يوم في ظل “طائرة” .. جولة في “الاوكار”..
كانت ليلة ساخنة نهاية الخريف الماضي، وكنت أزور الرشيد الذي لم يعد “الواد”، ولم تعد بطحاؤه هي، ولم يعد قمره يبتسم لرؤية الحارسين الخالدين جبلي “الشنينيفه” و”مري”..
قلت لمرافقي:
حضر للسفر الليلة.. لن أبيت في المدينة.. سنبحث على الطريق عن أي خيمة بدوية نبيت عندها..
وبدأت جولة في “الاوكار” شمالي الرشيد حييت فيها الطلول، وأستنطقت أمكنة عرفتني وعرفتها “أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطير”.
في منطقة “آگنانة ” عثرنا على خيمة بدوية في هالة من نور: القمر، ورمال الرشيد الصقيلة البيضاء، وبياض الخيمة، وبياض النعاج وبعض النوق ..
شربت هنا شايا بنكهة “أ گني سيد احمد”، و”الازوال” ..
وفي الصباح حييت بطحاء صغيرة قرب ” أ گني” نصبت لي فيها خيمتي الصغيرة مرات حينما أكون وحدي في “لعزيب” مع الرعاة والزوار البسطاء من أهل البادية..
أخذت معي في هذه الرحلة اثنين كانا من أبرز الشهود على الحب الكبير الذي ربطني بالامكنة هنا… عاشا معي مختلف المراحل.. وكانا يرافقاني في رحلات “المـگاطع” .. والحديث عن “المـگطع” ذو شجون…
إنهما احميدي ولد باگه وأحمد ولد دحماده..
كنت إلى تاريخ قريب أرحل كل نهاية أكتوبر(نهاية أَلاَوَه) من منطقة الرعي الدائمة بين “انكدي” ولمجينـگره، و”بطحت إبراهيم” و”لحرج”، إلى شمال الرشيد أيام “ادخول الـگراط”..أحيانا تكون معي الاسرة، وأحيانا أكون وحدي مع الرعاة…
اتفقت مع مرافقي على أن أفضل مكان ظليل يمكننا المقيل فيه سيكون “الطيار”.. نعم “الطائرة”.. سيكون المقيل في ظل “الطيار”…
وبمجرد ذكر “الطائرة” وجدتها تقلع بي في رحلة أخرى عبر الزمن ونحن نقترب من خيم “أهل علال” في “انفالك تاوجافت”..
شربت الشاي عند إحدى الخيم ” ..لم أجد في الحي البدوي أناسا عرفتهم فيه.. لم أستمتع بالاستماع الى أحاديث الرجل المشهور في المنطقة سيدي ولد علال..
أعرف أنه لم يختر ترك ” انفالك لحسي” والارض تغطيها ” تلبوت” و” تجاوه” و “آقملاش”..
كان -رحمه الله- دائما يزورني كلما نزلت في المنطقة.. يقضي معي الأيام نثرثر في كل شيء يخص الابل، والبادية والمراعي.كانت جماله السمر الطويلة، طويلة الرقاب تعجبني، وكنت دائماأحاول اقتناء أحد “مراكيبه”، لكنه كان يرفع السعر إلى درجة تجعلني أتراجع..
كانت سمعتي في البادية أنني الشخص الذي يمكن أن يخدع لأنه يعطي أسعارا خيالية حينما يحب جملا أو ناقة..
وكان عيب إبل سيدي أنها مهما قيم به لن تقبل المكث بعيدا عن “احسي الكارة”، وهذا ما جربته حينما اشتريت منه جملا “فحلا ( اگعود) وناقة عشراء، فشلنا في المحافظة عليهما فقد كانت الناقة تهرب إلى وطنها. وقد اضطررنا إلى بيعها وبيع ( الگعود) الذي كان القيد في يديه على الدوام، مخافة أن يهرب..
“عيب” إبل ولد علال هو إذن “الوفاء”.. وهو “عيب” منعدم لدى الكثيرين من البشر..
بعد جولة في “لمفالك” وقفت على “احسي الگْاره”.. وحييت “الخويفيات”، و “اگْليبات أيتكرين”.. و”الدفعة”، و”ديارنا” إلى الشرق من “لحسي”: في “حفر أفرنان”.. وفي ” أگْدرنييت”..وحييت من بعيد “أدندون” و “تشنات”..
أتذكر أنني في العام 2005 أنزلت أسرتي في ” أگْدرنييت” بداية الشتاء..
أتيت بمن “بنى” لنا بالحجارة عينا ماؤها عذب بين الخيم..
كنت وقتها مديرا للصحافة والعلاقات الخارجية بوزارة الاتصال.. وكنت كل مساء خميس أذهب من نواكشوط أسوق سيارة صغيرة.. وتستقبلني سيارتي رباعية الدفع الموجودة عند الاسرة شمال الرشيد في “ظهر العمود” إلى الغرب من “تيجكجه”..
