فرسان العشق الإلهي أبو مدين الغوث… أستاذ الألف شيخ وإمام الزاهدين
تمرّد على حاله وهو طفل غرير، بعد أن خطف رجال الله بصره وقلبه، فهرول وراءهم بقدر ما أسعفته طاقته المهيضة. ترك رعي الغنم، ليرعى المعرفة ويربيها على مهل، يهضمها ويتذوقها ويتدبرها فتدور بين عقله وقلبه ونفسه وتنتهي في ما بعد إلى لسانه فينطق بها حكمة صافية وآراء غاية في البساطة والعمق وشعراً وتواشيح عذبة في العشق الإلهي. ساح كثيراً في الأرض، ومشى في مناكبها على قدر استطاعته، فلما اختار منها مكاناً ليقطنه، آنس إليه خلق كثير، يستزيدون من علمه، ويقفون على مواجيده وأذواقه، فلم يبخل عليهم بشيء. وُلد شعيب بن حسين الأنصاري سنه 515 هـ على الأرجح في قرية حسن قطنيانة التابعة لأشبيلية في بلاد الأندلس. توفي والده وتركه طفلاً بين أخوة أكبر منه، فأسندوا إليه مهمة رعي أغنام قليلة ورثوها. وكان في غدوه ورواحه يمر بمقارئ القرآن، وحلقات الذكر، فيتوقف أمامها متدبراً مسحوراً، وفي نفسه أمل عريض أن ينضم يوماً إلى قافلتهم الرائعة. وهنا قال هو: {إذا رأيت من يصلي، أو من يقرأ القرآن، أعجبني، ودنوت منه، وأجد في نفسي غماً، لأنني لا أحفظ شيئاً من القرآن، ولا أعرف كيف أصلي}. لم يفارق هذا المشهد الطيب الأثير نفس شعيب، فدبر أن يعيشه مهما كان. وذات يوم فرّ من أخوته ومهمته، وراح يسرع إلى حيث أهل الذكر. لكن إخوته فطنوا إلى هروبه، فتعقبه أحدهم حتى لحق به، وزجره وهدده بالقتل إن لم يرجع معه، فعاد كسيف البال، محسوراً، إلا أنه لم يقطع الأمل أبداً في أن ينال يوماً ما يريد. وذات ليلة، ظل أبو مدين ساهراً، حتى ظن أن إخوته قد غشيهم النوم، ففر هارباً، وسلك طريقاً آخر، ممنياً نفسه بألا يكتشف أحد منهم أمره، وأن يصل في النهاية إلى مراده. لكن أخاً له تعقبه مرة ثانية، بعد أن اكتشف غيابه عن الدار، وبلغ الغيظ بالأخ حداً مفرطاً، فرفع سيفه ليضرب شعيب، لكن الغلام صد السيف بعصا كانت في يده فانكسر. وعندها وقف أخوه الأكبر والاندهاش يكاد يعقد لسانه، وهو ينظر إلى العصا السليمة والسيف المكسور. وأدرك في لحظة أن هناك ما هو أكبر وأعلى من قدرة الأخ الأصغر وعصاه، فأطاع الهاتف الذي هز أعماقه، وقال لأخيه: {لك ما تريد}. فكانت أولى خطوات أبو مدين في طريق الله. وسار بعدها الغلام إلى البحر، فألفى خيمة عامرة بالناس، ووقف عندها ينتظر، وبعد برهة خرج شيخ وسأله عن غايته، فبث له الفتى خواطره، فأمره أن ينصرف إلى تعلم العلم، وقال له ما لم ينسه أبداً: {إن الله لا يُعبد إلا بالعلم}. وبعدها عبر أبو مدين البحر، بعد أن صار عاملاً على متن إحدى السفن، حتى وصل إلى طنجة، فلم يجد فيها بغيته، فسار إلى سبتة، ومكث فيها فترة عمل خلالها مساعداً لبعض الصيادين، لكن هذه المدينة لم تمنحه ما يريد، فما كان منه إلا أن سار إلى مراكش، وهناك التقى بعض أهل