حول “الانقلاب” و”موت الرئيس سريريا”: “دعوة” إلى القليل من”الدعم والمساندة” ومن روح “الشماتة/الشيخ بكاي
اتخذت تداعيات إصابة الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في هجوم مسلح منحى خطرا منذ مساء السبت حيث انتشرت في شكل سريع إشاعة عن استيلاء القوات المسلحة على السلطة، رافقتها أخرى عن “موت الرئيس سريريا”…
وصلتني الإشاعة “مؤكدة” من عشرات المتصلين، وكنت في طريق العودة إلى نواكشوط من أحد “الملاذات” البدوية التي أهرب إليها كلما ضقت ذرعا بهذه المدينة الكئيبة…
طلبت من صديقي بابا أحمد ولد عابدين الذي أحسست أنه في غاية التوتر والتأثر ترك قيادة السيارة… جلست مكانه.. وكانت مهمة صعبة إذ كان علي التحكم في مشاعر الصحفي الذي يسمع عن خبر بهذا الحجم، والإنسان المتأثر بمحنة إنسان آخر، والمواطن الذي يري بلده يدخل منطقة الخطر… وكان علي أيضا استقبال مكالمات السائلين الكثر، وإجراء أخرى بحثا عن الحقيقة…
حرصت على ألا تتجاوز السرعة المائة كيلومتر للساعة وكنت طيلة الرحلة فريسة للكثير من المشاعر:
صدمة، حيرة، أسئلة بلا أجوبة، تعاطف إنساني مع شخص لا أعرفه ولا منة له علي، لكنه إنسان… شعرت بنوع من الغثيان وأنا أتأمل انقلاب مساعدي الرئيس المقربين عليه وهو على فراش المرض… “إنه لؤم وخيانة .. قبح الله كرسي الحكم “… هكذا كنت أردد؛ ثم أغوص في بحر من التساؤلات: هل ستجرى الأمور بالطريقة نفسها التي عرفناها منذ سبعينيات القرن الماضي؟ أم أن الأمور الآن أكثر تعقيدا؟ ما علاقة “الانقلاب” بالهجوم الذي تعرض له عزيز قبل أكثر من أسبوعين، وهل كان الموريتانيون على حق في رفضهم تصديق الرواية الرسمية للحادث؟ ما علاقة ما يجري ببيان نشرته المعارضة معلنة نزولها إلى الشارع نهاية الأسبوع…؟ وانضاف إلى هذه التسؤلات بعد دخولنا نواكشوط سؤال آخر هو: لماذا نزل أقرباء الرئيس إلى الشارع لـ “تفنيد الإشاعة” ولم يحرك الحزب الحاكم ساكنا مساء السبت رغم سيل البيانات الصادر عنه منذ نقل عزيز إلى فرنسا؟
******** ********* ********* *********
كانت رنات الهاتف تتوالى : هذا يؤكد، وذاك ينفي، وثالث يستفسر… كان هناك ما يشدني من بعيد إلى التصديق، فالانقلابات لا تحدث عادة وأنا في نواكشوط: انقلب عزيز على ولد الطايع وأنا في بادية “تكانت”، وانقلب كذلك على ولد الشيخ عبد الله وأنا هناك أيضا .. غطيت بداية ذينك الانقلابين لـ “بي بي سي” من خيمتي وفي طريق العودة…
المكان هذه المرة مختلف والظروف تختلف: أنا الآن في طريق العودة من بادية “البراكنة” لا “تكانت”، و”الانقلاب” الحالي يجري ضد رئيس على فراش المرض وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك… قد لا يكون “الخبر” صحيحا إذن… وقد يكون محاولة فاشلة مثل أخرى حدثت وأنا في نواكشوط هي محاولة 3 يونيو الانقلابية الفاشلة التي قادها الرائدان السابقان محمد ولد شيخنا وصالح ولد حننه.
الإنقلاب الناجح الوحيد الذي حدث وأنا في نواكشوط كان انقلاب العقيد معاوية ولد الطايع على المقدم هيداله عام 1984.. وفي الواقع يمكن القول إني لم أكن حقيقة في نواكشوط : لقد خطط للإنقلاب وأنا في سجن ” الهندسة العسكرية” الشهير الذي كان العسكريون ينتفون فيه ريش السياسيين والخصوم… كنت خارجا للتو في حرية موقتة مع اثنين آخرين هما الكوري ولد حميتي وحمود ولد عبدي قرر هيداله أن يبعث من خلال الإفراج عنا رسالة إلى الرأي العام الموريتاني أن أزمته مع الناصريين انتهت (…….)
