زورق “كدية اجل” خرافة حقيقية!/ محمد محفوظ أحمد
كدية اجل… هي المعلم الأكبر ارتفاعا في “تيرس زمور” كلها؛ و”اجل” نبات عشبي، وبه يسمى المعلم الآخر المنخفض وهو “سبخة اجل”.وكلا المعلمين هو مصدر اقتصادي وطني كبير. فكدية اجل فيها مقالع حجارة الحديد التي تغذي مصانع الصلب في دول كثيرة، وهي عماد الاقتصاد الموريتاني ورافده الأهم أو الأثبت حتى الآن…
وأما سبخة اجل، الواقع سهلها على بعد 40 كلم شمال غرب الكدية، فهي مقلع لمعدن آخر لأفخر وأجود أنواع ملح الطعام. وهي معلم اقتصادي تاريخي سبق استغلاله اكتشاف حديد الكدية بثلاثة قرون على الأقل، وظل ملح طعام الناس في موريتانيا ودول غرب إفريقيا…
سبخة اجل سهل منخفض واسع يكتنز أجود أنواع الملح، مرصوصا ومتراكبا بدقة عجيبة في طبقات ثلاث أو أربع مفصولة بمادة طينية رقيقة. تقطع كل طبقة ألواحا، بالأحجام المناسبة لحملها على ظهور الإبل; لوحين لوحين، كما كان الحال. أو بأحجام صغيرة تناسب حملها في الشاحنات اليوم.ومن طرائف طبقاتها النادرة طبقة غليظة براقة ولا طعم لها على الإطلاق “أمسخ” من الحجارة، يسمونها “فحل الملح”!
أما “كدية اجل” فهي جبل ضخم يناهز ارتفاع أعلى قُننه الألف متر، وهي كما تبدو من الفضاء البعيد كتلة صخرية واحدة شبه مستديرة.ولكنها في الواقع مجموعة كدى متلاصقة تشكل جبلا مربع الأضلاع تقريبا، وكل ضلع منه بطول حوالي 40 كلم.
ولكن كدية اجل بعد ستة عقود من الحفر والجهر والقضم بالمتفجرات القوية والآلات العملاقة والمطاحن والناقلات… ما تزال مجهولة لا يعرف منها غير الظاهر من شمالها الممتد بين افديرك وازويرات!
ومن أشهر مقالع المعدن فيها “افديرك”، ويقع في أقصى غربها، وهو “طارف اژنژير” المطل على قرية افديرك، وبه أجود الخامات وأكثرها تركزا للحديد (حوالي 60%). وقد استُهلِك مخزونه تقريبا في عهد “ميفرما” وبداية “سنيم”. وأما الطرف الأقصى شرقا من الكدية فهو “تزاديت” ويتميز خامه بتركيز مماثل للأول أو يفوقه قليلا، وقد استنفدته “سنيم” تقريبا؛ حتى كاد قاع مقلعه أن يهبط إلى مستوى الأرض.
وفي أواسط الكدية مقالع أخرى خاماتها نسبة تركيز الحديد فيها أقل بكثير (30-40%) أشهرها “ارويصات”.
ويبدو من الغريب أن النواحي الجنوبية من الكدية لم يكتشف فيها من المعدن ما يغري باستغلاله!غير أن جنوب الكدية له مميزات أخرى سياحية ورعوية مجهولة تقريبا! ومن أشهرها “گلتة أم لحبال”؛ وهي منابع مياه عذبة صافية أكبرها “عين الگلتة” التي تشبه البئر وتمتح بالدلي والحبال إذا انخفض ماؤها، ومن ذلك اشتق اسمها.وهذه المنابع يتطلب الوصول إليها بعض الجهد والخبرة، ولا يصلها من الماشية إلا المحلي المتعود على ورودها.
وفي “تزاديت” أيضا مصادر للمياه العذبة كانت تستغلها شركة الحديد و”تُحلّي” بمائها المطَري العذب مياه “بولنوار” المالحة التي تجلبها بالقطار، لسقاية مدينة ازويرات.
وبما أن نسبة الاكتشاف والارتياد في الكدية لا تتجاوز 2% من كتلتها الضخمة، فإن الأساطير حولها كثيرة ولا تخلو من الطرافة. ويقول السكان المحليون إن وسطها فيه مفازات ونخيل منكس وحيوانات وحشية…
أما الجن فالكدية هي وطنهم ودولتهم، كما يزعم أهل الأرض المحليون!وعند ابتداء استغلال خامات الكدية استطاع بعض عمال شركة “ميفرما” إقناع إدارتها بسيطرة الجن على الكدية، وزعم بعض مشغلي الآليات أن الجان هددوهم مرات بالإلقاء من فوق الكدية ما لم يصالحوهم على “دم وفرث”، وامتنعوا من العمل هناك حتى قدمت لهم الشركة تعويضا لشراء شاة يومية تذبح على الكدية إرضاء لمواطنيها من الجان!
وعرف هذا التعويض الغريب في نفقات الاستغلال باسم “تعويض الجن” (Prime du diable)!
الكدية تتفاعل مع المطر بشكل إيجابي حيث تختزن بعضه في عيونها الداخلية (المعروف منها: تزاديت وأم لحبال فقط) وتقذف الباقي جنوبا وغربا في سيول نادرة… لعل من أبرزها سيل “خنگ أم لحبال” الذي ظل السكان يحاولون إقامة سد أو “ربط” يحجز الماء، فلا يصمد ما بقيمون أمام قوة مياه الكدية متى غزرت… إلا أن الأمطار قليلة في المنطقة عموما.
ويبدو أن السد (اظليمه) هذه المرة صمد بفضل الله وامتلأ حتى طافت عليه الزوارق بمحركاتها المائية؛ وهو أمر من عجائب الزمن: أن ترى الفلك مواخر في “تيرس الظب”! وهذا ما لم تأت عليه أساطير كدية اجل نفسها!!
مع أن الأركيلوجيين أقاموا لنا قبل عقود معرضا تحت عنوان “ازويرات قبل خمسة ملايين سنة” زعموا أنها كانت أرض أنهار وغابات وفيلة…!!تظل تيرس أجمل وأنقى بلاد الله، وخاصة حين تشرب؛ وهي صبورة على العطش شكورة للمطر؛ يروي القليل منه عطشها فتجود بخيراتها على المخلوقات الحية. ولو زرعت لأخرجت أرضها أجود المحاصيل وأوفرها…