الأندلس فألحقوه للعمل بالجندية، ليجد أناساً غليظي القلوب، لا يستنكفون أن يأكلوا عطاءه، ويهضموا حقه، ويلحوا عليه في أن يقسو على الناس. وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فأسر إلى أحدهم بالسبب الذي أخرجه من داره وأطلقه إلى هنا، فقال له: {اذهب إلى فاس وستجد هناك ما تسعى إليه}. أيام التلمذة لما وصل أبو مدين فاس لزم مسجدها، وتعلّم الوضوء والصلاة، ثم اختار لنفسه حلقة ذكر وجلس إليها، وتنقل بين حلقات عدة، لكن عقله لم يلتقط الكثير، وكأن الشيوخ يتحدثون إلى مريديهم بلغة أعجمية. لكن ذلك لم يوهن من عزيمة أبي مدين فاستمر في تردده على مجالس العلماء، ونهل من معارفهم حتى ارتوى، فاكتمل له ما يجعله واحداً منهم. وكانت فاس آنذاك تعج بأفكار الموحدين التي قامت على علوم الكلام والفقه، وبرز في هذا المضمار علماء كثر. وساقه القدر أخيراً إلى حلقة الشيخ أبو الحسن بن حرزهم، الذي كان يتحدث بطريقة غير مستغلقة على الأفهام، في الفقه والتصوف. كذلك تعلم أبو مدين على يد الشيخ صالح أبو عبد الله الدقاق، وهو من كبار المتصوفة. ذات مرة دنا أبو مدين من ابن حرزهم بعد أن فرغ من الدرس، وقال له: {حضرت مجالس كثيرة، فلم أثبت على ما يقال، وأنت كلما سمعت منك حفظته}. فرد عليه الرجل: {هم يتكلمون بأطراف ألسنتهم، فلا يجاوز كلامهم الآذان، وأنا قصدت الله بكلامي، فيخرج من القلب}. لكن أبا مدين مال إلى التصوف، وذهب إلى الشيخ أبو يعزي، وكان أحد كبار الزاهدين، وأخذ العهد على يديه، وتدرّج في درب السالكين، حتى أصبح {قطباً} كبيراً. وقد كان أبو يعزي يمتحن مريديه امتحاناً عسيراً في آداب السلوك، ليقف على صدق الإرادة وقوة العزيمة، ويميز بين اللاهي والجاد. ويروي أبو مدين جانباً من هذا فقال: {سمعت الناس يتحدثون بكرامات أبي يعزي، فذهبت إليه في جماعة توجهت لزيارته، فلمّا وصلنا جبل} إيروجان}، ودخلنا عليه، أقبل على القوم دوني، فلمّا أحضروا الطّعام منعني من الأكل، فجلست في ركن الدار، وكلما حضر الطعام وقمت إليه انتهرني، فأقمت على تلك الحال ثلاثة أيام وقد أجهدني الجوع، ونالني الذّل، فلما انقضت ثلاثة أيام، قام أبو يعزي من مكانه، فأتيت إلى ذلك المكان، ومرغت وجهي فيه، فلما رفعت رأسي نظرت فلم أر شيئاً، وصرت أعمى، فبقيت أبكي طول ليلتي. فلما أصبحت استدعاني وقال لي: اقرب يا أندلسيّ! فدنوت منه، فمسح بيده على عيني فأبصرت، ثم مسح بيده على صدري وقال للحاضرين: هذا سيكون له شأن عظيم، أو قال كلاماً هذا معناه، ثم أذن لي في الانصراف}. وسرد أبو مدين طريقته في تلقي العلم، التي بيّنت حرصه على أن يتعدى مجرد حفظ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، إلى تدبر معانيها، وتذوق مراميها، والإلمام بأحكامها: {كنت إذا سمعت تفسير آية من كتاب الله تعالى، ومعه أحد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قنعت