canlı casino siteleri casino siteleri 1xbet giriş casino sex hikayeleri oku
تحقيقات ومقابلاتموضوعات رئيسية

الرحلة الأندلسية/ عبد الرحمان بلحاج علي سفير تونس السابق في موريتانيا

     الرّحلة الأندلسية للشيخ علي بن سالم الورداني التونسي رفيق الشيخ محمّد محمود بن التلاميد     في مهمّة الحصول على أسماء أشهر الكتب   الموجودة بخزائن دولة أسبانيا  (1304هـ- 1887م) 
  جمع وتحقيق ومراجعة*
عبد الرحمان بلحاج علي
( سفير تونس السابق في نواكشوط)
   

      [ المقدّمة]       

      الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد فيقول الفقير إلى الله سبحانه وتعالى علي بن سالم الورداني التونسي: إنّه لما كان الاهتمام بشأن تقدّم العلوم والمعارف من أجلّ المقاصد المتّجهة نحو تقدّمها يوما فيوما أنظار جلالة مولانا السلطان المعظم عبد الحميد خان، أيّد الله سلطنته، بعثت نظارة المعارف العمومية السلطانية مأمورية إلى إسبانيا وباريس ولندرة للإطّلاع على بعض ما بها من الآثار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

·         نشر الشيخ علي بن سالم الورداني نصّ رحلته في جريدة “الحاضرة” التونسية طيلة ثلاث سنوات (1888م-1890م) ضمن ثمانية وعشرين عددا. وقد تولّى الدّكتور الحبيب العوّادي جمع وتحقيق ودراسة هذه الرّحلة تحت إشراف الدّكتور علي الشّنوفي لنيل شهادة الكفاءة في البحث من الجامعة التونسية سنة 1979 وتمّ نشرها بتونس سنة 2008. وقام الأستاذ عبد الجبّار الشريف جمع هذه الرّحلة وتحقيقها وتقديمها ونشرها أيضا سنة 1984.

وقد سعينا إلى مراجعة هذه الأعمال كاملة من جمع وتحقيق وتعليق مع جمع  ما نظمه ابن التلاميد بمناسبة الرّحلة وتحقيق قائمة الكتب. وسنكتفي في هذا المجال بنشر نصّ الرّحلة مجرّدا من الشروح والتعاليق تيسيرا على القارئ في انتظار نشر عملنا كاملا إن شاء الله.

العربية والكتب النّفيسة الإسلامية. وعيّنتني ترجمانا للمأمورية بأمر حضرة الوزير الخطير والفيلسوف الشهير عالم الوزراء ووزير العلماء صاحب الدّولة منيف باشا وزير المعارف العمومية. فأحببت أن أكتب شيئا من رحلتي هاته وما استكشفته من المشاهدات والآثار بتلك الديار قياما بواجب الخدمة وتقديما لفرائض الذّمة والله سبحانه وتعالى المسؤول في جعلها مظهرا للقَبُولِ إنه هو الوَلِيُّ الحَكِيمُ.

مبدأ الرحلة

      تلقينا الأوامر العلية اللاّزمة والتعليمات المقتضية من نظارة المعارف الجليلة وأخذنا في التّداركات السّفرية. فلما كان يوم الأربعاء المبارك الموافق تاسع عشر ذي الحجة سنة 1304هـ، بارحنا دار الخلافة العظمى على الصفة الآتية. وهي أننا قد مررنا بباب الكمرك الكائن في الجهة المعروفة (بسركه جي اسكله سي). وبعد أن تحرّى متوظّفوه أمتعتنا حسب القاعدة المعتادة نزلنا في القايق وذهبنا إلى الفابور المُسَمَّى (لموز) وهو اسم لنهر من أنهر فرانسا أحد فابورات شركة (بكيت). وهي شركة فرنساوية مركزها العمومي في مرسيليا.

وهي حديثة عهد التشكّل. وعِدَّةُ بواخرها اثنتا عشرة باخرة وأعمالها منحصرة في ممالك الدولة العَلِيَّةِ وجنوب الروسية وجمهورية أمريكا وحكومة المغرب الأقصى ومرجعها فرانسا.

     وكانت أوراق السفـر التي أخذناها من الآستانة العَلِيَّةِ إلى مرسيليا ذهابا وإيابا وقيمتها في ذلك 275 فرنكا ونهاية موعد الورقة أربعة أشهر فإذا مضت المدّة المذكورة احتاج المسافر إلى أخذ ورقة أخرى بأجرة ثانية.

       فركبنا الفابور المذكور ورأينا فيه من الانتظام ما وفّر لنا كمال الرّاحة في هذه السفرة وكان الفابور موسوقا بنحو مائتي ألف دجاجة فسألت عن موردها ومصدرها فتبيَّن لي أنها مشتراةٌ من الممالك المحروسة العثمانية بالأثمان الزهيدة التي لا تزيد عن خمسة غروش عن كل دجاجة بحساب المتوسط وتُحمل إلى مرسيليا فتُباع فيها الدجاجة بثلاثة فرنكات على الأقل وهذا النوع تحقق لي بعد أن وصلت إلى مرسيليا أنه أرخص فيها منه في باريز.

    وعندما ركبنا الفابور كان الهواء ساكنا لطيفا ومرآة الجو صقيلة جدا ومياه الخليج هادئة الروع والوقت وقت العصر والشمس مائلة إلى حيث الغروب.   

    فانطلق الفابور في الساعة الحادية عشر فسار بنا شرقا والشمس قد ذَهَّبَتْ بِنَيْرِ أصِيلِهَا قُنَنَ الجبال وعَصْفَرَتْ مناظر المباني الشاهقة.

     وما زلنا كذلك بين الشاطئين حتى استترت عنا غُرَّة الشمس وأشرق جبين القمر فانعكست أشّعته على بلور المياه بين الجبلين فشكّلت للعيون أبهى منظر وأبهج مخبر يقيم للقلب أعظم البراهين على تفرّد هذا الموقع في الكرة الأرضية.

     ولم نزل حتى أشرقت الشمس ونثرت دنانير أشعتها على البرّ والبحر كما قال الشاعر:

  [طويل] كَأنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ في كُلِّ غَدْوَةٍ ***على وَرَقِ الأشْـجَارِ أوَّلَ سَاطِعِ

         دَنَانِيـرُ في كَفِّ الأشَـلِِّ يَرُدُّهَا  ***لِقَبْضٍ فَتَهْوَى من خِلاَل الأصَابِعِ

وإذا بنا قد وصلنا بُوغاز الدَّرْدَنِيل والقلعة السّلطانية فلمحت ثمّة من الحصون والقلاع الحصينة ما يَسُرُّ الحبيبَ ويَسُوءُ العَدُّوَ ثم رأيت حصنا حصينا وسدّا متينا واستحكامات محكّمة شاهقة وقلاعا عاصمة مانعة ومُلْكًا كبيرا. وقد أخبرنيقَبُودَانُ الفابُور أن هذا الموقع مَعْدُودٌ أوَّلَ موقع في الدنيا من جهتي القوّة والتّحصين حيث أن قُوّتيه الوضعية والطبيعية من أعظم القوى. ثم قال وان كان جبل طارق يشاركه بعض مشاركة في ذلك إلا أن الدَّردَنيلَ يزيد عنه بأمور أعظمها أنّه المفتاح الوحيد بين أوروبا وآسيا ومنها أن أي دولة كانت في العالم لا تكاد تعبره إلا بعد خسارة ثلاثين مدرعة حربية حسبما تقتضيه القواعد البحرية، وذلك لما يشتمل عليه من القوّة الوضعية من المدافع العظيمة والتوربيد والقوّة الطبيعية وهي موقع البوغاز بين الجبلين العظيمين.

     ومتى تأمّل الإنسان يحكم بالبداهة على أن قوّة واحدة لا تعارض أربع قوّات منها ثلاث وضعية صناعية والرابعة القوى الطبيعية وهي شكله الموقعي.

      ثم رسا الفابور في السّاعة الرّابعة من يوم الخميس 20 ذي الحجة.

     والقلعة السلطانية تشتمل على مراكز حصينة. وهي مدينة لطيفة ذات مبان وآثار نافعة ومآثر جليلة منها القشلاق الموسوم بالحميديّة فانّه قشلاق هائل متين مشرف على البحر وفيه كثير من الجند العثماني وفيه يكون التّعليم العسكري. 

      ومن أعمال هذه المدينة الأواني الفخارية الناضرة التي تضارع الصيني في جودتها ورونقها. ولم أتمكّن من التجوّل فيها لعدم معرفة وقت السّفر. ثم إنّ الفابور ألقى ما حمله إليها واحتمل ما احتمل عنها من الرُّكَّابِ والبضائع وأخذ الرّخصة من الحكومة السَّنِيَّةِ كما هي العهود المقرّرة بين الدولة العليا والدول المتوادّة. وسافر منها في السّاعة العاشرة من ذلك اليوم وفي السّاعة الرّابعة من يوم الجمعة 21 ذي الحجة وصلنا إلى إزمير.  

إزمير

         عندما أقبلنا على مدينة إزمير استقبلنا مرساها البهيج بين جبلين عظيمين قد أحدقا بالبحر وهي كائنة على شرقي البحر ومرساها منتظمة جدّا بحيث ترسو الفابورات على ذات الرصيف أو قريب منه. وإذا نظرت إلى المرسى وجدتها مشحونة بالفابورات المختلفة الرايات مزدحمة بين راحل وحال وناقلة إليها وعنها، رُكَّابًا وبضائع بحيث يدل ذلك التزاحم على كثرة علائقها التجارية وكثرة تَرَدُّدِ التّجار والمسافرين.

      فإذا نزلت إلى الاسكلة رأيت شاطئا ممتّدا من الشّمال إلى الجنوب مشرفا على البحر من جهة، محدودا بالمباني الفائقة والدكاكين والقهاوي والأوتيلات  العامرة من جهة أخرى، وبينهما أي بين المباني والبحر تجري عربات السّكة الحديدية والترامواي والزّحام مُحْتَبِكٌ دائما وهذه المرسى من آثار حضرة السلطان المعظم عبد الحميد أيّده الله تعالى، فإنها من مآثر حضرته الحميدة.

    والمدينة كلها عامرة ناضرة وأهلها أهل تجارة وزراعة وفيها معامل أشهرها معامل التّين والزّبيب، ومنها يحمل إلى أوروبا. وفيها من الفاكهة خيرات كثيرة وفيها جريدتان تركيّتان إحداهما رسمية وهي جريدة (ايدين) وأخرى واسمها (خدمت) وفيها جرائد رومية وإفرنجية لم يمكني الإطّلاع عليها، وفيها مكاتب تركية ورومية وإفرنجية، وفيها ترقٍّ عظيمٌ في العلوم والمعارف وهي مركز ولاية (ايدين) وأكبر مدن الأناضول وأشهرها تجارة وثروة.

      وأقمنا فيها إلى السّاعة الحادية عشرة من يوم السّبت 22 ذي الحجة، وسافرنا منها يومئذ والبحر شديدُ الاضطراب هائجُ الرّياح، فجرى بنا الفابور بين تلك الاضطرابات المتوالية، والأمواج الهائلة مدّة يومين تقريبا حتى أن حال البحر منعنا الرّاحة والطّعام في أغلب الأوقات.

[ الوصول إلى مضيق مِسِّينا]

      ومازلنا كذلك حتى وصلنا إلى بوغاز (مسينا) وهو من ممالك إيطاليا فوصلنا إليه في الساعة الحادية عشرة يوم 25 ذي الحجة وهو بوغاز لطيف كائن بين جبلين خصبين متوسطين في الارتفاع والمجرى يأخذ من الجنوب إلى الشّمال مقدار ساعتين بسير الفابور.

    وكان مسير فابورنا في السّاعة الوّاحدة عشرة أميال. وأكثر الأشجار النّابتة في الجبلين أشجار ظِلِّيَةٌ غير مثمرة وليس في هذا البوغاز شيء من القلاع والحصون لعدم تعلّقه بحماية شيء من الأراضي. وهذا البوغاز يفصل بين إيطاليا وبين جزيرة (سيسيليا).

    وتوجد شركة فابورات صغيرة تشتغل بحمل الرّكاب والبضائع بين إيطاليا وبين الجزيرةمثل: الشّركة الخيرية المعلومة في دار السّعادة العلية.

    وهواء ذلك البوغاز جيّد نقي جدّا. ومدينة (مسينا) هذه هي مقرّ حكومة إحدى ولايات سيسيليا الخمسة ومقدار نفوسها مائتي ألف نسمة وهي من جملة مصايف إيطاليا وأوروبا عموما. 

    ثم تجاوزنا البوغاز المذكور وسرنا قاصدين مرسيليا فاستمر سيرنا مدّة ثلاثة أيّام تقريبا لا ترى سوى سطح البحر وفيه فيروز السّماء إلا أنّ لطف الهواء وركود الماء لم يسلب لنا راحة فلّما كانت ليلة الخميس 28 ذي الحجّة وحلّت الساعة الثّامنة تقريبا دخلنا الخليج المسمّى (كولف دوليون) بمعنى خليج الأسد وهو خليج مرسى مرسيليا مجراه من الجنوب إلى الشّمال، وهو خليج شديد الوعرة مضطرب الأمواج في كلّ وقت ولهذا سمّي خليج الأسد.

     وما زلنا نسير أكثر من ثلاث ساعات. وفي شروق يوم الخميس المذكور وصلنا إلى المرسى.    

مرسيليا

       هي في جنوب فرانسا على البحر المتوسّط ومرساها منتظم جدّا. وهي أوّل مدينة تجارية بفرانسا بعد باريس لأنها ممّر جميع البضائع التي تخرج من فرانسا إلى إيطاليا واليونان والممالك المحروسة،ودولة الروسيا وإسبانيا والمغرب الأقصى وسنقاليه والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والهند. وكمركها غنيّ جدّا. وقد وجدنا في ساحة الميناء يوم دخولنا نحو أكثر من ثلاثين فابورا تجاريا. ومراسي الفابورات فيها كمرساها في مدينة إزمير. والمدينة مربّعة الشّكل وعدّة نفوسها 000 350 تقريبا. ومبانيها شاهقة إلى خمس طبقات والأزقّة متسعة مرصوفة بالأحجار الصّلدة. وسعة الشوارع تختلف من خمسة أمتار إلى اثني عشر تقريبا وجميعها مستنير بالغاز سواء شوارعها وأزقتها فاللّيل فيها كالنّهار. وأحسن ما شاهدت فيها من المنازه العمومية المحلّ المسمى (كانبير) وهو مجمع عظيم يشتمل على قهاوي وأوتيلات ومباني ودور عديدة وبستان صغير وهو منتزه القوم.

