهائية إلا بعد صدورها في الجريدة الرسمية لإفريقيا الغربية الفرنسية.و لكن دهشة الناس كانتْ كبيرة عندما علموا أن الرقم الأول الذي يتصدر الناجحين ليس سوى ذلك الشاب السباعيَّ الطموح ” مَتِينِ الرَّأْسِ ” المسمَّى عبد الوهاب ولد الشيگر رحمه الله.و من هنا بدأ الناس يتساءلون عن السر في هذا التفوق الفائق على العلماء ، فإذا الشاب المتواضع درس في محاضر السوس في جنوب المغرب حيث يكمن النبوغ المغربي في أصدق تجلياته! عندها فقط ، عُرِفَ السبب فزال العجبْ و انقلب التشاؤم تفاؤلاً و الإحباط أملاً و التوجسُ فخراً و اعتزازاً بذلك الابن البار الذي يجسد عبقرية قومه أينما حلوا و حيثما ارتحوا !
و عموماً فقد كانت فرحة جميع الناس عارمةً بنجاح هؤلاء البداة الصحراويين الذين أفضتْ بهم دراساتهم المحظرية الأصيلة إلى توظيف رسميٍّ يدرُّ عليهم من الخزينة الفرنسية أرزاقاً يستعينون بها على نوائب الدهرِ و تفتح أمامهم آفاقًا جديدة في هذه الحياة العصرية الجديدة التي يلجونها بغتةً دون سابق إنذار .
و لم ينتظر القوم كثيرًا حتى أعلن الحاكم الفرنسي عن وصول عدد الجريدة الرسمية المتضمن النتائج النهائية للمسابقة و ذلك على النحو التالي :
التاريخ : 1 يوليو 1955 – يعتبر ناجحين نهائياً في مسابقة اكتتاب معلمي اللغة العربية (دورة 5 مايو ) المترشحون التالية أسماؤهم مرتبة حسب الاستحقاق :
Date: 1 Juillet 1955-Sont déclarés définitivement admis à l’examen pour le recrutement de moniteur d’arabe (session du 5 mai 1955) , les candidats ci-après désignés par ordre de mérite :
1- عبد الوهاب الشيگر (سان لويس) ؛
2- محمد عبد الرحمان ولد يحظيه (بن عبد الودود )- بو تلميت
3- البراء ولد ألمين سيدي (أولاد سيد الفاللِّ )- المذرذرة ؛
4- سيدي محمد فال ولد سيديا ( بو تلميت)؛
5- أحمد سالم ولد باگَّا ( إدودنْيقبْ)- المذرزرة؛
6_ ابراهيمْ (شغالي) ولد أحمد محمود (أغلال شنقيط)-أطار ؛
7- الشيباني ولد محمد ولد أحمد (النجمريّ) -كيهيدي ؛
8- الدنبجه ولد معاويه ( حلةُ أربعين جواداً ) – بوتلميتْ ؛
9- الطيب ولد بلاَّلْ ( والدُ محمد فال رئيس اللجنة الانتخابية )-ألاگْ ؛
10- سيدي محمد ولد آبَّ (المذرذره)؛
11- المختار ولد محمد ( سان لويس)؛
12- موسى ولد سيدي الشيخ ( ألاگْ)؛
13- محمد ولد حبيْني) ألاگْ )؛
14- عبد الله ولد الشيخ المحفوظ (بن بيهْ ) حفظه الله (تمبدغه).
و يذكرني هذا الترتيب قول العلامة امحمد بن أحمد يوره مرةً عندما رفض رفضًا باتًا إمامة الصلاة بقوم حاولوا أن يرغموه عليها إرغاماً فقال بالحسانية و بجذبه الطريف المعهود : ” الإمام ألاَّ إمامْ يسْوَ عادْ اللَّوْرَ أ يسْوَ عَادْ الْگِدَّامْ ” فسارت مثلًا سيَّاراً يسير به الركبان في كل زمان و مكان .