بهما، وانصرفت إلى خارج فاس، لموضع خال من الناس، اتخذته مأوى للعمل بما يفتح عليّ من الآية والحديث، ثم أعود إلى فاس فآخذ آية وحديثاً وأخرج إلى خلوتي}. وبعدها ساح في بلاد أفريقية شتى، وزار مكة، والتقى هناك الصوفي الكبير عبد القادر الجيلاني الحسني، مؤسس الطريقة القادرية، فأخذ عنه في الحرم الشريف كثيراً من الأحاديث، وألبسه خرقة الصوفية، وأودعه كثيراً من أسراره. وكان أبو مدين يفتخر بهذه الصحبة، ولم ينس الكثير من أوراد القادرية، وكان أول من نقلها إلى المغرب. اكتمال المقام استقر المقام بأبي مدين في {بجاية} التي كانت آنذاك قد بلغت أوج إشعاعها الثقافي والحضاري على عهد الحماديين: (408 -547 هـ) ثم الموحدين. وجاء أبو مدين إلى بجاية يسبقه صيته، فالتف الناس حوله، ونهض المريدون إليه، فتعلّم على يديه أكثر من ألف تلميذ، أضافوا الكثير إلى مسيرة التصوف والفقه. وقد أطلق عليه تلامذته كثيراً من الألقاب مثل: {شيخ المشائخ}، {الجامع بين الحقيقة والشريعة}، {صاحب مقام التوكل}، مخرج الألف شيخ}، {علم العلماء}، {الحافظ}، {المفتى}، {صاحب الكرامات والخوارق}، و}القطب الغوث}. وكان ما قال أبو مدين في بجاية يخالف مذاهب فقهاء الموحدين، فأثار قلقهم، لا سيما بعد أن بلغت شهرته الآفاق، وزاد عدد مريديه إلى حد ملأ الأسماع والأبصار. وأحد الكتب التي كان يطلب من تلامذته مطالعته على الدوام {المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى} لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، الذي ينطوي على بعض أسرار علم المكاشفة. حظي أبو مدين بمكانة واسعة في نفوس كبار المتصوفة، إذ قال عنه محيي الدين ابن عربي: {شيخنا أبو مدين من الثمانية عشر نفساً الظاهرين بأمر الله عن أمر الله، لا يرون سوى الله في الأكوان. وهم أهل علانية وجهر، مثبتون للأسباب، وخرق العوائد عندهم عادة}. وقال عنه أيضاً: {شيخنا أبو مدين رضي الله عنه، الغالب على قلبه وبصره مشاهدة الحق في كل شيء. فكل حال عنده أعمال. فتعلن بالصدقة، كما يذكره في الملأ، فإن من ذكره في الملأ، فقد ذكره في نفسه، فإن ذكر النفس متقدم بلا شك، وما كل من ذكره في نفسه ذكره في الملأ، فهذه حالة زائدة على الذكر النفسي لها مرتبة تفوق صاحب ذكر النفس. لا يطلع عليه في الحالين. فهو سر بكل وجه، فصدقة الإعلان تؤذن بالاقتدار الإلهي، فمن يخفيها أو يسرها، هو الظاهر في المظاهر الإمكانية، فهذه كانت طريقة شيخنا}. قال عنه الشيخ عبد الوهاب الشعراني: {هو أحد أعيان مشايخ المغرب، وصدور المربين، وشهرته تغني عن تعريفه}. أما صاحب {الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية} فيصفه بأنه {الأستاذ الأعظم، العارف الأفخم، عظيم الأكابر، رأس الصوفية في وقته، ورئيسهم المشهور، علم نعته زاهر، زاهد مراقب