         ومن معاملهم المشهورة: معمل الشمع، ومعمل الصابون، ومعمل آخر لاستخراج الزيت وهو قريب من المكان المسمّى (كورس بونابارت) وهو منتزه آخر من منتزهاتهم. وعلى مقربة من ذلك المكان ربوة عالية تسمّى (كولين بونابارت) بها أشجار ظِلّيّة عظيمة ومياه جارية تنبع من منابع عديدة فتجول في خلال هذا المنتزه. وهي مشرفة على المدينة وعلى البحر، ومنظرها بهيج لكن ليس بها مَبَانٍ الآن. والطّرق الموصلة إلى الرّبوة سهلة منتظمة بحيث لا تجهد الصّاعد ولا يصعد إليها إلا المشاة لتعذّر مرور العربات والخيول لوجود بعض درجات وانحناءات أثناء الارتقاء. والمنتزه في قُنَّةِ الرّبوة يُسمَعُ منه خريرُ المياه المنحدرة كالآلات المطربة ذات النّغمات المختلفة، وفيها عدّة مكاتب مهمّة عظيمة الفائدة منها: المكتب التجاري، وفيه تُدرس علوم التّجارة. وفيه يُدَرَّسُ اللّسان العربي، وله مُعَلِّمُونَ من نصارى الشام يهاجرون إليها رغبة في كثرة المرتّبات، وهذا يدلّ على أن فرانسا تهتم كل الاهتمام برواج تجارتها في البلاد العربية ورعاية منافعها بهذا اللّسان.

   وأهم الملاهي التي عندهم: الملهى الذي يسمّونه (شيرك) وهو محلّ تلعب فيه الخيل. وقد رأيت من التّنظيم وحسن تعليم الخيل ما يذهل النّاظر حتى إنّ الفرس يُحسن الرقص جدّا ويُخَيَّل للمتأمّل أن ذوقه للموسيقى لا يخالف ذوق الإنسان إلا بكون هذا ذوقه طبيعيّ في غالب الأشخاص والآخر ذوقه كسبيّ. وهنالك تظهر آثار التطبّع وإنّها لتضمحل بسهولة. وهي أن الحركات المعتدلة المشاهدة من الفرس في مثل هذا المقام ليست صادرة من تلقاء نفس الفرس وحده بل لا بدّ له من محرّك يوقظه لما يلزم من الحركات بضربات مخصوصة وهو الرّاكب أو المعلّم إذا كان الفرس غير مركوب، فلو فرضنا أن جاهلا بتلك الحركات والتعليمات ركب الفرس ما أتى بتلك الألعاب.

   وقد ترتفع أثمان هذا الخيل بحسب النّسل كعادة العرب بالمشرق المحفوظة بينهم إلى هذا الوقت. ويجعلون لكل فرس مشهور عقدا يذكرون فيه الأصل الذي ينتهي إليه. وقيمة الدخول إلى السّيرك من فرنك إلى خمسة فرنكات. والعادة عندهم تعطيل تلك الألعاب في أيّام الشّتاء وحينئذ يتبدّل السّيرك بالتياترو .

      وسكّان هذا البلد لهم اختلاط عظيم بالطّليانيين، ويُفْهَم من تزاحم الطّليانيين إلى هذا البلد أن أعظم تجارتهم هي الخدمة البدنية بأن ترسل من جزرها كجزيرة سيسيليا ومن جنوب إيطاليا وغيرهما أولئك العاجزين عن التكسّب في أوطانهم لكثرتهم فيها إلى أقطار أوروبا. وقد بلغ ذلك في هذا البلد إلى أن أقلق عدد المتزاحمين أفكار الوطنيين فإن عِدَّتَهُم تبلغ إلى أربعين ألفا، وإنهم ليزاحمون الوطنيين على الخدمات البدنية حتى إنّ الأمر قد يفضي إلى جدال وتناوش بين الجنسـين.

         ولما زادت رغبة الاعتناء بهم وعداوة الفقراء الفرنسويين لهم أن الخادم الفرنسوي لا يقنع بثلاثة فرنكات في اليوم، وأن الايطالياني يرضيه النصف من ذلك فبالطبع أن أرباب المعامل وأصحاب البناء والأشغال الكثيرة يُقَدِّمُونَ استخدام الايطالياني على بني وطنهم. وأولئك الطليانيّون يسكنون في محلّ مخصوص بهم معنون بأسمائهم، ومساكنهم قذرة فهم مضرّون لأهل البلد من جهتي التزاحم وجلب الأوساخ.

     وأقمنا بها يومين وكانت إقامتنا في أوتيل قريب من (كورس بونابارت) وفي السّاعة الثامنة من يوم 29 ذي الحجّة سافرنا منها (إلى بوردو) والطّريق من مرسيليا إلى (بوردو) مسير اثنتي عشرة ساعة بسير طريق سكّة الحديد وهو يقطع في كلّ ساعة سبعين ميلا.

[ الطريق إلى بوردو]

    والمحطّات عديدة وأغلبها على مدن وقرى عامرة كثيرة المسافرين والبضائع. وأقلّ المحطّات انتظاما يوجد فيها أوتيلات ولوكندات تكفي لمبيت المسافرين وراحتهم في المطاعم والمشارب، إلا أن الأسعار فيها مرتفعة بالنسبة لمراكزها.

     ومما يشوق الخاطر ويروق النّاظر إحاطة كافة سكّة الحديد بالأشجار الظِلّيَة من الجانبين بحيث لا يكاد النّاظر يتمكّن من الإحداق إليها مع جسامتها لشدّة الحركة والسّير. فتمرّ مرّ السّحاب وتَخْتَطِفُ الأبصَارَ اختِطَافَ البُرُوقِ، كلّ ذلك دلالة على نموّ العمران والترقّي في بلاد فرانسا.   

     ويوجد في أثناء الطريق بعض جبال اخترقتها يد الصّناعة بالقوّة الفعّالة، فمررنا من عدّة ثقوب أكبرها ما يستمرّ فيه سيرُ القطار مقدار ثماني أو تسع دقائق، وعليه فتكون مساحته أكثر من عشرة أميال. وأكثر الأراضي التي مررنا عليها من هذا الطريق أراضٍ فلاحيّةٌ، وأكثر أشجارها كروم العنب وهو من أعظم متاجر ذلك القطر. ولما وصلنا إلى (بوردو) ركبنا في فابور آخر وقصدنا مدينة (ايرون).

     ومدينة (بوردو) هذه وإن لم نتجوّل فيها إلا أنّنا نظرنا ما لاح لنا منها فإذا هي مدينة عامرة، لكنها دون مرسيليا جسامة وتجارة. وهي على الجنوب الغربي من باريس وشمال (ايرون) وكانت مدّة السير ستّ ساعات، وحال الطريق تنظيما مثل الذي سبق.

[ الوصول إلى أسبانيا]

       و(ايرون) هذه أوّل مدينة من مدن إسبانيا على حدود فرنسا فإنّنا لما قربنا منها وقف بنا الفابور على وادٍ فوجدنا محطّة إسبنيولية فركبنا الرّتل الإسبنيولي ودخلنا إلى (ايرون) وكان في المحطّتين المذكورتين حرسٌ وعساكرُ وما يلزم من رجال الحكومة من قبل كلّ من الدّولتين. ومدّة المسير من هذه المحطّة إلى المدينة كانت عشر دقائق تقريبا والحدّ الفاصل بين الحكومتين هو تلك المدينة وكان وصولنا إليها في السّاعة الواحدة بعد الزّوال من غرّة المحرّم سنة 1305هـ، ولم ننزل بها بل استمرّ بنا الفابور إلى مدينة (مدريد) فوصلناها بعد خمس عشرة ساعة تقريبا، ويقطع القطار في كلّ ساعة منها خمسين ميلا بخلاف سكّة الحديد بفرنسا وذلك لموانع طبيعية وهي كثرة الجبال المرتفعة والأودية المنخفضة وانحناءات الطّريق، فإنّنا قد مررنا من خمسة وثلاثين ثقبا بين (ايرون) (ومدريد)، أقلّ تلك الثقوب يقطعه الرّتل في خمس دقائق، وأعظمها ما يعبره في عشرين دقيقة وهي مسافة عظيمة تحت الجبال ذات خطر على الرّكاب والقطارات. فإنّ من المشهور عندهم الذي تلقيناه بالتّواتر عن الرّجال العارفين منهم أن جماعات من الأشقياء يتّفقون على توريط الرّتل فيأتون بالسّلاح والعُدَدِ والعديد إلى تلك الثّقوب العظيمة ويلقون أحجارا ضخمة على قضبان الحديد أو يقتلعون تلك القضبان نفسها حتى إذا مرّ الرّتل صادم تلك الأحجار أو غاص في الأرض فيقف وحينئذ يهجمون على الركاب فيسلبونهم ويقتلون من يمتنع منهم من التجرّد، والحكومة تحاول منع ذلك بالأسباب الفعّالة.

      والطّريق في تلك الجهات ممتدّ بين أراض فلاحية قليلة ذات خصب بالطّبع إلا أنّها محرومة من التّرقّيات الصّناعية لتقاعس الأهالي عن الجدّ والجهد الذي اعتاده الفرنسيون في أعمالهم الزّراعية والصّناعية.

سانـحة

      إذا تخلّل الإنسان بين هذه الجبال الشاهقة العديدة وتدبّر في أحوالها يظهر له جليّا أن هذه المواقع الطبيعية هي السّبب الذي أنقذ أوروبا من هجوم العرب على بلادهم. نعم إن العرب اخترقوا هذه الصعوبات وذلّلوا نواصي تلك الجبال الشامخة والموانع المستعصية حتى افتتحوها عنوة وقادوها قسرا ودخلوا ممالك فرنسا إلى أن وصلوا مدينة (بواتيه)، وهي على مقربة من باريس وهنالك وقعت المعركة العظيمة والملحمة المشهورة بين الخليفة عبد الرحمان الداخل وبين أمير الإفرنج (شارل مارتيل) وطالت الحروب بين الأمّتين واظطرّ العرب للانجلاء عن تلك الديار لعدم قعودهم على شدّة البرد ومقاومة أخطار الثلوج والمسألة مشهورة لا لزوم لإطالة الكلام عليها.

       والجبال المذكورة هي التي منعت العرب من التسلّط على شمال إسبانيا زمنا طويلا لأن حكم العرب لم يكن نافذا في تلك الأمم إلا باستناده على القوّة القاهرة وقصاراها عندهم الخيل والأسلحة الجارحة، وهي إنّما يتّسع ميدانها ويُمكن جولانُها في الأودية والسهول لا في الروابي والجبال.

مديـنة مدريـد

       كان وصولنا إليها ثاني يوم من المحرّم في السّاعة الرّابعة بعد شروق الشمس وريثما وصلنا إليها ذهبنا إلى دار السفارة العثمانية الكائنة في وسط المدينة على قرب من نظارة العدلية، وهي في غاية الانتظام. وفيها تلاقينا مع صاحب العطوفة طرخان بك سفير الدولة العثمانية، فرحّب بنا وأكرمنا وقدّمنا له الأوراق المتعلقة بالمأمورية، فاستعمل الحزم التام ودعانا إلى الطعام من تلك الليلة فمضينا ساعات كثيرة مع حضرته في مذاكرات علمية. ويتبين لي مما أبصرت وسمعت من أحواله وسيرته ومحاضرته في طول مدّة إقامتنا بإسبانيا أنه رجل من أجلّ علماء السّياسة وله معرفة تامة بالتاريخ وسائر الفنون، محبّ لتقدّم الدّولة، ممدوح السيرة، حسن الخُلق، كريم الطّبع، وقور محترم بين سفراء الدول العظام.

     أما مدينة مدريد فإنها كائنة في وسط المملكة الاسبنيولية وهي النّقطة المركزية بالنّظر إلى المواصلات العمومية إذ إليها ينتهي طريق كلّ مدينة من مدائنها، وتحيط بها صحراء عظيمة خالية من النبات. ومدريد قرية قديمة كانـت العرب تسمّيها (مجريط) كما أخبرني بذلك بعض المحققين في إسبانيا. ومما يؤيّد ذلك أني وجدت بعض الكتب منسوبة المجريطى واستَمَرّتْ قريةً حتى غيّرها الملك (فيليب الثاني) ابن الإمبراطور (شارلكان) فجعلها عاصمة مملكته منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. أما مبانيها فمنتظمة على الطَّرْزِ الاوروباوي، قد ترتفع إلى الطّبقة الثّامنة. وكلّ الأبنية بالأحجار ويوجد على أبواب كثيرة من الدّور والقصور نقوش متقنة ملوّنة مأخوذة من آثار العرب كما استفدناه من مشاهدة النّقوش العربية ببلاد الأندلس، إلا أنّ الأهالي زادوا عليها شيئا من الطَّرز الافرنجي بحسب تبدّل الذّوق والعادات.

   والطرق فيها متسعة جدّا ومرصوفة بالأحجار تختلف السّعة فيها اختلافا عظيما فربّما رأيتَ طريقا يتّسع جانباه إلى نحو الثلاثين مترا، ثم انتهيت إلى طريق آخر لا تكاد العربة الواحدة تمرّ منه. وهي كلّها منوّرة بالأنوار الغازية وليس فيها شيء من الآثار العربية. أما أهاليها فعلى غاية من اللّطف والبشاشة مع الأجانب إلا أنّ الفقراء فيها كثيرون جدا وإذا وجدوا أجنبيا أحاطوا به وربّما منعوه من المرور، وحالتهم سيئة جدّا. ومن الغريب أن الأوروبّاويين يعيبون علينا لوجود السُّؤّال في بلادنا والشحاذون عندهم أشدّ نكبة وأبرد قلبا مما هم عليه عندنا.