******** ********* ********* *********
دخلنا نواكشوط وكانت عادية هادئة “مالحة”، “رطبة”، “كريهة” كما خرجنا منها قبل يومين… تجولنا في الشوارع الرئيسية.. اتصلت بالمزيد من المصادر الموثوقة.. وبدا الإرتياح على وجه صديقي بابا أحمد…
لقد كانت – في ما يبدو- مجرد إشاعة..لكنها إشاعة “مسممة” نجحت في اللعب بالموريتانيين ساعات؛ ومن دون شك حققت بعض الأهداف لمطلقيها، لكنها في الوقت ذاته أضرت بخصوم الرئيس عزيز الذين يحملهم الشارع- خطأ أو صوابا- مسؤولية إطلاقها، وأعادت إلى الواجهة انتقادات يوجهها أصدقاء النظام إلى الحزب الحاكم.
شخصيا لا أحمل حزب السلطة المسؤولية في ما ينتقد بشأنه لأني لا أعرف ما إذا كان صاحب القرار في هذا السيل من البيانات الذي يدعو الموريتانيين إلى تخصيص استقبال حاشد للرئيس… ما أريد قوله هو الجزم بأن الحزب وضع الموريتانيين في أجواء كاذبة وهيأ لهم أن رئيسهم في إجازة سياحية قصيرة يعود منها في الوقت الذي يريد… وهذا ظلم للرئيس وكذب على الرأي العام، أدى في الأخير إلى نتائج عكسية..
ليس المرض عيبا، ومن حق الرئيس أن يمرض، وأن يغيب من أجل العلاج، وليس مسؤولا عن تلك الرصاصات الطائشة التي أصابته.. ومن العبث إذن التستر على وضعية واضحة وعادية ولا تمس سلطة الرئيس ولا مكانته. وصدق من قال إن ” من الحب ما قتل”.
******** ********* ********* *********
وبالدرجة نفسها التي أدعو بها بعض أنصار الحكم إلى التقليل من “الدعم والمساندة” أدعو خصومه إلى الإبتعاد عن روح “الشماتة ” و”الطمع(…..)”، واستغلال محنة إنسانية شخصية.
لقد اتخذت المعارضة في بداية الأحداث موقفا شريفا ارتاح له كل الموريتانيين حينما أعلنت تجميد أنشطتها الإحتجاجية احتراما للظرف الإنساني.
لا أنكر على أحزاب المعارضة حقها في القلق على مصير البلد والحديث عن حق الموريتانيين في معرفة كل ما يتعلق بصحة رئيسهم، لكن الإعلان عن النزول إلى الشارع في هذا الوقت أمر لا يخدم الاستقرار، ويتناقض مع الموقف الشريف الذي أعلنته في البداية، وقد يفسر بأنه موقف انتهازي يستغل محنة شخصية.
وبعيدا عن تحميل المعارضة – مثلما يروق للبعض- مسؤولية تسميم الأجواء وإثارة الشكوك من خلال بث إشاعة عن انقلاب عسكري، و”موت سريري” للرئيس أقول إن مطلق هذه الإشاعة لم يفكر قبل بثها في ما قد ينجر عنها من أضرار على استقرار البلد و على الثقة بين أجهزته الأمنية، وعلى مصداقية المعارضة نفسها وصورتها لدى الرأي العام ، هذا إذا لم يكن مطلقها نفسه كان يفكر في خلق أجواء ينفذ من خلالها إلى الاستيلاء على السلطة في مغامرة غير محسوبة.
وليس التساؤل عن من يحكم موريتانيا الآن بوارد أبدا، وليس واردا أيضا الحديث عن منصب شاغر، وعموما دستور البلاد يحدد الطرق والجهات التي من حقها الدعوة إلى التحقق من ذلك، وهي لمن لا يعرفها محددة في المواد 40 ،41، 87 من الدستور الموريتاني…
فمن أجل التحقق من وجود مانع نهائي، للرئيس نفسه أو رئيس الجمعية الوطنية، أو الوزير الأول التقدم بطلب إلى المجلس الدستوري.. ولا يبدو أن الثلاثة يرون ما يستدعي ذلك.
********* ********* *********
وتبقى الشفافية السلاح الأفضل في هذا الظرف الصعب المتسم بالضبابية والحيرة وسيادة الإشاعة والتكهنات والإفتراضات المبنية على “أماني” هؤلاء وأولئك….
من حقنا جميعا معرفة الوضعية الحقيقية للرئيس بعيدا عن التسريبات الصادرة عن مصابين بقصر النظر… مصلحة البلد ومصلحة نظام حكمه تقتضي ذلك أيضا….
الشيخ بكاي
الاحد 28-10-2012|
128 تعليقات