مشاهد، يقضد ويزار، من جميع الأقطار، وببنان العرفان إليه يشار}. ووصفه صاحب شذرات الذهب: {كان من أهل العمل والاجتهاد منقطع القرين في العبادة والنسك، بعيد الصيت}. أما صاحب طبقات المالكية فقال في حقه كلمات مؤثرة، إذ وصفه بأنه {شيخ المشايخ، وسيد العارفين، وقدوة السالكين. شيخ الطريقة، جمع الله له علم الشريعة والحقيقة. كان من الفضلاء وأعلام العلماء، ومن حفاظ الحديث، خصوصاً الترمذي، وكان يقوم عليه. وكانت ترد إليه الفتاوى في مذهب مالك، فيجيب عنها في الوقت. مناقبه شهيرة، وكراماته كثيرة}. وأوضح الشيخ أبو الصبر: {أبو مدين زاهد فاضل عارف بالله تعالى، خاض بحار الأحوال، ونال أسرار المعارف، خصوصاً مقام التوكل. لا يشق غباره، ولا تجهل آثاره}. وأخيراً يشير الدكتور عبد الحليم محمود إلى أن الآلاف خرجوا من ظلمة المعاصي إلى نور الهداية من خلال أبي مدين، ولما انتهت به الحياة، كان أثره ضخماً ورصيده في الخير كبيراً تصوفه وشعره حدد أبو مدين الغوث معالم طريق القرب من الله بقوله: {من اشتغل بطلب الدنيا ابتلى فيها بالذل}. وحذّر من الميل إلى غير الله بقوله: {إياك أن تميل إلى غير الله فيسلبك لذة مناجاته}. وكان يردد دائماً العبارات التالية: - {الله الحق. وكلماته كلها مدارها الحق}. – {الحضور مع الحق جنة، والغيبة عنه نار، والقرب منه لذة، والبعد عنه حسرة، والأنس به حياة، والاستيحاش منه موت}. – {نسيان العبد للحق طرفة عين خيانة}. – {لا تقنط الناس وذكرهم بأنعم الله تعالى}. – {من خدم الصالحين ارتفع بخدمته}. – {أبناء الدنيا يخدمهم العبيد والإماء، وأبناء الآخرة الأحرار والكرماء}. – {شاهد مشاهدته لك، ولا تشاهد مشاهدتك له}. – {القريب مسرور بقربه، والمحب معذب بحبه}. – {ليس للقلب إلا وجهة واحدة، متى توجه إليها حجب عن غيرها}. – {لا يصلح سماع هذا العلم إلا لمن حصلت له أربعة، الزهد، والعلم والتوكل واليقين}. والتقوى عنده أن ترى الله في أعمالك كافة، والتوكل الاعتماد على الله، فلا يغلب على ذكرك إلا الله، والتصوف التسليم لله، وحقيقته ألا تذكر ولا تشاهد سواه: {الله ربي لا أريد سواه، هل في الوجود الحي إلا الله}. والطريق عند أبي مدين يبدأ بالتوبة، ثم الإرادة: {طلب الإرادة قبل تصحيح التوبة غفلة. ومع التوبة تكون الطاعات، فمن يهمل الفرائض ضيع نفسه}. وكان أبو مدين فقيهاً مفتياً، يقصده الناس أو يراسلونه من أطراف الأرض للاستفتاء فيفتيهم، وكانت له مواقف ومخاطبات صوفية على شاكلة مواقف البسطامي والنِّفَّري ومخاطباتهما الصوفية، وكانت لـه منامات رمزية، وذكر صاحب الكواكب الدرية أن الشيخ قد ترك تصانيف منها كتاب {أس التوحيد}، لكن معظم تراثه لا يزال في حكم الضياع، وينتظر من ينقب عنه، ويعثر عليه. وكان الشيخ قوّالاً للحكمة ناظماً للشعر، بما في ذلك الموشحات والأزجال، من أشهرها {القصيدة