     وفي مدّة إقامتنا بهاته المدينة ذهبنا إلى المكتبة العمومية، وهي مباحة الدّخول لكلّ من أراد. وتشتمل على عدد عظيم من الكتب بأنواعها، وفيها خمسمائة كتاب عربي انتخبنا منها مقدار سبعة عشر كتابا يأتي تفصيلها في جدولها المخصوص. وهي أربع طبقات ومتسعة جدّا إلا أنّها مظلمة بحيث لا يكاد المصوّر الشمسي أن يأخذ رسمها. وتفتح هذه المكتبة ستّ ساعات في النهار ما عدا يوم الأحد والأعياد. ومديرها معتبر جدا في نظر الحكومة والأهالي، وقد زرناه في دائرته فوجدنا صور علماء إسبانيا المشهورين في محلّه، يزوره العلماء من كل جانب ويعظّمون تلك التماثيل، ومنها صورة (كرستف كولونب) مكتشف أمريكا

    وفي يوم 3 محرم زرنا دار التحف (الفلبينية) وقد صحبنا حضرة “نكولاي أفندي” مترجم السفارة العثمانية العَلِيَّةِ بأمر حضرة السفير. فذهبنا إليها وهي واقعة في طرف المدينة مما يلي شرقيّها بجوار منزه (ايزابيل) والدة الملك الذي افتكّه المجلس البلدي منها منذ عهد قريب.

    ودار التّحف هذه كائنة في حديقة مُربّعة الشّكل، مَحُوّطَةٌ أطرافُها بِدَرابُزَانٍ من الخشب ذات أبواب عديدة يدخلها المتنزّهون من الأهالي على اختلاف طبقاتهم مجانا، وتحته باب مخصوص موصل لدار التّحف نفسها يجب على الدّاخل فيه أن يدفع قيمة زهيدة تساوي نصف فرنك ويأخذ تذكرة من الباب.   فدخلنا من ذلك الباب ودفعنا القيمة المقرّرة ومشينا في طريق مستقيم بين الأشجار مقداره 20 مترا.

       ودخلنا إلى دار التحف، وهي عبارة عن دار مربّعة الشّكل ذات حجرات متعدّدة مُتْقَنَةِ النّظام والبنيان تختصّ كلّ حجرة منها بنوع من التّحف وكلّها مبنية بالأخشاب الطبيعية، فدخلنا جميعها وهي فوق الثَّلاثين. وكلّ ما فيها من تحف جزائر (فيليبين) التي هي إحدى مستعمرات إسبانيا في أستراليا وأكثر أهاليها مسلمون.

      وبينما نحن نتجوّل بها تلاقينا مع جناب ناظر معارف إسبانيا ومعه وزير الخارجية ووزير المستعمرات و(مسيو كيستلار) رئيس جمهورية إسبانيا قبل استيلاء (ألْفنش) الثاني عشر، فقدّمنا إليهم حضرة التّرجمان وعرّف كُلاّ مِنَّا بالآخر فلاطفونا كل الملاطفة، وسألونا عن أحوالنا ومأموريتنا. وكلّ منهم أثنى على السلطان المعظّم من تَعُهُّدِه هذه الآثار التي خلفها المتقدّمون للمتأخّرين، فدارت بيننا محاورة أدبية برهةً من الزّمان. ووزير المستعمرات هذا هو من مشاهير علماء إسبانيا وشعرائهم المجيدين.

   أما “كيستلار” فإنه قد نال من عموم المجتمعات العلمية في أوروبا أرفع نياشينها. وله باع طويل، واطّلاع عظيم في جميع العلوم لاسيما التاريخ والجغرافيا والإنشاء والشّعر. وله منزلة عالية في فَنِّ القصص والروايات الأدبية، وله مكانة عامة عند كبراء إسبانيا حتى يلقبّونه بالخطيب العام، لسمو اقتداره في الخطب. وهو رئيس أحزاب الجمهوريين وعضو مهم في مجلس الأمّة وهو مضر جدّا بالسياسة الملوكية، ملتهب الفكر، يريد بعلمه واقتداره اللساني أن يبدّد شوكة الملك ويؤيّد الجمهورية بما يسلكه من التّدرجات السياسية.   

     ثم إن حضرات أولئك الوزراء عرّفونا بمترجم جزائر (فليبين) العام وكان قد حضر إلى مدريد من بعض أيام قلائل وجاء معهم للتّجول في المتحف. والغريب أنهم لما عرّفونا به قالوا لنا: إنه يعرف اللّغة العربية المستعملة في جزائر (فليبين) فلما تكلّمنا معه تكلم بكلام لا ندري ما هو، يزعم هو أيضا أنه عربي وليس من العربية في شيء. ودار الكلام بيني وبينه بالفرنسوية فأخبرني أن هذه اللّغة هي لغة المسلمين في (فليبين) وأنه يعتقد أنها عربية. وأردت أن أسأله عن أحوال القوم هنالك فأخبرني أن جميع ذلك يعلم من هذا المتحف.

   ثم جلنا الحُجَرَ المذكورة، فرأينا أشياء كثيرة وجميعها من أراضي (فليبين) استحضرتها الحكومة وجمعتها في هذا المتحف. وهذه الآثار هي على أقسام عديدة: أجسام جميع الطيور والوحوش والحيوانات والهوام والدّواب مصبّرة باقية على حالها، والصّنائع. ومن ذلك رجال ونساء من أهالي تلك الجزائر يجلسون ويجلسن في حُجَرٍ مخصّصة للفرجة عليهم وهم مَرَبُّعُو القامة، لونهم يميل إلى لون الذّهب وشعورهم مُحْمَّرة تميل إلى الجعودة إلا أنّها فيهم أقل من السودانيين. وملابسهم التي رأيتهم بها ملابس إفرنجية. لكن لا أدري أتلك عادتهم في بلادهم أم الاسبنيوليون ألزموهم بلبسها، فإن كان الأوّل كان بعيدا وإن كان الثاني كان عجيبا. فإن مثل هذا المتحف يجب أن تراعى فيه سمات القوم اللهم إلا أن يكون ثَمَّةَ مُوجِب آخَر.

      أما الطّيور التي رأيتها فإنّي ما أعهد أمثالها فيما رأيت من البلاد. ومنها جارح وأهلي. وأما الوحوش فقد رأيت منها ما أعهده مثل بقر الوحش وغير ذلك. وأما الهوام فقد رأيت أنواعا من الثعابين منها ما يقتدر أن يبلع الهرّ.

      ثم خرجنا من المتحف للتّفرّج على قصر البّلور وهو كائن في نفس الحديقة على مسافة نحو العشرين ذراعا، كل بنيانه وسقوفه وجميع ما فيه من البّلور إلا أنه غير تام البناء ولذلك لم نتمكن من الصعود إليه. ومن المقرّر عندهم أنه سيتمّ على ثلاث طبقات ويُتَّخَذُ مَنْزَهًا عُمُومِيًّا. 

     وفي الرابع من محرم ذهبنا إلى ميدان الثّيران مع حضرة السّفير وترجمانه وتفرجنا على ما كان هنالك من الألعاب العجيبة والأحوال الغريبة، ولما كان أهل الميدان وألعابه من أهم ما يذكر عن مدريد فقد وجب علينا أن نأتي هنا على ما يشمل بيان كيفيته فنقول:    

ميدان الثيران في مدريد

     هذا الميدان كائن في وسط المدينة وهو على شكل دائرة محاطة بدرابزان من خشب، يجلس المتفرجون بأربع طبقات على الهيئة المعروفة (بأنفيتياتر) فجلسنا بالطبقة الأولى وكان عموم المتفرجين نحو العشرين ألفا على اختلاف الطبقات والمراتب إناثا وذكورا.

       وكيفية اللّعب أن يدخل إلى الميدان رجال من عشرة إلى خمسة عشر وهم ينقسمون إلى أربعة أقسام وكل منهم متدرّع:

   قسم بأيديهم قراطيسُ حُمر يستقبلون بها الثّور ليذهلوه لأن من عادة الثّور الوحشي أن يذهل من رؤية اللون الأحمر كما يذهل الأسد من النّار والفيل من الدّيك.

    وقسم بأيديهم خِرق قد نُسجت فيها أنْصُلٌ حادّة شديدة التأثير فإذا هجم الثور على أحدهم استقبله ضربا على عنقه أو ظهره فيؤلمه فيضطر للتأخير عنه.

    وقسم يركبون الخيل وبأيديهم رماح يطعنون بها وربّما أصاب الثور الفرس فيرفعه على قرونه ثم يلقي به وبفارسه إلى الأرض. وفي الأغلب فإن الفارس لا يصيبه من ذلك شيء لكونه متدربا على هذه الأعمال وفي غاية الخفة بحيث إن الثّور متى رفع الفرس على قرنيه وأراد أن يلقي به يثب فارسه إلى الأرض بدون أن يصيبه أدنى ضرر، غير أن الخيول التي يستعملونها في هاته الميادين خيول متوسّطة ضنّا بجيادها وأثمانها.

   والقسم الرّابع بأيديهم سيوف مصلّتة يهجمون بها على الثّور أو يدافعون بها عند الحاجة. 

     ويشترط على هاته الأقسام التعاون على قتل الثّور بالصّفة القانونية عندهم في عُرفهم وهي أن يقتل من نحره طعنا بالرّمح أو ضربا بالسّيف، ولا يجوز قتله بغير هاته الصفة مطلقا حتى أن الذي يقتله بكيفية أخرى يجازى بالسجن والغرامة، وتلك من نصوص قوانينهم المرعية. ولكل من قتل ثورا خمسة آلاف فرنك. وفي نظير ذلك لا تكون الحكومة ولا الجمعية مسؤولة عن دم أحد المبارزين إذا قتله الثور.

   ومن القواعد عندهم أن أولئك المبارزين يذهبون في صبيحة اليوم أوّلا إلى الكنيسة فيستغفر لهم القسيسون ويُلَقّنونهم الكلمات الدينية ويدعون لهم بالنّصر على الثيران ثم يأتون إلى الميدان، ويحضر هنالك مكاتبو جرائد الثيران وهي جرائد متعددة في مدريد لا تبحث إلا فيما يتعلّق بأحوال هذه المبارزة وكيفية جريانها، وأن المكاتبين المذكورين يحضرون في أثناء اللّعب وينقلون ما يرون في وقته وساعته ويرسلونه إلى إدارات جرائدهم بغاية السرعة بحيث إن المتفرجين لا يخرجون من هذا الملعب إلا وقد انتشرت الجرائد ويباع من عمومها آلاف كثيرة في ذلك اليوم.

     لكن أخبرني كثير ممّن لقيت أن لهم عادات واصطلاحات مخصوصة لهذه المبارزة يتوقف علمها على زمن مديد حتى إنّ الإنسان الأجنبي لا يمكنه أن يعرف مستعملات تلك الجرائد إلا بعد معرفة العُرْف والاصطلاح الخاصّ ولو كان عالما بلسان القوم.

    فإذا حضر المتفرّجون والمكاتبون والمبارزون على الصورة التي شرحنا متنها وفصّلنا بيانها جيء بالثّور من باب مخصوص. فإذا دخل الدائرة وشاهد المبارزين في وسطها يشتدّ غضبه ويهجم عليهم هجوم الأسد بل أشدّ من ذلك، ويخور في بعض الأحيان خُوارا هائلا فيفرون من بين يديه سراعا ويتظاهرون من فوق الدّرابزان حتى تسكن ثورة الثور ثم يعودون عليه وكل قسم يشتغل بأعماله. وهكذا يستمرّ الكفاح بينهم وبينه حتى يُقتل، ثم يُؤتى بغيره وهكذا يكون الشأن إلى أن ينتهي اللّعب.

     وفي اليوم الذي تفرّجنا فيه لم يمت أحد من الآدميين ولكن كسرت ساق أحدهم مع كونه مُدَرَّعًا بالحديد ومات اثنا عشر فرسا وأربعة ثيران ولم يحصل تلف غير هذا. وهذه المبارزة تكون هكذا في كل يوم أحد والثلاثاء والجمعة أيام الرّبيع والصّيف وأوّل الخريف حيث تكون الحرارة الشديدة في القطر الاسبنيولي، ويكون الثّور قويا هائجا بحسب غلبة الدم.

    أما إذا دخل فصل الشتاء فَتُعَطَّلُ ألعاب الثيران لضعفها وتُستبدل بأنواع التياتروات. وهذه الميادين والمبارزات لا تختص بمدريد فقط بل هي من القواعد المقررة في مدينة برشلونة وطليطلة وإشبيلية وبلنسية وقرطبة وغرناطة  وغيرها من مدن إسبانيا وقصبتها الكبيرة بل إن هذه الألعاب قد أثّرت في أهالي جنوب (فرنسا) القاطنين بحدود (إسبانيا) واشرأبت له الأهالي.   

     ونظرت الحكومة الفرنسوية إلى سريان هذا الداء في أهاليها فخشيت من تعميمه فقررت منعه منعا كليّا في بلادها وجعلته من الجرائم والجنح القانونية ومع ذلك لم تستطع منعه منعا كليا ولم يزل أهل الحدود في فرنسا يستعملون هذه المبارزات ويستحضرون إليها من يلزم من مبارزي الاسبنيوليين في كل عام وهذه المبارزة جارية جريانا كليا كذلك في حكومة (البرتغال).

   ومما استفدته من أحوال هذه الثيران أنها تُربّى في دوائر مخصوصة ورعاة مكلفين مدربين لا تنقاد إلا لهم حتى إنّ الثّور إذا تحقق الغلبة ويئس من مقاومة المبارزين واضمحلت قوّاه تأثر تأثرا شديدا وجرت دموعه كما يبكي الإنسان. وهو دليل على التأثرات القلبية عند الحيوان. ومنذ سنين جرت مكافحة في ميدان (بلنسية) بين الثّور وبين الأسد فقتل الثور الأسد ثم سُلِّط عليه نمر فقتله كذلك.