هذا و بعد اكتمال الإجراءات الإدارية تم تحويل المعلم المتفوق عبد الوهاب الشيگر إلى المدرسة الابتدائية في المجرية في تگانتْ في السنة الدراسية 1955-1956 و كانت تلك فرصة له عظيمة ليس لتدريس اللغة العربية فحسبْ و إنما ليتعلم هو نفسه اللغة الفرنسية من خلال دفاتر و دروس ابنه الطفل سيدي محمد المسجل في السنة الأولى من المدرسة الابتدائية!و كان من تلامذة المدرسة آنذاك طلاب نابهون منهم المصطفى ولد اعبيْدْ الرحمان و الدكتور سيدي ولد كيطكاط و غيرهم كثير .
و يبدو أن تعلُّمَ اللغة الفرنسية كان طموحاً مشتركاً بين صاحبنا و بعض زملائه من تلك الدفعة من المعلمين أينما كانت مواقعهمْ في لائحة الناجحين.ذلك أن صديقنا سعادة السفير محمد محمود بن بيَّه حدَّثني أن والده مولانا العلامة الشيخ عبد الله بن بيهْ ابَّان زيارته الأخيرة لانواكشوط زاره السيد محمذن بابَ بن امَّدْ (افَّالْ بابَ علماً ) و عرَّفه على نفسه قائلاً : ” هلاَّ تذكر إذْ كنت أنا و أنتَ معلميْن في مدرسة تمبدغه الابتدائية ، و كنتَ تنضمُّ إلى تلامذتي في القسم لتحضر إلى جانبهمْ درسَ اللُّغة الفرنسية كما كنتُ أنا في المقابل أفعل ذاتَ الشيءِ بالنسبة لدروسكَ أنت باللغة العربية ؟!
و نعود إلى الأستاذ عبد الوهاب ولد الشيگر لنقول إنه لم يلبث أن استدعاه المختار بن دادَّاه (بإيعاز من المختار بن حامد ) فعمل معه في اندر مديرًا للإعلام مشرفاً على أول جريدة رسمية تصدر باللغتين تحمل اسم ” موريتانيا “.و خلال تلك الفترة شارك في تنظيم مؤتمر ألاگْ المشهور و اضطلع فيه بمهمة الترجمة بصورةٍ بهرت المؤتمرين.
و يبدو أن عبد الوهاب قد اكتسب من اللغة الفرنسية و بتلك الطريقة آنفة الذكر ، ما خوله بأن ينجح لاحقاً بجدارة مرة أخرى ، في مسابقة تم تنظيمها سنة 1961 في انواكشوط لدخول معهد الدراسات العليا لما وراء البحار في باريس.
L’Institut des hautes études d’outre-mer
و قد تخرج عبد الوهاب من تلك المؤسسة إداريًا مع دفعة منها السيدان يحيى ولد منكوس و مولاي امحمدْ حفظهما الله ، فلبس بذلة السلطات الإدارية و لكنه لم يمارس تلك الوظيفة على الصعيد الميداني لأن الرئيس المختار عينه فور عودته مديرًا للإذاعة الوطنية.و لكن العلاقات سرعان ما ساءت بين الرجلين لأسباب تتعلق بالتسيير على حد القول المعلن رسمياً و بالسياسة على حد قول آخرَ .
و مهما كان السبب إدارياً أو سياسيًا ، فقد زُجَّ بالمعنيِّ في سجن بيله في لكصر سنة 1967 و لم يخرج منه إلا سنة 1973.و في غيابة السجن ، استأنس المعنيُّ في فترات متفاوتة بمرور سجناء أصدقاء له مثل أحمد بابَ ولد أحمدْ مسكه و وانْ بيرانْ مامدو و هيبه ولد همديِ.و في السجن كذاكَ استقبل عبد الوهاب صديقيْن آخريْنَ هما : المرحوم محمدن ولد حامدن رحمه الله و الأستاذ محمد يحظيه ولد ابْرَيْدْ اللَّيْل حفظه الله عندما زاراه زيارة خاطفةً مأذونة فأقنعاهُ إقناعاً بأن يقبل الرئاسة الشرفية لنقابة حرة تم إنشاؤها آنذاك للدفاع عن حرية الصحافة و التعبير كردة فعل قوية على ما اعتبره المؤسسون اختزالًا للحريات النقابية المتشعبة في اتحاد العمال الموريتانيين التابع للحزب الواحد “حزب الشعب “.