اللامية} في الاستغاثة والأدعية، وتتألف من 25 بيتاً، أبرزها: لأَِلْطَافِكَ الحُسْنَى مَدَدْتُ يَدَ الرَجَا وَحَالِي كَمَا تَدْرِي، وَأَنْتَ المُؤَمَّلُ قَصَدتُكَ مَلهُوفًا فُؤَادِي لـِمَا طَرَا وَ أَنْتَ رَؤُوفُُ مُحسِنُُ مُتَفَضـِّلُ … وَ أَزْكَى سَــلاَمٍ لاَ يَزَالُ عَبِيرُهُ يَفُوقُ عَلَى المِسْكِ الذَّكِيِّ وَ يَفْضُلُ وَآلٌ وَ أَصْحَابُُ، بـُدُورُُ وَسَادَةُُ تَحَلُّوا فَكُـلُُّ فِي حُـلاَّهُ مُكَمَّـلُ ثمة أيضاً قصيدة {النونية الخمرية} التي يُقال إن عمر بن الفارض تأثر بها، حين نظم {ميميته} الشهيرة: أَدِرْهَا لَنَا صِرْفًا وَ دَعْ مَزْجَهَا عَنَّـا فَنَحْنُ أُنَاسٌ لاَ نَعْرِفُ الْمَزْجَ مُذْ كُنَّا وَ غَنِّ لَنَا فَالْوَقْتُ قَدْ طَابَ بِاسْمِهَا لأِنَـا إِلَيْهَا قـَدْ رُحـْنَا بِهَا عَـنَّا أما آخرها قال: وَحَتَى غُصُونُ الْبَانِ مَالَتْ تَرَنُّمًا وَغَنـَّتْ عَلَيْهِ كـُلُّ صَادِحَةٍ شَجْنَا أَهَلْ عَائِدٌ لِيَ وَقْتٌ كَيْ أَرَى بِهَا خَيَالَ سِوَى زَائِرِ مَـضْجَعِي وهَـْنَا. الاستعداد للرحيل ولما اشتهر أمره ببجاية وشي به بعض علماء الظاهر عند الخليفة الثالث للدولة الموحدية يعقوب المنصور، الذي امتدت ولايته من 580 إلى 595 هـ، قالوا له في وشايتهم: إنه خطر على دولتكم، فإن له شبهاً بالإمام المهدي، وأتباعه كثر في كل بلد، فوقع في قلبه، وأهمه شأنه، فبعث إليه يطلب منه القدوم عليه ليختبره، وكتب لصاحبه أن يحمله خير محمل. فلما أخذ أبو مدين يستعد للسفر إلى مراكش، عاصمة الدولة الموحّدية، للمثول بين يدي المنصور شق ذلك على أصحابه، فطمأنهم الشيخ وكان مما قاله لهم: {شعيب شيخ كبير ضعيف لا قوة له للمشي، ومنيته قدّرت بغير هذا المكان، ولا بد من الوصول إلى موضع المنية، فقيض الله لي من يحملني إلى مكان الدفن برفق، ويسوقني إلى مرام المقادير أحسن سوق، والقوم لا أراهم ولا يروني (يقصد السّلطان)}، فرق حالهم لذلك، وطابت نفوسهم، لاعتقادهم أن ذلك من كراماته. فلما وصل الموكب به إلى ولاية تلمسان، مرض الشيخ مرضاً شديداً، حتى وافته المنية في وادي يسر سنة 594 هـ، وحمل الجثمان إلى قرية العباد، مدفن الأولياء، وكانت جنازته يوماً مشهوداً، خرج فيها أهل تلمسان عن بكرة أبيهم، تقديراً منهم للولّي الكبير، ومنذ ذلك الحين، صارت تلمسان مدينة أبي مدين، يعرف بها وتعرف به. وقيل إن أبا مدين ردد قبيل وفاته: {لا بأس من النوم في هذا المكان}. ثم كانت الإغماضة الأخيرة. وقال أبو علي الصواف: {لما احتضر الشيخ أبو مدين استحييت أن أقول له: أوصني، فأتيته بغير، وقلت له: هذا فلان فأوصه}. فقال: سبحان الله، وهل كان عمري كله معكم إلا وصية؟ وأي وصية أبلغ من مشاهدة الحال؟ وقال الصواف: {سمعته عند النزع الأخير قال: الله الله الله، الله الحق، الله الحي، حتى رق صوته، وصمت إلى الأبد}.