      وقد أخبرني بهذا قنصل الدّولة العلية بالبلد المذكور. ومما بلغ من التواتر عندهم أن هذا الثور لا يغلبه في الكفاح من الحيوانات إلا نوع (البلدق) من الكلاب لأنه دائما يحارب الثور من خلفه فَيُضطَرُّ إلى الفرار.

     ولقد سألت بعض الناس عن كيفية اهتمام الأهالي بهذا اللّعب واستعظمت تهافت الفقراء على حضور الملعب فأجابني بأن الفقير إذا لم يجد من الاستطاعة شيئا باع قميصه ودفع القيمة للدخول والتفرّج، وأن الحكومة لو أرادت أن تمنع الأهالي من التفرّج أو منع وجود هذه الألعاب لقامت ثورة عمومية في إسبانيا.

     وللمبارزين احترام عظيم بين الأهالي حتى بلغني أنهم يجالسون الكبراء ويخالطون الوزراء. واستدللت على صحة ذلك بما شاهدته من العربات التي ركبوها عند خروجهم من الميدان وإقبال الأهالي عليهم.

     ولقد سرى الميل إلى هذا اللّعب من الأصاغر إلى الأكابر حتى صارت من عادات الكبراء أن يحتفلوا باتخاذ ميادين خاصة لمبارزة الثيران. وتجتمع العائلات الكبرى وتتخذ ملعبا يبارز فيه أفرادها الثيران ويدعى إلى مشاهدته جمّ غفير من الأمثال والأقران. ومن عاداتهم في الميادين الخاصة أن بعض العظماء يقدّم أوراقا مالية تبلغ ألفي فرنك فصاعدا إلى أن يختار من المبرزين ليخطب بمديحه خطبة على الجمعية الحاضرة ويعدّون ذلك فخرا ومأثرة بينهم. 

   ونورد هنا ملاحظة لا تخلو من فائدة وهي أن هذه الألعاب قد أثّرت في أخلاق الاسبانيوليين شدّة وحماسة لتعودهم دائما على مشاهدة الدّماء وسفكها واستهان الخطوب وارتكابها. إذ ينشأ الاسبانيولي على حضور تلك الميادين ثلاث مرات في الأسبوع، ويرى المُقَاتَلاَتِ الشَدِيدَةَ وتهافت الناس على هذا الأمر الفظيع فتعتاد نفسه على مقاتلة أمثالها، ثم يصير لها ارتياح وميل إلى تقليد أربابها، وهذا أمر عام في الإناث والذكور. ولهذا لا تكاد إسبانيا تخلو من الشغب والقلائل لتعوّد النفس فيها على الاستهانة بالأمور.

     وهناك أمر آخر وهو أن هذه الألعاب تشغل ألوفا مُؤَلَّفة عن الأعمال ثلاث مرات في كلّ أسبوع. ولا يخفى ما يؤثره هذا التعطيل في الأحوال المدنية بأقسامها مادة ومعنى، إذ يتعطل الصانع عن صناعته والتاجر عن تجارته والمحترف عن حرفته.

   أما تأثيره في الأذهان فمهم جدّا، إذ يمنعها من الأعمال الراهنة من الاسترسال في تتبع العلوم والمعارف ولعل هذا هو من الأسباب التي حطّت درجة الاسبانيوليين في النّظر المدني والمجتمعات العلمية عن أوربا. وهو الذي منعها من استكمال دواعي الثروة العمومية. فإنك إذا حسبت مدّة التعطيل بهذه الألعاب في مدة ستة أشهر وجدتها اثنين وسبعين يوما. وإذا أضفت إليها أربعا وعشرين أحدا كانت ستة وتسعين يوما في كل مائة وثمانين ما عدا الأعياد الدينية التي لا تقل في تلك المدة عن أربع وعشرين أيضا. وعلى هذا لا يتفرّغ الأهالي لأعمالهم في مدة الربيع والصيف إلا ستين يوما وهو عبء عظيم على كاهل الأمّة مضيع من ثروتها الطبيعية والصناعية.

    هذا فضلا عما تفقده الأمّة من الخيل والرّجال ونفس الثيران، وما يتبع ذلك من المصاريف والأتعاب في تربيتها وتمرينها. فإن ذلك مضرّ بالاعتضاد المدني مهما كانت الحال.

    نعم إن إسبانيا تستفيد من ذلك شيئا واحدا في نظير هذه الخسائر كلها وهو تربية الشجاعة والإقدام. ومن المعلوم أن الشجاعة والإقدام أيضا لا يحسبان إلا إذا استعملتهما قوّة الحكمة بدون إفراط ولا تفريط. 

     ولما كانت مأموريتنا الإطّلاع على الكتب العربية في إسبانيا عرضنا على حضرة الشهم الهمام “طرخان باي” التماس المعاونة فأشار علينا بالذهاب إلى مدينة (السّكريال) أولا. ولكن لما كانت مكتبتها مكتبة خاصة يتوقف الدخول إليها على صدور أمر ملوكي استحصل لنا أمرا من جلالة الملكة يرخص للمأمورية الإطّلاع على الكتب العربية الموجودة هنالك.

  وفي 7 من المحرم أرفق معنا حضرة ترجمان السفارة وسافرنا من مدريد على طريق السكة الحديدية إلى السكريال.

السكريال

    وصلنا إليها في الساعة الحادية عشرة صباحا فنزلنا إلى المحطة، وهي محطة لطيفة بعيدة عن قصبة البلد بمسافة ميل وفيها بعض العساكر المسماة عندهم “قارد ناسيونال” أي الحرس الأهلي. وهي من قواعد إسبانيا العمومية في كافّة المحطات.

   وبعدما نزلنا لم نجد للركوب إلا عربات تشبه عربات الترامواي إلا أنها أصغر منها، وتركب من خلف يجرّها زوج من الخيل وليست على شيء من الانتظام ومجراها ليس على سكة حديدية وأجرتها تختلف. وعلى حافتي الطريق أشجار ظِلّية كبيرة، والأراضي التي رأيناها هنالك فيها نوع ما من الزراعة والبقول. ودخلنا القصبة وإذا شوارعها وبنيانها منتظمة انتظاما نوعيا حتى وصلنا إلى أهم أوتيلات البلد. وبعدما استرحنا به قليلا ذهبنا إلى أسقف كنيسة السّكريال فدخلنا إلى القصر المشهور بقصر (فيليب الثاني) وتلاقينا معه فرحب بنا. وأبلغه الترجمان أمر جلالة الملكة فأجاب بالقبول ورخص لنا في مطالعة الكتب. ثم أن الترجمان استأذن لنا في التفرّج على القصر من مديره الخاصّ وحضر إلينا في حجرة الأسقف وتلاقينا معه ثم خرجنا جميعا للتجوّل فيه.

    هذا القصر أسّسه الملك فيليب الثاني ابن القيصر شارلكان الشهير منذ أكثر من ثلاثمائة سنة وهو قصر عظيم هائل ذو أربع طبقات وفيه من بدائع الصنع و الإتقان ما جعله محلا لقدوم كثير من سواحي أوروبا وعلمائها فهم يفدون عليه في كل وقت ويكتبون عنه مشهوداتهم حتى صار التعبيرُ عنه عبارة عن تحصيل الحاصل. وهو الذي أوجب الشهرة التامة لقصبة الأسكريال على صغر حجمها وقلّة أهمّيتها في نظر إسبانيا فضلا عن أوروبا.

   وفي جدران القصر المذكور رسم غالب محاربات دولة إسبانيا سواءٌ كانت مع العرب أو مع غيرهم من الدول حتى إني رأيت بعيني رسم المحاربة المشهورة التي وقعت

في خليج (اللِّبِنْت) بين الدولة العلية وإسبانيا لكن هذه الوقائع مرسومة بكيفية لا تكاد توصف إلا بلسان المشاهدة.

    ومما يجب ذِكرُه أيضا الحجرتان اللتان بناهما فيه الملك (فيليب) المذكور فإن كل واحدة منهما تَكَلَّفَتْ في زمانه بخمسة ملايين فرنك.

   وهما حجرتان مستطيلتان، أبوابهما وحيطانهما وسقوفهما مُذَّهَبَةٌ مزينة بالنقوش وحلقات الأبواب والمفاتيح من الذهب والفضة.

   ومن ذلك قاعةُ الطعام فإن فيها مائدة تَسَعُ مائة وخمسين نفرا وهي في غاية الإتقان أيضا. ومن ذلك حجرة الملك الخاصة التي كان يستقبل فيها السفراء. وهي حجرة عادية وفيها مكتبته بأدوات الكتابة وكراسي السفراء كلّها من الأخشاب وكذلك كرسيه. وفي داخل هذه الحجرة حجرةُ نومه وهي صغيرة جدا لا تكفي إلا لسرير واحد، وفيها سريره الذي كان ينام عليه. فإذا رأيت القصر وما تحته من مظاهر العظمة رأيت ملكا مهابا. وإذا دخلت إلى حجرة النوم رأيت (فيليب الثاني) كان يدرس دروس الزهد على (ديوجين).

       وأما الكنيسة فإنها من آثاره أيضا. تحارب مع حكومة فرنسا في جهة البلجيك ونذر إن ظفر في حربه ببناء كنيسة عظيمة، فغلبها فبناها وصرف عليها أموالا عظيمة بدلالة إتقان بنيانها. وقد اتُخِذَتْ هذه الكنيسة مقبرة لملوك إسبانيا من عهد شارلكان المذكور إلى الملك المتوفى منذ سنتين.

     ثم مكثنا عشرين يوما نتصفح الكتب في المكتبة مدّة ستّ ساعات في كل يوم ما عدا يوم الأحد. وهذه المكتبة وإن كانت في ذات القصر إلا أنها تحت نظر الأسقف وكافة خدمها من القسيسين وهي متقنة جدّا وفيها 84000 مجلدا منها ألفان وكسور كتب عربية انتخبت منها 408 كتابا فانظر إلى الجدول في آخر الرّحلة.

   ومدة إقامتنا بالسّكريال وقع اجتماع المؤتمر العلمي بالكنيسة. وقد حضره أكابر علماء أوروبا وعددهم 250 نفرا. وبعدما فطر العلماء قام رئيس كل شعب وألقى خطابا علميا أدبيا سياسيا ثم افترقوا. وهذا المؤتمر يقع مرة في السنة بالكنيسة باستدعاء دولة إسبانيا للعلماء الأجانب على اختلاف الأجناس.

مُطَالَعَةٌ مُهِمَّةٌ

     يتبادر إلى كثير من الأذهان أن الكتب العربية الموجودة في هذه المكتبة هي من مخلفات أهل الأندلس بل إن كثيرا من السواح أكّد هذا الزعم فيما كتب من رحلته. وليس الأمر كذلك فقد أظهر لي التحري والتحقيق وكثرة المُحاورة والمُذاكرة مع أرباب الوقوف والاطلاع أن الاسبانيوليين لما ملكوا الأندلس أشار عليهم رؤساء الأديان بحرق الكتب الإسلامية لا سيما الدينية. فكانوا كلما تمكنوا من بلاد أحرقوا كتبها إلا ما بقي عند بعض الأفراد، وأن هذه الكتب هي من كُتُبِ زيدان أمير المغرب كان اشتراها من المشرق وبينما مأموروه قد قدموا بها إذ فاجأتهم سفن إسبانيا الحربية قريبا من بوغاز سبته (جبل طارق) فغلبتهم وغصبت هذه الكتب، وأحضروها إلى الملك (فيليب) فأنشأ هذه المكتبة ووضعها فيها. فهي في التحقيق من كُتُبِ حكومة مَرَّاكُش لا الأنـدلس. والذي يـدل على صحة ما ذهبت إليه ما شاهدته مكتوبا في أغلب الكتب من أنها مِلْكُ الأمير زيدان المذكور .

    ومما أطلعنا عليه القسّيسون أنواعا من النقود الإسلامية منها ملوك الأندلس إلا أنني لم أستطع قراءتها. ومنها نقود من الفضة مكتوب في الوجه الأوّل ثلاثة أسطر الأوّل: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ. والثاني: الأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ. والثالث: لاَ قُدْرَةَ إلاَ بِاللهِ.     

 وفي الوجه الثاني أيضا الأوّل: الله رَبُّنَا، والثاني: ومُحَمَّدٌ رَسُولُنَا، والثالث: والهَادِي إمَامُنَا. والظاهر أن هذه النقود هي من سكة الخليفة العباسي موسى الهادي إذ ليس في الخلفاء من تلقب بالهادي غيره.

    وفي السابع والعشرين من محرّم عدنا منها إلى مدريد لأخذ الأوامر اللازمة لعُمَّال البلاد واسترحنا مدّة وجيزة. وفي غرّة صفر توجهنا من مدريد مع حضرة الشهم الهمام طرخان باي إلى طليطلة وهي على مسافة ثلاث ساعات من مدريد بسير (الشّمندفير) والطرق خصبة ذات مزارع يتخللها بعض الربوات.

طُلَيْطِلة

    هي مدينة كائنة على ربوة يحيط بها بعض المزروعات والغابات والربوات. وهي في الجنوب الغربي من مدريد، ويشقها نهر التاج  وهو مختلف العرض بين العشر والأربعين مترا إلا أنه قليل العمق لا يساعد على سير السفن ما عدا القوارب الصغيرة المعدة لصيد الأسماك. وعليه جسر يمرّ عليه الداخلون إلى البلد وأمام القنطرة باب عديم قديم لم أر عليه شيئا من الآثار يمكن الاستدلال بها على الباب. 

    وهذا الجسر مبني بالأحجار العظيمة محكمة البنيان يبلغ طولها إلى 25 مترا وعرضها 4 وهي من آثار العرب الباقية. أما الباب المذكور فقد سألت عنه كثيرا من الأهالي فبعضهم يقول من آثار العرب وبعضهم يقول من آثار الرّومان.