هذا و ما إن خرج عبد الوهاب من السجن حتى ضرب صفحاً عن المخزن و إشكالاته و مارس صنوفاً من التجارة لم تدرَّ عليه من الربح بقدر ما يطمح إليه فانسلخ منها و شدَّ الرحال إلى الخارج فتردد بين فرنسا و ليبيا و السنغال . و لا يزال يعلق بذهني موضوع اختراعٍ له خارق يتعلق بتطويع و تطوير الآلة الكاتبة لحروف اللغة العربية!كما أنني لا أزال أتذكر مقالاً له منشورًا في مجلة ” الوحدة ” اللِّيبية التي يرأس تحريرها الصحفي و الدبلواسيُّ الليبي المشهور محمد سعيد الگشَّاط الذي التقاه ابَّان إقامته الجبرية في أطار إبَّان زيارته لبلادنا سنة 1971.
و في سنة 1978 وقع الانقلاب العسكري على الرئيس المختار ولد داداه ، فعاد عبد الوهاب ولد الشيگر إلى موريتانيا ، و عقد اتصالات مع الحكام العسكريين الجدد كان من نتائجها أن انتدب باقتراح رسميٍّ من موريتانيا في مطلع الثمانينات مديراً مساعداً مكلفاً بالإتصال لممثل الجامعة العربية في دكار عاصمة السنغال.و في تلك الفترة توطدت صلته بالوزير الأول السنغالي الأسبق مامدو چَا الذي كان يصفه بالرجل المتديّن إلى أقصى حدٍّ.
و خلال وجود الرجل في السنغال و بموجب عمله في الجامعة العربية ، سرعان ما اتخذ بعيد استلامه العمل سنة 1980 مبادرة طيبة بإنشاء رابطة الكتاب و المثقفين السنغاليين باللغة العربية و واكبها في نشاطاتها الداخلية و الخارجية المتعاقبة مدة إقامته هناك .
و لا يزال من العلماء و المثقفين السنغاليين إلى ساعة كتابة هذه السطور من يذكرونه بالخير الجزيل و يعترفون له بالجميل .
و في سنة 1984 انتهت مأمورية عبد الوهاب فعرضت عليه الجامعة العربية مواصلة العمل معها في مقرها في تونس و لكنه اعتذر نظراً لتدهور صحته ..
و هكذا عاد عبد الوهاب ولد الشيگر إلى دفْءِ وطنه موريتانيا و شعبها الوديع ، و استعاد بها حياته الطبيعية التي طالما افتقدها و حنَّ إليها و بقي تحت عناية أسرته الخاصة و في حضن ذويه و بين عشيرته الأقربين يتواصل بأريحيته المعهودة مع مختلف أصدقائه و محبيه من كل فئات الشعب إلى أن أسلم روحه الطاهرة إلى بارئها بهدوءٍ يوم 19 مارس 1998 في انواكشوط عن عمر بلغ 73 سنةً (لأنه مولود سنة 1925 في مدينة أطار بولاية آدرار ) ، و دفن في مقبرة لكصر بالعاصمة تغمده الله برحمته الواسعة .
و بوفاة الأستاذ عبد الوهاب ولد الشيگرْ اشتعلتْ مكتبة علمية كاملة مكتنزة الرفوف متنوعة الموضوعات و انطفأت شعلة من الذكاء المتوقد ، تغمده الله برحمته الواسعة.
و في الختام نطلب من القراء مساعدتنا في التعريف بهذه النخبة من أهل العلم و المعرفة السباقين إلى تدريس مادة اللغة العربية عبر المدارس النظامية للمستعمر الفرنسي.
رحم الله السلف و بارك في الخلف.