“أنا سائر وأنتم تنبحون”…
انسحبت لفترة طويلة، لا أكتب إلا لماما، ولا أعبر عن رأي إلا نادرا.. صمتٌ طويل جدا، محاني – ربما- من ذاكرة كثيرين ..
لم يكن صمتي بدافع الخوف، فالبلد واقع تحت “إعصار” يسمح لي بأن أقول كل شيء.. يتيح لي الإعصار أن أسب الله والملائكة والنبيين، وأن أقول “على مريم بهتانا عظيما”..
يمكنني – مثلا- في هذا المقال الدعوة جهارا إلى تشكيل “تنظيم عسكري” خاص بقبيلتي، وأن أبتز السلطة بأنها القبيلة الأكبر والأوسع امتدادا، ولن تقبل بعد الآن استمرار “الحرمان” و “التهميش” و”الظلم”.
يمكنني أن أقول إن الموريتانيين بكل هيئاتهم وفئاتهم “مجرمون” لأنهم لم يتخلوا عن الأموال والوظائف، والمكانة الاجتماعية لصالح الطبقة التي انتمي إليها..
يمكنني أن أهدد الآخرين علنا بمكانة قبيلتي في السلطة.
وأنا قادر على أن أكتب “كم” في القوات المسلحة من “زوايا”، و” إيغاون”، و” أزناقه”، و”زوايا عرب” ، و”زوايا طلبة” إلى آخر القائمة؛ وأن أطلب علنا من أفراد طبقتي في الجيش عصيان الأوامر لأن تمثيلها فيه لا يتناسب مع عددها.
يمكنني أن أنشر الكذب، وأن أمارس في ما أكتب القدح والذم والتشهير.. وأن أثير الكراهية والبغضاء والعنصرية بين الموريتانيين..
وأنا حر أيضا في أن أتهم رئيس الجمهورية بالكذب والسرقة والمتاجرة بالمخدرات من دون الحاجة إلى دليل.
قد يقول الحساد إنني في المحصلة النهائية حر في أن انتحر.. أن أشعل النار في البيت، أن أهدم المقدسات… ليكن…
وقد يتطاول من يكفرون النعم فيدعون أنني أفتقر إلى ما يرونه الأهم، وهو أن يكنس “الإعصار” العراقيل أمام الحرية في اختيار من يحكمني من دون ضغوط ، والحرية في الوصول إلى امتيازات الدولة من دون مذلة.. والحرية في أن أنتقد السلطة من دون اللجوء إلى حزام أشد به بطني حينما يقرصني الجوع انتقاما لها.
لم سكتت إذن؟ …
قد أتعلل بأنني أترفع عن الكتابة في عالم الانترنيت الموبوء بالكتاب والمفكرين الزائفين.. وأنا حر هنا في ألا أقول الصدق، تماما مثلما يستخدم المسئولون حريتهم في الكذب من دون خجل.
الحقيقة – وأنا هنا صادق- أنني أكره صحافة الرأي، فقد أمضيت عشرات السنين في الميدان أنقل الوقائع بتجرد وموضوعية ( ما استطعت)، تاركا للجمهور حريته في الاختيار. وهذا ما يصعب عليَّ الركون إلى غيره.
وكانت هناك أيضا رغبة في الابتعاد عن المسرح السياسي، ومتابعته من مسافة تسمح باتخاذ قرار مناسب بالانغماس فيه، أو البقاء بعيدا ضمن القلة “الهاربة” باستقلاليتها متحملة دفع الثمن في بلد لا يعرف إلا لونين.
ولعل العامل الأهم كان شعوري الغامر بأن ما يكتب لا يغير من أمورنا شيئا.. وكأن هناك من يقول: ” اصرخوا، اكتبوا، حطموا.. تظاهروا.. لا قيمة لما تقولون أو تفعلون.. أنا سائر وأنتم تنبحون”..
وأعترف بأن شيئا لم يحدث خلال فترة الصمت: لم أغرم بعد بصحافة الرأي، ولم أصطل بعد بنار هوى السلطة، ولم تسبني بعد عيون مها المعارضة…
كل ما في الأمر أنني أحسست أن في الصمت خذلانا للحق … فلتتسع صدور “من يهمهم الأمر” لكلام لن يكون “نباحا”، ولا “صراخا”، ولا “هدما”، ولا”تجريحا”. ولن يكون “تأليها” لكائن من “طين”، لأنني – ببساطة- لا أتقن تلك “الفنون”…
سيكون رسوما بحفنة رمل على ألواح زجاجية، تبدو”لوحة جميلة” حينما يكون الزجاج ناصعا مضاء من الداخل، وبقعة “طين لازب” حينما “تطلى” وجها زجاجيا معتما قبيحا.
تاريخ النشر الاثنين 6.01.2014