     وهذه المدينة ضيّقة الأزقة أكثر بنيانها غير مرتفع وطرقها ليست منظمة حتى إن الأحجار التي كانت مرصوفة بها في عهد العرب لم يبق منها إلا القليلُ المضمحِلُّ ولم يعتن الاسبانيوليون بها. وليس فيها من آثار العرب إلا الجسرُ المذكور، والباب المختلف في بنائه، وحصن على ربوة كائن أمام الجسر قد انهدم بعضه، ومسجد جُعِلَ بيعة لليهود عند استيلاء الاسبانيوليين على طليطلة، ثم جُعِلَ كنيسة للنصارى مدّة ثم حفظه الله فعاد إلى حالته الأولى وهو الآن يزوره السواحون.

ثم إننا دخلنا فيه فلم أر شيئا من الكتابة ما يدلني على الباني ولا على تاريخ البناء. والقصر الذي كان لابن هود على ما أظّن ذهبنا إليه للتفرّج والزيارة. وهو على ربوة مرتفعة يكشف على النهر والبلد، شاهق العلو وقد أصابه الحريق منذ سنة فأتلف كثيرا من مبانيه. وقررت حكومة إسبانيا صرف مليونين فرنك لإعادة ما تلف منه إلى ما كان عليه.

      وفي صحن هذا القصر تمثال الإمبراطور (شارلكان) من نحاس مرتفع على قاعدة من النحاس أيضا مكتوب على إحدى جهات تلك القاعدة باللّغة الاسبانيولية: “يَجِبُ أنْ أُقِيم بإفرِيقيَا أو أَدْخُلَ مَدِينَةَ تُونس عَنْوَةً”  وفي الجهة الأخرى خطاب لجنوده: ” إذَا رَأيْتُمْ سُقُوطَ فَرَسِي في الحَرْبِ لا تَلْتَفِتُوا إلَيهِ وإذَا رَأيتُمْ هُجُومَ العَدُوِّ على عَلَمِي فَحُومُوا حَوْلَهُ”. وحول التمثال المذكور أربعة مدافع صغار أخبرني بعض الضباط الذين كانوا معنا أن شارلكان أخذها من تونس مدة حربه مع الحفصي.  

         وعدة أهالي طليطلة سبعة عشر ألف نفس وكان عددهم أيام العرب مائتي ألف كما صرّح به بعض مؤرخي الإفرنج

    ثم إننا ذهبنا مع حضرة السفير المشار إليه إلى العامل وأطلعنا على أمر الملك وأمر نظارة المعارف. وكان مُصَرِّحًا في هذا الأخير بوجود كتب عربية والترخيص لنا في النظر إليها. فأشار العامل علينا بتفقد المكتبات فذهبنا وتحرينا فلم نجد أثرا فيها للكتب العربية. وهذا من العجيب. إنّ نظارة المعارف هنالك تحسن تفقّد كتبها وقد سألت قسيسا هو ناظر إحدى المكتبات عن سبب فقدان الكتب العربية فأخبرني أن نابليون الأوّل لما حارب إسبانيا واستولى عليها أخذ أغلب الكتب ونقلها إلى باريس وما بقي منها في المكتبات تناوشته أيدي الغوغاء في أثناء الثورات المتوالية التي حصلت في البلدان. فكلما حصلت ثورة انتهبت تلك الكتب وحرق بعضها إلى أن تلاشت بالكلّية.

    ومما يجب ذكره عن طُليطلة معمل الأسلحة البيضاء كالسّيوف والخناجر وغيرها فإنه معمل عظيم جدا كائن في ظاهر المدينة. ومعمولاته مرغوبة في جميع الأقطار حتى إنّ الخنجر الذي يكون من معمولات فرنسا إذا كان يساوي فرنكا فإن الخنجر الذي يصنع في هذا المعمل يساوي عشرين فرنكا. والذي بلغني أن لنهر (التاج) المذكور تأثيرا عظيما على الحديد.

     وفي الثاني من صفر رجعنا إلى مدريد للسفر منها إلى إشبيلية وذلك لعدم وجود خطوط حديدية بين طليطلة وإشبيلية. وبعدما عدنا إليها اخبرنا ترجمان السفارة أن هناك بعض العلماء من أعضاء المجلس العلمي عندهم كتب عربية. فذهبنا إليهم فإذا اثنان منهم قد سافر أحدهما إلى لندرة بمأمورية لا أعلمها، والثاني إلى تونس وسبب ذهابه إليها هو أن الحكومة بلغها وجود كتاب ألّفه بعض العلماء المتقدّمين من التونسيين فيما يخصّ الحروب التي جرت بين شارلكان  والحفصيين فعينته مندوبا للمجمع العلمي حنى يطّلع على ذلك الكتاب. ووجدنا الثالث فرحّب بنا وأرانا مكتبته ووجدنا فيها بعض كتب عربية إلا أنها ليس من الغريب في شيء، ثم إنّ هذا الرجل أخبرنا بإمكان وجود كتب عربية في مكتبة (الاكدمي) فذهبنا إلى دائرة هذا المجمع العلمي فرحب بنا أعضاؤه وأكرمونا وبحثنا في المكتبة فلم نجد شيئا من الكتب العربية إلا بعض أوراق اطلعت منها على حجة بيع بعد زمن الاستيلاء يقول فيها: اشترى فلان من فلان على مقتضى شريعة عيسى عليه السلام… فدلنا ذلك على أن إسبانيا لما دخلت بلاد العرب ألزمت الأهالي بترك الدّين قسرا.

     ثم أطلعنا العلماء على آثار عتيقة من آثار الرومان والعرب. وفي صدر المجلس  صورة الملك شارل الخامس، وهو الذي أسس المجمع العلمي المذكور(الأكدمي)  وهذا هو مجمع التاريخ والجغرافية.

     وثمة مجامع علمية لقرى متعددة كمجمع اللّغة والطب والعلوم وغير ذلك. وكل مجمع في مدريد له شُعَبٌ في سائر الولايات ومرجع الجميع لنظارة المعارف.     

    وفي الخامس من صفر سافرنا من مدريد إلى إشبيلية، ولما كان السفر ليلا لم أستطع كشف الطريق غير أنني تحققت أن ليس ثمة تقوب في الجبال. فلما أصبح الصباح رأيت الطريق يخترق مزارع الزيتون وهي كثيرة جدا إلا أن خدمتها قليلة بالنسبة لخدمة الزيتون بتونس فوصلنا إليها في ست عشرة ساعة.

إشبيلية

   هي مدينة كائنة في جنوب مدريد يحيط بها بسيط من الأرض ذو زرع وحدائقَ وبساتينَ، ويمر بجانبها نهر الوادي الكبير ولم يزل يسمّى هكذا إلى الآن باللّغة الاسبانيولية. والمدينة حسنة المنظر، لطيفة البنيان، لا تتجاوز مبانيها ثلاث طبقات على حسب الطّرْزِ العربي. ويخيل لي أن الاسبانيوليين قلّدوا في بنيانهم العرب. وأزقتها مرصوفة بالأحجار إلا أنها ضيقة وربما تَعَسَّرَ السَّيْرُ لرَجُلَيْنِ عرضا في آن واحد ببعض الأزقة. ويوجد فيها جَادَّاتٌ متسعة من الطّرز الجديد، وكلها منوّرة بالأنوار الغازية، وعدّة نفوسها 000 180 نسمة. وفي وسط المدينة منارة  عمومية متعددة. وهي عبارة عن بطائح متسعة فيها كثير من النخيل يجتمع إليها الناس في أوقات الفُسحة.

          وأما الآثار العربية الباقية بها هي منارة طولها ثلاثون مترا وعرضها أربعة، وصحن مسجد قد صار مسجده كنيسة والقصر.

قصر إشبيلية

     هذا القصر دخلناه وجلنا فيه، فإذا هو نُزْهَةٌ للنّاظرين وعبرة للمتفكّرين. إذا رأيته استقبلك بالبشر والإستيناس وإذا استخبرته ناداك: ” وتلك الأيام نُداولها بين النّاس”. وإذا تذكرت حال الأوائل تمثلت بقول القائل:

  كَانُوا بُدُورًا وكُنَا في مَنَازِلِهِمْ              نَهوَى حِمَاهِمْ ونَرْجُو أن نُنَادِمَهُمْ       

فَلَيتَ شِعْرِي إلى أيِّ القُرَى ظَعَنُوا           “فأصبَحُوا لا تُرَى إلا مَسَاكِنَهُمْ               

     وهذا القّصر كائن وسط بستان عظيم يشتمل على أنواع من الأشجار ذات الظلّ والثّمر كالنّخيل والبّرتقال وأنواع الزهور والورد، كما قال:

يا أَخِي قُمْ تَرَ النَّسِيمَ عَلِيلاَ                  بَاكِرِ الرَّوْضَ والمُدَامَ شُمُولاَ

في رِيَاضٍ تَعَانَقَ الأيْكُ فِيهَا                مِثْلَمَا عَانَقَ الخَـلِيلُ الخَلِيلاَ           

لا تَنَـمْ واغتَنِمْ لذَائِذَ يَومٍ                    إنَّ تَحتَ التُّرَابِ نَوْمًا طَوِيلاَ

      وفيهِ بِركٌ وغُدْرَانٌ متعددة على أحسن ما يكون من النظام وجمال المنظر، وعليها مقاعِدُ ومجالسُ ملوكِ إشبيلية. وساحة القصر مرصوفة بالمرمر الأبيض، وهو مرفوع على عمد من المرمر، وفيه حجرات متعددة. وجميع الحيطان والسقوف والأبواب والشبابيك مُزَيَّنَةٌ بأنواع النّقوش المحكمة ومطلية بالذّهب.

    ثم ذهبنا إلى المكتبات فوجدنا فيها الكتب العربية نحو عشرين كتابا انتخبنا منها ثلاثة كتب ستأتي في الجدول المخصوص.

   وفي الثامن من صفر الخير سافرنا منها على طريق الحديد إلى غرناطة، وكان الطّريق إليها سهلا تحفّ به مزارع كثيرة أعظمها الزّيتون.

غرناطة

       هذا البلد على الجنوب الغربي من مدريد. كان بسهل متّسع يحيط به ربوات مُشَجَّرَةٌ. وعدد نفوس أهاليها الآن 60 000 نفس ما عدا الخرابات الباقية والطلول البالية التي يشاهدها المتأمّل حول البلد وهي تزيد على النصف المعمور منها. وبنيانها وهيئة شوارعها متقنة غير أن الطرق فيها أغلبها غير مرصوف بالأحجار. والأنوار الغازية فيها قليلة بالنسبة إلى مدريد وغيرها. ولما وصلنا إليها ذهبنا إلى أحد الأوتيلات وهو مخصوص بسُوَّاحِي الأنكليز الذين يأتون دائما لتبديل الهواء وزيارة الحمراء  لما هو معلوم من جودة هواء هذه المدينة.

        وفي الغد توجهنا لملاقاة العامل وسلمناه رقيم وزير الخارجية، فرحب بنا ثم كتب أمرا إلى معلّم اللّغة العربية بغرناطة وأحد أعضاء جمعية العلوم (أكديمي) يأمره أن يلازمنا ويطلعنا على ما يمكن الإطلاع عليه من الكتب العربية. فتلاقينا معه وبدلالته بحثنا في المكتبات فلم نجد إلا نحو أربعين كتابا، انتخبنا منها سبعة تنظر في محلها من الجدول المخصوص.

     ثم ذهبنا لزيارة قصر الحمراء وهو من أعظم القُصور الأُوَلِ التي أقلتها الغبراء، وأظَلَّتها الخضراء. وهو كائن على ربوة عالية به حصون عظيمة، وله سور يحيط به من جميع جهاته. وهذا السور تحيط به أشجار ظليّة ومياه جارية بواسطة أنابيب الحديد التي مدّتها العرب واستجلبت بها المياه من رؤوس تلك الجبال، ولها خرير عظيم بحيث يؤثر على من جاورها من السكان، وربما منع غير المتعود عليه من النوم.

     وتفصيل الحمراء شيء لا يسعه هذا المختصر بل يجب أن يفرد بجزء خصوصيّ. فإن السوّاحين الذين يفدون لزيارته في كل يوم أزْيَدُ من مائة سائح، وأكثرهم من الأنكليز. وكل واحد منهم يكتب شيئا أسْهَبَ أو أوْجَزَ. وزد على هذا ما بين رسائل منشورة وكتب سياحات مشهورة متداولة بين ذوي العلوم والمعارف في كل الدّيار.

    فكذلك لا يصحّ أن أتعرض له في هذا المختصر لخروجه عن موضوع الرّحلة. ولكن أقول: إن الإفرنج على اختلاف طبقاتهم في العلم وحرصهم على الاقتصاد لا يمكن أن يُفْنِي الرّجل منهم وقتا أو يصرف درهما في سياحة ما لم تعد عليه بفائدة مادية أو معنوية. فتهافتهم على زيارة الحمراء بهذه الدّرجة يعلن لمن تبصّر مقدار أهميتها في العالم المدني ويُبَيِّنُ مقدارَها لدى المجتمع الصناعي.

      وما يؤيّد ما ذكرت أنني شاهدت جملة من المُصَّوِرِينَ قد اتخذوا لهم مكانا مخصوصا على مقربة من باب لا يشتغلون إلا بتصوير قطعات من القصر. كل قطعة تساوي من أربعمائة فرنك إلى خمسمائة وستمائة فرنك. وربما بلغت قيمة القطعة الواحدة إلى ألف فرنك. أما ما يساوي منها دون الأربعمائة فرنك فلا عبرة به وهو نادرُ الوجود. وهؤلاء المصوِّرون كلهم أولو ثروة وغِنًى بهذه الأعمال. فَلْيُتَأَمَّلْ إلى العلم والصناعة كيف عاش بمجرّد تصويرها قوم لم يكونوا لذويها في حُسبان وما أحسن أن يُنْشَدَ هنا قولُ القائل:  

      فَتَى عِيشَ في مَعْرُوفِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ*** كَمَا كَانَ بَعْدَ السَّيلِ مَجْرَاهُ مَرْتَعَا                

    وقد نشر أحد العلماء الفرنسويّين كتابا عظيما ضخما في هذه البلاد وغيرها سمّاه “تَمُدُّنُ العَرَبِ“، طبعه بباريس واستوفى الكلام فيه على قصر الحمراء تحريرا وتصويرا فمن شاء أن يطلع على أهميته فليراجع ذلك أو ما شاكله. ولم أختر أخذ شيء من الكتب الإفرنجية أو العربية لخروج موضوع الرحلة من غير المشهودات.