ولنحو ثلاثة أشهر كنت أقضي عطلة كل أسبوع مع الاهل، ويوم الاثنين أكون في مكتبي بوزارة الاتصال..
هو سفر أقطع فيه نحو 800 كيلومتر ذهابا، والمسافة نفسها عودة…
لم تكن طريق تكانت – آدرار قد أنجزت بعد..وبالمناسبة أشعر أن إنجاز تلك الطريق حرمني الاستماع إلى “موسيقى” يعزفها “محرك السيارة” وهو يعارك الكثبان الرملية بين ” لحرج” و”أشاريم” و ” تنيامل”، و”الظاية” ، و” إكجومن”، مرورا بأماكن أخرى تسكنني..
أعرف أن الصحة لم تعد هي، لكن (ولله الحمد) أشعر أنني قادر الآن على أن أقوم بالمجهود نفسه.. وما أنا متأكد من استحالته هو عودة الظروف والناس الذين أعطوا للارض جمالها..
هل يمكن أن يعود الأمواتُ وأشباهُ الأموات…؟
هناك الذين ترتقي أرواحهم إلى بارئها، وهناك من يموتون في الواقع.. يخرجون من دورة حياتك..
وهناك من يرحلون في الواقع لكنهم يمكثون في القلب…
رحم الله والدتَيَّ: ( خالتي وأمي)..كانتا تزينان المكان..!!
و”الرحمة ” أيضا لأشباه الأموات، وللراحلين من كل الفئات…
هل تعود الأحياء البدوية الكثيرة التي كانت تملأ المكان أيامها؟..
والرعاة هؤلاء الذين كانوا أصدقائي وإخوتي، ولم يكونوا لي رعاة، هل يعودون؟..
لن يعودوا.. لقد توزعوا بين فئات الميتين وأشباه الميتين، والظاعنين، مثل غيرهم..
والماشية هذه التي اشتريتها إبلا وأغناما وبقرا لأعيد بها تمثيل الحياة البدوية التي كنت أدرك أنها راحلة هي الأخرى، هل تعود؟..
لا لن تعود.. فقد تخلصت منها ولم يبق إلا قطيع إبل لم أستطع الفكاك منه لأني لا أستطيع ترك ظلال البادية و “تگْانت”..
كنت حينما آتي في عطلتي الاسبوعية القصيرة هذه أحرص على أن أركب الخيول والجمال، وأشرب شايا هنا تحت شجرة، وآخر هناك عند خيمة بدو…
كانت أحياء البدو أيامها تملأ المنطقة.. تُرى الخيم على مد النظر في كل الجهات..
واليوم ونحن نجول في “الاوكار” لم نلتق إلا برجل وابنتيه عند “لحسي”، وثلاث خيم لاسرة “أهل علال” الذين تحدثت عنهم..
كنت في العادة حينما أحل بأي مكان يمتلئ بالناس طول اليوم وفي الليالي.. أما اليوم فقد عجزت عن شخص واحد يقضي معنا المقيل..
قضيت يومي في ظل “الطيار” وليس معي إلا المرافقان…
سبحانك ما أقدرك!!
بدأت “مغامرة” إعادة تمثيل الحياة البدوية في العام 1998 .. وقتها وخلال سنين عديدة كنت أركب الجمل ويرافقني الكثير من الرجال على جمالهم.. نبيت هنا وهناك.. نقضي مقيلا تحت هذا “أگْنتور” ( الكهف)، وتحت ذاك..نشرب الشاي في هذا الوادي أو هذا “الفرع” ثم نعود إلى “الخيام”…
خلال السنوات الأخيرة لم يعد حتى الرعاة يركبون الجمال لأن “كبار الرعاة” تخلوا عن المهنة وفضلوا الهرب إلى أطراف المدن، أو المكث في قريات صغيرة من دون عمل..
والرعاة الجدد “صغار” بكل المقاييس..
وبالحسانية الواضحة: (ما اتليت جابر حد يحكم لي الايد)..
أنا متفائل دائما، وأرى الحياة جميلة، وأواجه غدرها وقبح بعض أهلها بقوة.. لكنني خرجت من هذه الرحلة أكرر مع ناجي إبراهيم:
“نزل الستارُ ففيمَ تنتظرُ/ خلت الحياةُ وأقفر العمرُ
لم يبقَ إلا مقفر تعس/ تعوى الذئابُ به وتأتمرُ
هو مسرحٌ وانفضَّ ملعبُهُ/ لم يبقَ لا عينٌ ولا أثرُ
ورواية رويت وموجزها/ صحبٌ مضوا وأحبّةٌ هجروا
عبروا بها صوراً فمذ عبروا/ ضحك الزمانُ وقهقه القدر”.