من ذاكرة تلميذ “آرابيزان”
قرأت “ابن عم” حوار بين اثنين كررا فيه العبارات نفسها التي تُجتر منذ الستينات في حرب آن لها أن تتوقف.. صراع العربية والفرنسية..
ذكرني الحوار بالشعب العربية في الثانوية الوطنية بداية السبعينات.. فلو استمر الحال على ماكان عليه لكنا تجاوزنا الأزمة بعد كل هذه السنين..
كنت من بين الذين دخلوا الشعبة العربية في ثانوية نواكشوط العام 1976، وكان الصراع على أشده.. لم يكن صراعا ثقافيا فقط ، كان صراع وجود اجتماعي وحضور..
كان تلاميذ الشعب الفرنسية يسخرون من شعب العربية، ومن المصطلحات العلمية المستخدمة، ومن (الخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان، وإن التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله)… كانوا يقولون إننا سنتخرج مؤذنين في المساجد..
كان التحدي أمامنا إذن هو إثبات الوجود، وفي أذهان بعضنا إثبات أننا الأفضل ..
ركزنا على اللغتين الانجليزية والفرنسية، وعلى مقارنة المحتوى الدراسي..
كنت من بين فئة وضعت الانجليزية هدفا بصفتها وسيلة لطرد الفرنسية.. لم تكن هذه الفكرة “العبقرية” تخلو من غباء، لكنها أفادتنا كثيرا في تعلم تلك اللغة، أما الفرنسية فكانت تفرض نفسها.. وفي الواقع كان معظم أفراد شعبتي أقرب إلى الازدواجية..
فضيحة الـ 20 في الفلسفة:
يمكن أن يقال إننا كنا نعتدي على مهنة مفتش التعليم . فقد كنا نقارن محتوى الدروس في شعبتنا به في الشعبة الفرنسية.. وكان البرنامج شبه موحد علميا..
كنت أقوم بالمقارنات وإكمال ما أراه ناقصا انطلاقا من دروس أصدقاء من الشعب الفرنسية مثل امبارك ولد الكوري وسدوم ولد سيداتي ولد آبه.. ولم تكن هناك فروق تذكر..
كنت أركز على المصطلحات المستخدمة في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلسفة .. كان ذلك مفيدا في الفلسفة خصوصا حيث ساعد في استخدام المراجع بالفرنسية..
في السنة النهائية كانت تدرسنا الفلسفة أستاذة مصرية لم أكن معجبا بدروسها. لذا وجدتني مضطرا للتلصص على دروس الشعبة الادبية الفرنسية التي كان يقدمها إفريقي اسمه “لالاييه”، وكانوا يتحدثون عن مستواه الرفيع.. كنت أهرب من بعض الدروس، وأستخدم أوقات الفراغ التي تتصادف مع دروس “لالاييه”، فأحضر..
كانت العلامات الجيدة بين الـ 10 و12 من عشرين.. كان الفرنسيون والتونسيون لا يمنحون علامات مرتفعة، فيما كان المصريون يعطون العلامات في شكل أرفع ..
وكانت الصورة النمطية وقتها ارتباط ارتفاع العلامات بضعف مستوى الاستاذ والتدريس.. لست أدري لماذا كان هذا هو التصور.. فهمت في ما بعد أن الذين ذهبوا منا للدراسة في المشرق العربي ( السعودية مثلا) وجد كثيرون منهم مشاكل لأن بعض الكليات في السعودية لا تقبل الباكالوريا الحاصل حاملها على 60 في المائة.. وهناك كليات لا تقبل إلا المعدل المرتفع في الباكالوريا.. وكان معظم شهادات الموريتانيين بتقدير (مقبول)..
في امتحان الباكالوريا التمهيدي فوجئت بحصولي على عشرين من عشرين في الفلسفة.. وكان بالقرب مني سدوم ولد سيداتي ولد آبه وانا أنظر إلى الورقة.. أسرعت في طيها لكنه لسوء الحظ كان قد رأى “الفضيحة”، فصاح ضاحكا: “الشيخ عندو عشرين في الفلسفة) … كانت علامة 12 هي أرفع علامة يمكن إعطاؤها في الفلسفة كما أقنعونا وقتها..
قررنا زملائي وأنا أن نتجه إلى إدارة المدرسة ونتقدم بشكوى مرددين أننا لن نقبل التلاعب بمستقبلنا..
تم إلغاء النتيجة.. وأعيد الامتحان.. وحصلت فيه على 18 من عشرين.. (أفهم الآن أنه لم يكن في مقدور الاستاذة إعطائي أقل وإلا صدقت ما قلنا فيها)..
هذا الحادث مهم جدا.. وهو دليل على وعي كبير لدى ذلك الجيل من التلاميذ والاداريين والأساتذة..
في الواقع لم تكن الفروق كبيرة.. كان الفرق الأساسي في اللغة والادب..
وكانت لدي كثيرين منا رغبة في تعلم الفرنسية.. وأتذكر أنهم كانوا يسخرون من أحد زملائي في الفصل قائلين إنه يسهر ليحفظ مطبوعات عراقية باللغة الفرنسية.. وقد أصبح هذا الزميل من أكبر مترجمي إدارة الترجمة والتشريع التابعة للرئاسة..
كان لدي اهتمام بالاطلاع على الادب الفرنسي بلغته لا مترجما.. و استفدت كثيرا من الاخ الصديق سيد احمد ولد خو وهو من الشعبة الرياضية بالفرنسية لكنه كان أديبا متمكنا، يتقن اللغتين كل الاتقان ويحب أدبهما..
كنا نكتب ما اعتقدناه وقتها شعرا، ونكتب القصة القصيرة..
كان سيد أحمد مصدر أول رواية قرأتها بلغة أجنبية هي:
Les alouettes naïves
للكاتبة الجزائرية آسية جبار.. هي رواية حب وحرب تدور حول حرب التحرير الجزائرية..
ومن خلال سيد احمد أحببت شاتوبريان ولامارتين وفيكتور هوغو
كان أيضا من دلني على رواية:
Atala ou Les amours des deux sauvages dans le désert
للكاتب فرانسوا ريني دو شاتو بريان، إلى درجة أنني حفظت هذا المقطع:
La voix d’Atala s’éteignit ; les ombres de la mort se répandirent autour de ses yeux et de sa bouche ; ses doigts errants cherchaient à toucher quelque chose ; elle conversait tout bas avec des esprits invisibles.
ومع ولد خو “شممت رائحة” أول ديوان شعر أجنبي ، هو ديوان فيكتور هوغو Les orientales..
أتذكر من قصائده قصيدة
” Les Djinns”
التي يقول في مطلعها:
Murs, ville
Et port,
Asile
De mort,
Mer grise
Où brise
La brise,
Tout dort.
كنا نقرأ، ونحب لغتنا، لكننا لا نكره الفرنسية..
ش. بكاي