       ثم إنني أنقل مجرى الكلام إلى بعض ما رأيت من قصر الحمراء على سبيل الإجمال حتى لا تخلو أسطرُ رحلتي من هذه الفائدة بالكلّية.

      فأقول: إن قصر الحمراء محاط بسور عظيم كما قدمنا. وبابه باب عظيم يبلغ طوله نحو 15 مترا في عرض خمسة أمتار مبني بالأحجار الضخمة الصماء التي لا تستطيع الأيام بِحَرِّهَا والليالي بمرّها هدمه ودائرته جميعها من المرمر الأبيض الصافي، وخشب الباب المذكور على ما أظن من الصنوبر ذو نقوش وهو مِصْرَاعَانِ عظيمان. فإذا تأملت وجدت لوحا عظيما من المرمر في أعلى الباب مكتوبا عليها بالخط الكوفي “أَمَرَ بِبِنَاءِ هَذَا البَابِ المُسَّمَى بِبَابِ الشَرِيعَةِ أبو عَبْدُ الله مُحَمَّد ابن يُوسُفَ ابن الحَجَّاجِ الخَزْرَجِّيِ“. والكتابة جَليّة منقوشة جغرافية ولونها أبيضُ. فإذا دخلت منه دخلت إلى دهليز أرضه من اللَّبِنِ وحيطانه من الحجر، وعلى الجانبين مراكز السيوف والرماح للحرس الملوكي الخاصّ.

     ثم إنك تنتهي بعد جواز الدهليز إلى بطحاء من الأرض ذات ظل وشجر ومنظر بهيج، تستقبلك بالوجه الوسيم، وفيها قصر الحمراء على ما يأتي بيانُه. وأما قصر شارلكان فإنّه على شرقيّهِ.

      وهو قصر عظيم أيضا مبني بالصخور الجسيمة، منقوش عليها جميع الآلات والأدوات العربية والاسبانيولية وآلاتُ الطرب وما شابه ذلك. بناه شارلكان ليضارع به الحمراء وهو يومئذ ملك إسبانيا وإيطاليا وقيصر النمسا وألمانيا وعدّة ولايات من أمريكا. وهو الذي حارب  “”فرنسوا الأوّل” ملك الفرنسيس وغلبه، ثم استـعان على الأخذ بالثأر منه بالسلطان سليمان الثاني. هذا كله تيسر له ومع ذلك لم يُوَفَّقْ لتتميم قصره، وبقي ناقصا بما يشهد لملوك الأندلس بكمال الاقتدار على ممر الدهور والأعصار.

     ثم إذا تجاوزت البطحاء وقصر شارلكان جزت إلى باب يسمى “بابَ السلاطين“. وهو باب عادي الطول والعرض مبني بالأحجار والمرمر مكتوب على مواجهته: “باب سلاطين” في لوح من المرمر الأبيض فتجوزه إلى بطحاء ثانية، على يمينك قصر الحرم، وعليه سور فاصل له باب عظيم طوله نحو عشرين مترا وعرضه ثلاثة أمتار. وعلى يسارك قصر السفراء الذي كان ملوك غرناطة –عليهم رحمة الله- يستقبلون فيه سفراء الدول. وله سور فاصل فيه باب عظيم، وبين السورين المذكورين حوضٌ عظيم من المرمر الأزرق طولُه فوق الثلاثين مترا وعمقه نحو المتر  فأكثر والماء يصبّ إليه بأنابيب الحديدِ، تحيط به أشجار ظِلّية إلا أنها حديثة عهد.

     وفي ذلك الحوض أسماكُ المرجان أعلمنا مسيو (سيموني) أنها من نسل الأسماك التي تركتها العرب. وفي مقابلتك سورٌ آخرُ عظيمٌ محكمُ البناء ومُتْقَنُهُ. وبكل جهة من هذه البطحاء قصيدة مكتوبة بالنقش البارز بالخط الكوفي، نقلت منها ما استطعت ولم أقتدر على استكمالها من تأثير الزمان في بعضها حتى محيت وهذا ما استطعت نَقْلُهُ:

قال الناظم رحم الله الممدوح والمادح :

        تَبَارَكَ مَنْ وَلاَّكَ أمْرَ عِبَادِهِ            فَأولَى بِكَ الإسلامُ فَضلاً وأنْعَمَا

      فلو خُيِّرَ الإسلاَمُ فِيمَا يُرِيدُهُ           لَمَا اخْتَارَ إلا أَنْ تَعِيشَ وتَسْلَمَا

      وفتَحتَ بالسَّيفِ الجَزِيرَةَ عَنْوَةً         ففَتحتَ بَابًا كَانَ للنَّصْرِ مُبْهَمَا                   

     فيا ابنَ العُلَى والحِلْمِ والبَأسِ والنَّدَى       ومَنْ فَاقَ آفَاقَ النُّجُومِ إذا انْتَمَى

     ثم عطفنا على قصر السفراء ودخلناه فإذا قاعة كبيرة مربعة الشكل تَسَعُ  أكثر من مائة وخمسين نفسا، شاهقة العلو، جميعُ حيطانها من المرمر الأبيض المخلط بالأصفر، والأرض مرصوفةٌ باللَّبِنِ المطلي الملون.

    وفي صدر القاعة مجلس مرتفع في طول أربعة أمتار في ارتفاع نصف متر تقريبا. وفي جانبي تلك القاعة حجرتان صغيرتان، وسقف القاعة قبة مرتفعة محكمة جدّا وبين منتهى الحيطان ومبتدإ انحناءات القبة طاقات منتشرة على شكل النجوم، مزينة بالبلور الصافي المتين. وكل الحيطان وباطن القبة مُزَيَّنٌ بالنقوش البارزة ذات الأشكال العجيبة الدالة على ما كان للدولة الإسلامية من الاقتدار الصناعي العظيم، بحيث إنك إذا تأملت في هذه النقوش جزمت حالا بأن العلم والصناعة بلغا الدرجة الأولى في بلاد الأندلس، وأن الثروة والعظمة كانتا عندهم في سعة من الزمان، ولكن الدَّهر أثّر على الطلاء الذهبي فأباد جلّه وأبقى أقَلَّهُ. وهكذا الدهر يأتي على كل أثر، ويُعْقِبُ مبتدأ كل نعيم بخبر. وفي كثير من جهات القاعة مكتوبٌ بالقلم الكوفي البارز هذه العبارات: ” لا إلَهَ إلاَّ الله” و” لا غَالِبَ إِلاَّ الله” و” الغِبْطَةُ المُتَّصِلَةُ” و” النَّصرُ والتَمْكِينُ والفَتْحُ المُبِينُ لِمَولاَنَا أمِيرُ المُؤمنين”. وهذه العبارات مكررة مرارا في الجدران. وفيها قصائد مكتوبة بالخط الكوفي أيضا منقوشة في المرمر نقشا بارزا لم أستطع قراءة جميعها لعلوها وارتفاع القبّة ولاضمحلال بعض الخطوط الغريبة.

     ولكن أورد ما قدرت على قراءته. من ذلك أبيات من قصيدة يقال إنها من نظم مأمور بناء قصر الحمراء يقول في مطلعها:

      أُبَاهِي مِنَ المَولَى الإمَامَ مُحَّمَدٍ *** بِأكْرَمَ مَنْ يَأتِي ومَنْ كَانَ مَاضِيَا 

      تَبِـيتُ لَهُ حَرَسُ الثُّرَيَّا مُعِيذَةً  *** ويُصْبِحُ مُعْتَـلُّ النَّـوَاسِمِ رَاقِيَا                        

ومنها:

     وَهَا أنَا يا مَوْلاَيَ فامُرْ بِخِدْمَةٍ  *** وَمَنْ خَدَمَ الأَعْلَى استَفَادَ المَعَالِيَا               

     ومنها:

        وكَمْ مِنْ بِنَاءٍ في ذُرَاهُ تَرَفَّعَتْ *** على عُمَـٍد بالنُّورِ بَاتَـتْ حَوَالِيَا                      

       ومنها:

     وتَهْوَى النُّجُومُ الزُهْرُ لو ثَبَتَتْ بٍهَا*** ولَم تَكُ في أُفْقِ السَّمَاءِ جَوَارِيَا               

      بِهَا المَرْمَرُ المَجْلُوّ قَدْ شَقَّ نُورُهُ *** فَيَجْلُو مِنَ الظَّلْمَاءِ مَا كَانَ دَاجِيَا                

       ومنها:

      ولَمْ أرَ رَوْضًا مِنْهُ أَنْعَمَ غُصْنُهُ*** وأَعْطَرَ أَزْهَارًا وأَحْلَى مَجَـانِيَا

    وفي الحقيقة إنّ عبارَات هذه الأبيات تدل على أن لناظمها وظيفة وارتباطا ببناء القصر. واكتفينا من هذا المنظر العظيم بهذا القدر الزهيد، وخرجنا من البطحاء المذكورة ودخلنا من الباب الذي ذُكر فيما تقدّم فوصلنا إلى منظر بهيج، ومنزه عجيب، ترك ما رأيناه في درجة ثانوية من الاهتمام.

    فإنك متى دخلت من الباب خرجت إلى فُسحة مربعة على أربعة صفوف من عُمد المرمر الأبيض، وطول كل عمود نحو الخمسة أمتار. وتلك الفسحةُ محكمةُ البناء، والأرضُ مرصوفةٌ من الحصباء، وهكذا جميع أرض البطحاء. فإذا جزت الفسحةَ استقبلك حوضٌ من المرمر الأبيض مربع الشكل عمقه نحو ذراع وطوله ثلاثةُ أمتار في مثلها من العرض، وهو محمول على اثني عشر أسدا، وهي قائمة على أقدامها والماء يجري من أفواهها في دائرة حاجزة فيصرف منها إلى مجارٍ أخرى. وفي وسط الحوض عمود من المرمر أيضا يفور منه الماء أيضا، فيصبُ في الحوض حتى يمتلئ وما زاد على ذلك يصب من أفواه تلك الأسود. وجميع الحوض والأسود والعمود من قطعة واحدة من المرمر وهو شأن صناعي ذو بال. ومن بدائع الصنع فيه أنك لا ترى المنافذ التي تلقي ما يفيض من الحوض إلى الأسود مهما أمعنت النظر. وتسمى هذه البطحاء “بطحاء الأسود”.

     وهذه البطحاء مسافتها تبلغ نحو ستين مترا في مثلها تقريبا أو أزيد، وفي محيطها دوائرُ مخصوصة، في كل دائرة منها حجرات وقاعات مختلفة المساحات طولا وعرضا وارتفاعا، وكلها بالرخام الجيّد المنقوش بأنواع النقوش البارزة، وفي أكثرها ما تقدم من العبارات ولكن لم أر فيها شيئا من القصائد. ولم أستطع حَصْرَ كميّة الحجرات والقاعات فإن ذلك شرح يطول جدّا يحتاج إلى تحريره زمن طويل. وسقوف جميع تلك القاعات قِبَابٌ إلا أنها مختلفة الشكل منها ما هو كالقباب العادية ومنها ما هو مُحَدَّبٌ ومنها ما هو غير ذلك.

      ثم قضينا العجب، من أثار ملوك العرب، وخرجنا مُوّدعين هذه القصور العالية، أو هي الرسوم الخالية، بل الطلول المطلولة البالية، ذات العبر الباقية، والآثار الباكية. وتَذْكُرُ حديث ذلك العهد القديم، ويقول لسان الحال وهو المنطق الحكيم: جَنَّاتٌ وعُيُونٌ ومَقَامٌ كَرِيمٌ وعيشَة مُطمئنة كانُوا فيها فَاكِهين. دَالُوا على الأيام فَعَلَوْا، ودالت عليهم فاعتَلَتْ، ووَرِثَهَا بِحُكْمِ الدَّوْرِِ رِجَالُ قَومٍ آخرين، فما بَكَتْ عليهم سماءُ المَعَالي وانشَقَّتْ لهم أرض التَّمَكُن وما كانوا مَنْظَرِينَ، شَيَّدُوا فَهَدَّمُوا، وأَوجَدُوا فَعَدِمُوا، وسُبحَانَ مَنْ لَهُ الدَّوَامُ وهو أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ.

           أشْخَاصُهُم فَنِيَتْ ولكن ذِكرهُم*** أبَـدًا على مَـرِّ اللّيَالي بَاقِي  

     وعندما خرجنا قال لي مزورنا وهو إسبانيولي: تعلم أننا استعملنا ثمانية قرون حتى زحزحنا العرب عن ملكها واستولينا على هذه القصور؟ فقلت له:” إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. ولكن هل ترى أنكم أهدرتم دماء مئات ألوف من جنودكم فيها؟” فقال: “بل ملايين”. فقلت له:”إنّ طارقا  عبد موسى بن نصير استولى على إسبانيا في ثلاث سنين ولم يكن معه إلا واحدا وعشرون ألف مقاتل.” فاعترف بهذا المقدار.            

     وأخبرني أحد المصورين هنالك أن معيشتهم محصورة في رسم الحمراء، وذاكرني وذاكرته وسألته عن كتاب ضخم ألّفه في حق قصر الحمراء، فأجابني أنه نفد ولم يبق لديه إلا نسخة واحدة وأنه ألّفه في عدة سنين. وهو كتاب مهم مختص بالقصر المذكور ويوجد بسائر مكتبات مدريد.

    وعلى القرب من الحمراء دار عظيمة تسمى دار “إسماعيل” وهي لأحد قادة الجيوش الإسلامية باقية على حالها إلى الآن.

    وفي صبيحة اليوم الحادي عشر من صفر الخير توجهنا من غرناطة إلى قرطبة على طريق إشبيلية وبين المدينتين أقل من ساعة بالسكة الحديدية فوصلناها بسلام.

قرطبة

    دار الخلافة الأموية الإسلامية، وتخت الحكومة الأندلسية نحو خمسة قرون، مجمع العلماء العاملين، والحكماء الأساطين، والمجاهدين الأولين. وهي اليوم ليس فيها من ديار منهم، ولا رواية عنهم. إذا جاء المُحَمَّدِيُّ  لَبَّتْهُ الآثارُ وشاركته  الأطلالُ بلسانِ الاندثارِ:

          لا أنْتِ أنْتِ ولا الدِّيَارُ دِيَارُ*** خَـفَّ الهَوَى وتَقَضَّتِ الأَوْطََـارُ   

إذا تأمل المؤمن في هذه العبرة الخالدة، وراجع تاريخ الأندلس، وتفرق وجهتهم، وتمزق كلمتهم، وتبدد طوائفهم، بعد أن كانت العزّة بالله لهم في ظل الخلافة الأموية، علم معنى قوله صلى الله عليه وسلم:” فَإنْ كَانَ لله في الأَرْضِ خَلِيفَةٌ فَضَرَبَ ظَهْرَكَ وأَخَذَ مَالَكَ فَأَطِعْهُ وإلاّ فَمُتْ وأنتَ عَاضٌ بِجِذلِ شَجَرَةٍ”. وأدرك سرّ نهيه صلى الله عليه وسلّم في خطبته الشريفة عام حجة الوداع إذ يقول:” لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”. إذ لو لم يفترق ملوك الأندلس ولم تنقسم طوائفها لما تمكن الأجنبي فيهم وأصبحت دار خلافتهم وملجأ حكومتهم كأن لم يكن بالأمس. والحكم لله “إذا قَضَى أمْرًا فإنَّما يقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ”.

   ولنحبس عنان القلم فنقول: قرطبة هي مدينة كائنة في جنوب مدريد وشرقي غرناطة الشمالي، كائنة في بسيط من الأرض يُحيط بها بساتينُ عديدة ومزارعُ الزيتون من كل جانب. وفي خلال تلك المزارع والبساتين آثارُ قصور الإسلام البائدة، وفي خلالها الطُّرُقَاتُ المستقيمة المتسعة تمشي فيها العربات مثنى وثلاثا ورُباعا بغاية الرّاحة، وهي من آثار نظام العرب. أهلها اليوم عِدَّتُهُمْ خمسون ألفا على أنها كانت في أيام العرب تشتمل على أَزْيَدَ من مليون نفس على ما أقرّ به كثير من مؤرخي الإفرنج. وبناؤها على الطّرز الأوروبّاوي، وأزقتها قسمان: قسم خطّه الاسبانيوليون، وقسم بقي من مخطوطات العرب. وهذا القسم أوسع وأقوم فالطريق ربما وسعت أربع وخمس عربات إلا أن الطرق الاسبانيولية أحسن رصفا منها. ومن يدريك كيف كانت حالتها الأولى في أيام العرب.

     ومما يعجب له المتعجّبون ما أطلعنا عليه حضرة الشهم الهمام والسياسي الكامل المفضال عطوفة “طرخان باي” أفندي سفير الدولة العلية بعد عودتنا من “السكريال” إلى “مدريد” وهو كتاب ضخم اسمه “نُمُوُّ التَّمَدُّنِ في أورُوبَا” في ثلاثة مجلدات يقول فيه مؤلّفه: إنّ شوارع مدينة قرطبة كانت منورة بالغاز قبل أن تعرف ذلك أوروبا بخمسة أو ستة قرون، وهو شأن عظيم. إلا أننا نحتاج إلى تتبعه في تواريخ العرب إذا لم تذهب بأغلب الكتب أيدي الدوائر. فإن الكتب الإسلامية التي كانت في هذه المدينة لم يبق لها من أثر. وكانت المواصلات فيما بينها وبين غيرها من الممالك الإسلامية منقطعة لبعد المسافة وللتباعدات التنافسية وأن مناسباتها مع الإفرنج بالطبع لم تكن على ما يرام من الصفاء والمودة. ولذلك لا يمكن أن يرجى الوقوف على ما ذكره صاحب التأليف إلا بعد تأمل وتحرّ طويل. ومن حفظ حجّة على من لم يحفظ، لا سيما ولم نر من يرد مقالته هذه من علماء الإفرنج مع شدّة حرصهم على اكتشاف الحقائق من كل شيء.

     ولما وصلنا إلى هذه المدينة نزلنا في أحد خاناتها، ويعرف بخان “المشرق” ثم بعد الاستراحة به قليلا من متاعب السفر ذهبنا لقنصل الدولة العَلِيَّة بقرطبة وهو رجل إسبنيولي، فتلقانا وأبلغناه أمر السفارة السّنية وأمر الحكومة الاسبنيولية، فأصحبنا وبحثنا في المكتبات جميعها، فلم نجد أثرا للكتب العربية أصلا وهو أمر عجيب فإن مجامع الكتب التي كانت بقرطبة هي من الكثرة بمكان عظيم في الزمن السالف، حتى إنَّ السفيرَ المشار إليه عرّفنا أن فهرست الكتب العربية الإسلامية التي كانت باقية عند هجوم الاسبانيوليين كانت خمسة وأربعين مجلّدا على ما حققه من تواريخ الاسبانيوليين وغيرهم. وهو ثَبْتُ حُجَّةٍ، كثير الاطلاع على العلوم والمعارف عتيقا وحديثا.

   فيظهر من ذلك أن الاسبانيوليين لما دخلوا قرطبة لم يستعملوا الحكمة في استبقاء آثار العلوم، ولم يعرفوا مقاديرها حتى ينتفعوا بها فأتلفوها عتّوا واستكبارا. ثم لما دخلها نابليون الأوّل إمبراطور الفرنسيس أخذ ما بقي بأيدي القوم فتلاشت بين المنتهبين. فلو لم ينل الأندلسيون ما نالهم من الفشل والتشتت أولا، ولو لم تتلاشهم إسبانيا ثانيا، لما كان من البعيد أن تهديهم علومهم إلى اختراع أشياء كثيرة من الأدوات والصنائع والآلات وغيرها، ولكن التّشتت لم يترك للعلوم من ثمرة فذاقوا وبال أمرهم وكانوا عبرة للعالمين.

    ومما يستحق الذكر من آثار الإسلام في هذه المدينة أثران باقيان، أوّلهما: القنطرة التي على الوادي الكبير الذي مرّ ذكره. وهي مبنية بالأحجار الضّخمة بناء محكما طولها أكثر من خمسمائة خطوة تقريبا، وعرضها نحو العشرين خطوة، وعليها حواجز حجرية بين ما بقي من المدينة وبين ما أذهبته الأيام منها. فإنك إذا تجاوزت القنطرة إلى الجانب الآخر تجد بطحاء خالية تشهد أنها كانت من العمار بمكان ولكن اضمحلت بالمرة حتى أني لم أجد لقصر المرحوم الخليفة عبد الرحمان الداخل  المُسَمَّى بقصر الزّهراء  من أثر يُذكر وثانيهما الجامع الشهير.   

جامع قرطبة

   هذا الجامع هو على طرف القنطرة ممّا يلي الجانب المعمور من المدينة، وهو من عجائب الدّنيا. ذهبنا لزيارته ومعنا ولد القنصل، فألزمنا القسّيسون المكلفون بأمر الجامع بنزع الطّربوش ولم يسمحوا لنا بغير ذلك، وأخبرهم ولد القنصل بمأموريتنا وقدّم لهم أمر ملكتهم فلم يقبلوا صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً، فذهبنا من هنالك إلى الوالي وعرفناه بالقضيّة، فأخبرنا أن الجامع صار كنيسة وأن حكمها ليس من خصائصه وإنما هو من وظيفة الأسقف، وأنه يساعدنا باستشارته. ثم إنه من الغد أتانا ابن القنصل وأخبرنا بأن الأسقف قد سمح لنا بزيارة المسجد فذهبنا نزوره. وإذا هو جامع عظيم هائل يحيط به سور جسيم مرتفع لا يتجاوز الثمانية أمتار مبني بالأحجار الصلدة، والصخور الضّخمة وله أبواب متعددة. ودوائر الصحن مسقّفة معقودة السواري على عُمَدٍ من المرمر الملون بأنواع الألوان. وهي ساحة متسعة جدّا تبلغ مساحتها عشرة آلاف متر مربع والأرض كلها مرصوفة بالرخام الأبيض.

   والجامع الشّريف غربي ذلك الصّحن، وارتفاع الجامع كذلك لا يتجاوز ثمانية أمتار. وله نحو اثني عشر بابا. وحيطانه من الحجر وطوله مائة وثمانية وستون مترا في عرض مائة وخمسة وعشرين فتكون مساحته من داخله واحدا وعشرين ألف متر تقريبا.  

     وسقفه مرفوع على أعمدة من المرمر الملون بأنواع الألوان التي تبهر الناظر وتحير الخاطر. وطول كل عمود منها أربعة أمتار. وعِدَّة الأعمدة في نفس الجامع تسعمائة، وفي دائرة الساحة الخارجية كما ذكرنا عمد عدتها مائتان، فتكون الكمية ألفا ومائة عمود.

    وأرض المسجد من أنواع اللَّبِنِ الملون المحكم. والمحرابُ والمنبرُ من المرمر الصافي منقوشان بالنقوش البديعة المُعْرِبَةِ عن سرّ الإتقان الصناعي حقَّ الإعْرَابِ. 

     وفي المحراب مكتوب بالخط الكوفي في نقش بارز محلّى بالذّهب “بِسمِ الله الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ حَافِظُوا على الصََّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسطَى وقُومُوا لله قَانِتِينَ” ثم تحت ذلك منقوش أيضا بالصفة المذكورة “الإمَامُ الحَكَمُ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ”.

     وممّا يجب أن يذكر أن الاسبانيوليين لمَا استولوا على البلاد طلب رؤساء الديانة من القيصر “شارلكان” أن يرخّص لهم في اتخاذ كنيسة لهم في وسط الجامع فأذن لهم، ففصلوا من وسط الجامع مقدار ستين عمودا وجعلوها معبدا لهم وهي قائمة الآن.

     وفي مساء اليوم الثامن عشر من شهر صفر الخيـر رحلنا من “قرطبة” إلى “بلنسية” بالسكة الحديدية واستمر سفرنا طول تلك الليلة كلها إلى صبيحة الغد، وبكل من حافتي طريق مسيرنا أشجار مختلفة ذات طيب وظل وثمار.

بلنسيـة

    هذه المدينة محاطة بالبساتين من جميع جهاتها، كائنةٌ على الجنوب الشرقي من “مدريد” وشرقي “قرطبة“، وهي من أهم مراسي البحر المتوسط. ولها علاقات تجارية مع غالب بلدان أوروبا التي يحيط بها البحر المذكور. بنيانها مُنْتَظِمٌ وشوارعها مستوية لا وَعْرَ فيها. وبها من السّكان نحو مائة وستين ألف نَفْسٍ وأعظم تجارتها: الخمرُ والأرزُ والفاكهةُ. إلاّ أن أغلب التّجارة في أيدي فرنسويين وألمانيين.

    وأهلها على غاية من الكسل لا يحترفون شيئا بحيث إنّ بضائع البلد كلها مستعارة من البلاد الأخرى. ولها تقدم في المعارف والعلوم لكن بالنسبة لما سواها من بعض البلاد الاسبانيولية كبرشلونة كما يأتي ذلك في بابه إن شاء الله. وفيها من السُوَّال خلق كثير.

    ولما دخلناها نزلنا بخان فرنسوي، ومن هناك توجهنا لمقابلة قنصل الدولة العَلِيَّة، وهو من مُعْتَبَرِي هذه البلاد واسمه “فرانسيسكو“. وهو من أكبر تُجَّارِهَا وأغناهم، وله صداقة نحو الدولة العثمانية وإخلاص تام، وهو في خدمتها من نحو خمس وثلاثين سنة، وله اعتناء عظيم بالعرب والوافدين من التّبعة العثمانيّة. قابلنا بغاية الاهتمام وبحثنا في دور الكتب الموجودة هنا فلم نجد للكتب الإسلامية بها من أثر.

     ومن آثار العرب الباقية فيها إلى يومنا هذا بابان عظيمان من أبواب المدينة مبنيان بالحجارة القديمة المُثمّنة. وعلى يمين كل واحد منها ويساره حصن من حصون أهل الأندلس، وكلاهما اتُّخِذَ سجنا بالمكان وليس للإسلام بها غير ما ذكر من أثر.

     وفي الثاني والعشرين من صفر الخير بارحناها متوجهين نحو مدينة “برشلونة” فدخلناها بعد مسير يوم وليلة بعد أن قطعنا فَيَافِيهَا الخصبة المزروعةَ ذات اليمين وذات الشمال لموقعها الشمالي من المملكة حيث إنّ خصب إسبانيا في جهاتها الشمالية. وبها شيء كثير من النّخيل والزّيتون والأعناب.   

برشلـونة

    هذه المدينة في ساحل مُهمٍّ على البحر المتوسط. مبانيها وشوارعها متقنة، عظيمةُ التجارةِ، دائمةُ الشُّغلِ والأعمالِ بعكس سابقتها، متقدمةٌ في العلوم والمعارف والأشغال العمومية. أهلها أهل كدّ وحزم ولا أثر للسوّال بها. ولشهرتها لم نر للإطناب بها من سبب.

    ليس فيها من الآثار العربية شيء إلا منزه واحد يُسَمُّونَهُ بالرّملة، وهو اسم باق له مُسمّى وليس في مكتبتها كتاب عربي. أقمنا فيها لأجل الراحة وزيارة مبانيها العمومية ثم خرجنا منها بسلام بعد عشرين يوما، وهو يوم مبارحتنا لبلاد الأندلس، فقصدنا منها باريز بطريق سكّة الحديد.

[تأثير العرب في لغة الأسبنيوليين]

      وهنا أنتهز هذه الفرصة لإظهار تأثير العرب في لغة الاسبانيوليين قبل أن أبتدئ في الكلام على باريز فأقول: إنّ عدّة ألفاظ يستعملها الاسبانيوليون في لغتهم مع بقاء المعنى وهي: فلان، ومنديل، وقنطرة، وقط، وقصر، وسكر، وأرز، وقاضي، وإن شاء الله… وعدّة كلمات أخرى لم تحضرني الآن منها أداة التعريف في المذكر كقولهم (ليبرو) أي كتاب فإذا أرادوا تعريفه أدخلوا عليه (أل) فيقولون (أل ليبرو) وأخبرنا مسيو “سيموني” معلّم اللغة العربية بغرناطة أنه يوجد من الألفاظ العربية في اللغة الاسبانيولية أكثر من ثلاثة آلاف كلمة، إلا أن بعضها طرأ عليه تحريف كقولهم: قط (قت)، وفي قصر (كشر)، وفي سكر (شكر)، وفي قاضي (كادي)، وفي إن شاء الله (أوخا الله)، وهنالك قاموس مخصوص لجميع الألفاظ العربية المستعملة عندهم في لغتهم.

[في وجود أناس من نسل العرب بأسبانيا]

     ثم إني سألت حاكم مدينة غرناطة: هل يوجد أناس بإسبانيا من نسل العرب مع بقاء أسماء عائلاتهم الأندلسية؟ فأجابني: بأن ذلك لا أثر له الآن بإسبانيا البتة، ولا يعرف أحد من الاسبانيوليين مبدأ نسبه، ثم قال لي: إنّ الاسبانيوليين لما دخلوا على العرب وافتكوا منهم أرضهم هاجر فريق منهم إلى تونس والمغرب، وفريق هاجر إلى جنوب فرنسا وإيطاليا، وهؤلاء صاروا فرنسويين وإيطاليين بعد ثلاثة أجيال. ومن العائلات التي تنصّرت بإيطاليا عائلة تعرف “ببني نحاس” ولم أقف على أكثر من هذا القدر. والظاهر أن القوم مرّت عليهم أيام صعبة واضطهاد عظيم حتى اضطُرَّ من بقي منهم لستر أصالتهم وعائلتهم، خوفا من الحكومة بسبب الانقلابات الهائلة والحروب العظيمة.

[بقية من عادات العرب عند أهل إسبانيا]

     كما أني شاهدت أيضا بقيّة من عادات العرب عند أهالي إسبانيا. من ذلك: لباس نساء البادية بها فإن كيفية ثوبهن كثياب نساء البوادي بتونس. ومن ذلك أيضا ما أعلمنا به قنصل الدولة العلية ببلنسية أن الرجال الذين يشتغلون بخدمة البساتين لا يلبسون السراويل طوالا بل حَدُّها إلى الركبة مثل لباس رجال تونس. ومنها ما أخبرنا به أيضا من أنّ أهالي جنوب إسبانيا كغرناطة وبلنسية وغيرهما إذا دخل عليهم الضيف وهم يأكلون يعرضونه إلى الطعام كعادات العرب بخلاف سكان شمال إسبانيا فإنهم عاملون بقول الشاعر:

      قَوْمٌ إذَا أَكَلُوا أَخْفَوْا كَلاَمَهُمُ*** واستَوْثَقُوا بِرِتَاجِ البَابِ والـدَّارِ

   ومن ذلك ما شاهدته بالذات وهو أن من عاداتهم إذا دخل غريب القهوة وكان له فيها أصحاب وشرب شيئا من القهوة أو غيرها يدفع ثمنها بعض أصحابه بحيث لا يعلمه هو حتى إذا سأل خادم القهوة عن قيمة مشروبه يجيبه بأن قد دُفِعَ ولكن لا يخبره باسم الدّافع مهما شدّد عليه. وربما حصل ذلك بين الأصحاب منهم أيضا وهي عادة حسنة، الظاهر أنها بقية من عادات الأندلسيين ولها شبه بالعادات المستعملة في عموم البلاد الإسلامية غربا وشرقا، إلا أن إخفاء اسم المُكْرِم فإنها من خصائص القوم ولا يمكن الجزم بأصالتها في الأندلس إلا بقرينة أصالة الكرم في العرب، وأصالة الاقتصاد في الاسبانيوليين.

    ومن عاداتهم أيضا أنه إذا جالسهم احدهم بالقهوة وأتى له الخادم بشيء من المشروب ومعه شيء من السُّكَّرِ فإنه يضع منه مقدار ما يكفيه بوعائه والباقي يضعه في جيبه والذين يرتكبون هذه الفاضحة في الأغلب هم من أواسط الناس فمن دون ذلك.

     ومنها أن النّساء المستخدمات بعد تتميم أشغالهن يخرجن من البيوت فيقفن عند أبوابها يستعرضن بأنفسهن للمارِّين فإذا راودهنَّ القاصد اتفقن معه وذهبن به إلى حيث الهوى والمُوبِقَاتُ. وأكثر ما تكون هذه الحالة أمام دور الأغنياء والأكابر ولا حرج عليهن في ذلك مطلقا.

       ومن المحاسن عندهم حُسْنُ لباس العسكر ونظافتهم واستكمال أسباب تحسين هيأتهم. ومن ذلك حال نسائهم فإنّهن من أجمل نساء أوروبا لامتزاج الدّم الاسبانيولي بالدّم العربي وتناسب الألوان والأشكال في أغلبهن، وهنّ في الحقيقة أجمل من نساء فرنسا إلا أن هاتيك ربات خلاعة وآداب أخرى. وتتميز الاسبانيوليات بقلّة التبرُّج وعدم مزاحمة الرجال والاختلاط معهم لقلّة خروجهنّ وعدم تعوّدهنّ على التجوّل الدائم والتّهافت الكثير.

    ومن محاسن عاداتهم أن القهوة لا تُشرب إلا باللّبن في جميع القهاوي وربما أن صاحب القهوة يربّي عدّة رؤوس من البقر بخصوص ذلك لكثرة استعماله.

[بشأن الوضع السياسي بإسبانيا]

    ومن العادات التي أخرجت إسبانيا من معراج الترف الأوروباوي هو أنها منقسمة إلى أحزاب ملكيين وهما قسمان (كارليست) و(البربون) وحزب الجمهورية.

    ومن غرائب أحوالهم أن كل وزارة جديدة تعزل جميع المستخدمين من التابعين لسلفها وتستخدم غيرها من أحزابها. وكل ناظر إدارة متى توظف أخذ من حزبه مستخدمين وعزل جميع المأمورين السالفين. وهذه الأسباب الوحيدة في عدم أمن المأمورين على وظائفهم عند التقلب فتمتد أيديهم إلى اغتنام الفوائد الخاصّة التي يرجون بها تأمين استقبالهم، وداعية إلى حرصهم على الحركات والأعمال المتضاربة عند عزمهم لنوال الوظائف. ولا يخفى تأثير ذلك في أحوال الهيأة الاجتماعية وما يستلزمه من تَشَوُّشِ الأذهان وتَأَخُّرِ الحوائج واضمحلال الحقوق.

[نقد نظام التعليم بإسبانيا]

    ومن العادات المضرّة أيضا عدم إجراء التعليم الجبري في إسبانيا كما هو الحال في فرنسا وغيرها، فإن ذلك قد أوجب لهم التأخر عن جميع الإفرنج في العلوم والفنون والصنائع وإن كانت حضريتهم لا بأس بها إلا أنها تحتاج لنيل درجة فرنسا أو غيرها من الدول إلى مائة عام حتى إنّ عدم وجود المعامل الكافية للصنائع قد أوجبت لها احتمال مصاريف باهظة فإن الألبسة والأقمشة وغيرها تأتي إليها من فرنسا ولندرة وغيرهما، ويأخذها الأهلون بأثمان غالية جدّا وذلك لارتفاع مقدار الكمارك. والظاهر أن الحكومة الاسبانيولية قد عزمت على ترويج صناعتها الداخلية.

[نفوذ رجال الدّين في إسبانيا]

     ومن ذلك سلطة القسيسين فإن لهم نفوذا وقوة بين أظهر القوم ولهم تسلّط على أفكار الأهالي وحظوة عظيمة عند مجلس الأمة، وهم الطبقة العليا من السكان وبيدهم الكنائس والوظائف العلمية وهم على شيء من العلم إلا أنهم يكرهون ترقي العلوم وتعميم المعارف خلافا لما تأمر به شريعتنا الإسلامية وذلك لكي لا ينحط اعتبارهم ويضمحل نفوذهم.

      ومن الدّليل على قوّة الرئاسة الرّوحانية أن سفير البابا في مدريد يتقدم سفراء الدول في المقام الرّسمي. ومن العجب العجاب أن أولئك الرّهبان كلما ظفروا بمسلم عرضوا عليه التنصّر وقد حصل لي ذلك بمدينة السكريال لما كنت فيها فقد عرض علي أحد سخفائهم ترك الديانة الإسلامية مرارا. وأعتبر ذلك في حالة تعصّب القوم وأجعله قياسا لغيره من جميع الأمور.

     والفكر العام عند الشّعب الاسبانيولي قاطبة هو الاستيلاء على سلطنة المغرب الأقصى وجبل طارق ومملكة البرتغال ثم صيرورتها جُمْهُورِيّة.

[الطّريق إلى باريس]

     ولما سافرت من برشلونة متوجها إلى باريس أخذت طريق الحديد فشاهدت ما يحرّض المشاهد على مُمَاراة سكّان تلك الأراضي في درجات التّقدم والتّنظيم فما متر من الأرض إلا وكان به أشجار وبقول ويزداد تعجّب المشاهد كلما تقدّم في تلك النواحي من حيث العمران مع اتساع البلاد.

     كما أني رأيت في رحلتي هاته عدّة آلات للحراثة وغيرها من فن الفلاحة ولكن لم يسعني الوقت للإطلاع على جزئيات تلك الآلات وتفاصيلها، غير أني اعترف بأهميتها لما رأيت من المنفعة الناشئة عن استعمالها بقدر ما يقرب الإنسان من مدينة باريس، تحسّن الأرض ويزداد التّنظيم حتى رأيت بقرب هاته المدينة الأراضي المعدّة للبقول منتشر على سطحها أواني البلور كالقباب الصغيرة لتقيها من البرد ولقد يشهد المتأمل بكمال إتقان تلك الأوعية وحسن صنعها وغرابة ألوانها بما يزداد به اعتبارا في القوم ويعرف اعتناءهم بفنّ الفلاحة الذي هو أصل من الرفاهية البشرية وإن كان بعض الفرنسوّيين يظنّ أنّ المعامل والصنائع يجلبان الرّبح أكثر منها لكن هذا خطأ محض لأن المعامل والصنائع أمر قد عمّ في أوروبا والشّيء إذا وصل حدّه انتهى إلى ضدّه فلا بدّ من رجوع القوم كلّهم أو جلّهم يوما من الأيام إلى صناعة الفلاحة لأن أرضهم تساعدهم على الرّبح أكثر ممّا ينتج في المعامل والصنائع.

[الوصول إلى باريس]

     وفي الثّامن والعشرين من نوفمبر سنة 1887 مسيحية وصلنا لمدينة باريس فلاحظت بهذا البلد ما يدلّ على تقدّم القوم واعتنائهم بالتّجارة وتسهيل جرّ الأثقال والمواصلات التي هي أكبر الأسباب في العمران وبهذه المواصلات كانت دولتهم كأنّها بكل ناحية من أراضيها بحيث أن الأخبار سياسية كانت أو غير سياسية بل وجزئيات الأمور الخاصّة وسائر ما يطرأ بأنحاء البلاد الجمهورية يرد على مدينة باريس يوميا بالجرائد والتلغراف، فكان بذلك لمن بيده الحل والعقد علم بمدار السّياسة الداخليّة كأنّه مقيم بين أظهر سكّان فرنسا جميعا ولا حاجة هنا إلى الإطناب بمدح تلك المدينة ناهيك بما قاله الشيخ رفاعة المصري في رحلته والشيخ محمد بيرم في “صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار“.

   ولما كنت متوجِّها إلى باريس رسميّا من طرف المعارف الجليلة ناسب أن أتشرّف بمقابلة الشّهم الهمام الوزير الخطير حضرة أسعد باشا سفير الدولة العليّة بها، فذهبت لمحلّه وهو من أعزّ أماكن باريس موقعا وبناء وتشرّفت بمقابلته بعد الاستيذان وأتحفني بما استرقّ به مهجتي وآنس به غربتي. ولنكبح الآن عنان قلمي في مدحه ولا أطنب وأقتصر على ذكر مدينة باريس إجماليا.

    فباريس لا أراها إلاّ جنّة للنّساء ونزهة للرّجال وجهنّم للخيل ومنفى للقسّيسين ولا يلزم التعرض لبيان حسن نظامها وانتظامها ولطف مبانيها وكمال رونقها البهيج وتقدّم ثروتها وتمدّنها ومجامعها العلميّة والصناعيّة وأنواع المحاسن التي جعلت مدينة باريس بمنزلة العقل من جسم الكرة الأرضيّة والضّوء بالنّسبة إلى المنظومة الشمسيّة وكيف يصح التعرّض لتفصيل جمالها الأدبي والاجتماعي وهي: “قِفَا نَبْكِ” العالم الأوروباوي. وأما حال المواصلات فيها فأقول إن باريس على عظمتها واتساعها صارت بمنزلة دار كبيرة تسكنها عائلات كثيرة بسببها.

[العودة إلى دار الخلافة]

   وفي اليوم الثالث عشر من شهر دجنبر رحلت منها في طريق الحديد إلى مرسيليا وبقيت فيها ثلاثة أيام أنتظر الفابور البحريّ.

   وفي اليوم السادس عشر منه، ركبت متن الفابور المسمّى (أرمني) من شركة (باكين) كما تقدّم في أوّل هذه الرّحلة وسافرنا فمررنا بمرسى (مسينا) والقلعة السّلطانية. وفي صباح يوم الجمعة الخامس والعشرين وصلنا إلى دار الخلافة العظمى زادها الله تعظيما. وبذلك انتهت رحلتنا هذه على أحسن حال وأكمل منوال وصلى الله على سّيدنا محمد وأصحابه والآل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى