يهود السودان.. مقبرة تكسر صمت التاريخ
(الأناضول) – رغم أن الوجود اليهودي في السودان يعود إلى قرنين من الزمان، وكان مؤثرا، إن لم يكن مهيمنا على الحركة التجارية، إلا أنه لا شيء يدلل عليه اليوم، سوى مقبرة يتيمة، تتوسط العاصمة الخرطوم. فالمقبرة، المُهملة اليوم، لغياب جالية عبرية علنية، تبقى الوحيدة لتنشيط الذاكرة الشعبية، وهي تنسى عاما تلو آخر، تلك السنين البعيدة، التي كان فيها اليهود مكونا رئيسا، يعيش في وئام مع بقية السكان.
وهذه الأيام، يستدعي سكان الخرطوم القديمة، ذلك الأثر، على خلفية شروع السلطات في ترميم المقبرة، بعد التعديات المتواترة، التي تعرضت لها على يد أصحاب المحال التجارية المجاورة.
هؤلاء التجار جعلوا من المقبرة، الممتدة على مساحة نحو ألف متر مربع، ويتضح بالكاد، نحو 60 شاهدا من معالمها، مع اختفاء أثر قبور أخرى، جعلوا منها مكبا لنفاياتهم.
وعند تأسيسها، أواخر القرن التاسع عشر، على أرجح الروايات، كانت المقبرة تقع على الطرف الشمالي من الخرطوم، لكنها اليوم، تتوسط العاصمة، التي تمددت، وارتفع سكانها إلى نحو 9 ملايين نسمة. وفي العام 2008، طوّقت منظمة “حسن الخاتمة”، الحكومية المعنية بإدارة المقابر في البلاد، هذه المدافن بسياج حديدي، حفاظا عليها، لكن عدم وجود حراسة، جعلها عُرضة للتعديات.
متى دخل اليهود السودان؟
يقول المؤرخون أن اليهود دخلوا السودان، أول مرة عام 1821، من الحدود الغربية. ويشير أستاذ التاريخ والآثار، بروفيسور، فتح العليم عبد الله، أن اليهود في تلك الفترة كانوا يعتقدون أن جبل مرة الواقع في إقليم دارفور، هو جبل الطور، المقدس في ديانتهم.
غير أن المهاجرين الجدد بدأوا الانتشار، بشكل ملحوظ، مع بداية الحكم الإنجليزي، في 1899، الذي تفصل بينه والحكم العثماني، الدولة المهدية الوطنية، التي تأسست في 1885.ولاحقا، تمدد اليهود في العاصمة، ونشطوا في الأعمال التجارية، لدرجة أن إحدى أكبر وحداتها الإدارية، أخذت اسم “الحي اليهودي”.
النكسة العبرية
لكن الوجود اليهودي أهتز مع إعلان دولة إسرائيل بعد احتلال الأراضي الفلسطينية، في 1948، إذ لم يعد أبناء هذه الفئة محل ترحيب، كما كان عليه الحال، في العقود الماضية.
وأهتز وضعهم أكثر، بعد حرب 1967، التي انتهت باحتلال إسرائيل أراض عربية واسعة، وباتت تعرف لاحقا بـ”النكسة”، أو حرب الأيام الستة.والأثر اليهودي، طوي بشكل شبه كامل، في عهد الرئيس الأسبق، جعفر نميري، الذي حكم ما بين 1969 – 1985.
وكانت النقطة الفاصلة، عندما طبق نميري قوانين الشريعة الإسلامية، في 1983، ما حمل اليهود، الذين يعمل قسم كبير منهم في تجارة الخمور، إلى هجرات جماعية.وما دفعهم إلى الهجرة أيضا، قرارات التأميم التي اتخذها نميري بحق ممتلكات الأجانب عموما.
وكان من أبرز المصادرات التي طالت أملاك اليهود، شركات أسرة الحاخام “سلمون ملكا”، التي كانت تعرف باسم “جلاتلي هانكي”. ولم يكتف نميري بتأميم شركة الحاخام، بل أمم بيته، المُطل على نهر النيل الأزرق، في الخرطوم، ليكون مقرا لحزبه، تحول فيما بعد، إلى مقر لوزارة الخارجية، حتى الآن.
ومن يتفقد مقبرة اليهود اليوم، سرعان ما يقع نظره على قبر الحاخام مالكا، المُزين بنجمة داوود، ويفيد شاهده، باللغتين العبرية والإنجليزية، أن صاحبه مات، في 1935، بعمر 72 عاما.
نهاية الوجود العلني
ويروي أستاذ التاريخ واقعة محورية في هجرة اليهود، شهدتها مدينة كريمة، شمالي البلاد، في 1975، وهي مباراة لفريقي كرة قدم، هما فريق “البركل”، المدعوم من اليهود، وفريق “كريمة”.
وبحسب، المؤرخ السوداني، “فاز فريق البركل بهدفين لهدف، وأُعلنت النتيجة على الإذاعة الإسرائيلية، بعد 5 دقائق من نهاية المباراة، في الساعة 18.5 بالتوقيت المحلي”.وترتب على ذلك، كما يقول عبد الله، حملة أمنية ضد اليهود لـ “معرفة أجهزة الإرسال التي تمكنوا عبرها من إرسال نتيجة المباراة، غير أن السلطات فشلت في ذلك”.
ومع نهاية حكم نميري في 1985، لم يكن هناك وجود علني للجالية اليهودية، وإن كانت كثير من العائلات السودانية اليوم، ذات أصول عبرية، تتحاشى ذكرها.
وبالمقابل، فإن الصيدلي السوداني، “منصور إسحق إسرائيلي بنيامين”، حفيد أشهر تاجر يهودي، لا يخفي أطماع جده، الذي أتى إلى السودان، في القرن التاسع عشر.
ويحكي بنيامين، في مقطع فيديو سبق وأن نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، للتوثيق لعائلته، أن جده “جاء من العراق، وفور وصوله، تزوج امرأة من قبيلة الدينكا، ولاحقا تزوج من امرأة أثيوبية”.ويعتقد الصيدلي، الذي أعتنقت عائلته الإسلام، أن الزيجتين “لم تأتيا صدفة، بل أن جدي كانت لديه رغبة في بناء علاقات مع القبائل التي تسكن بالقرب من منابع النيل”.
وتستوطن قبيلة الدينكا، جنوب السودان، التي انفصلت عن الدولة الأم في 2011، وقريبة نسبيا من بحيرة فكتوريا، منبع النيل الأبيض، أحد الرافدين الرئيسين لنهر النيل.بينما ينبع النيل الأزرق، الرافد الرئيس الثاني لنهر النيل، من بحيرة تانا، في الهضبة الإثيوبية، شرقي السودان.
سودانية بنيامين نتنياهو
ولا يزال الصيدلي، البالغ 62 عاما، يستحضر تفاصيل حياته في الحي اليهودي، الذي يُسمى حاليا حي “المسالمة”، ويغلب على سكانه الأقباط.ومن أشهر سكان ذلك الحي، كما أفاد بنيامين، أسرة “ساسون”، التي أصبح ابنها “موشيه”، ثاني سفير لإسرائيل في مصر، بعد اتفاقية كامب ديفيد.
غير أن موشيه ساسون، لم يكن الوحيد المنحدر من أسرة سودانية، من بين الذين تقلدوا مناصب رفيعة في إسرائيل، إذ يجزم المؤرخ السوداني أن رئيس الوزراء، بنيامين نتياهو، ترعرع في السودان.
وكان والد نتنياهو، طبقا لأستاذ التاريخ، “يعمل في مصلحة البريد، بمدينة حلفا (شمال)، وأنجب هناك ابنه، في 1947، وليس كما تشير المعلومات إلى أنه ولد، عام 1948، في تل أبيب”. ويستشهد عبد الله بـ “الوثائق التي جمعتها المخابرات السودانية، منتصف القرن الماضي، وأكدت مكان وتاريخ ميلاده، ووظيفة والده، الذي عينته السلطات الإنجليزية”.ومن حين إلى آخر، تعيد وسائل إعلام سودانية وإسرائيلية الجدل حول أصول نتنياهو، الذي يؤكد أنه ولد في تل أبيب.
الكنيس والوزارة
ومن الآثار اليهودية، الكنيس الذي كان قائما في المقر الحالي لوزارة الإعلام، لكن لا يعرف ميعاد هدمه، على وجه الدقة.
والحال كذلك، لا شيء مادي يدلل على التاريخ العبري في البلاد، سوى المقبرة الحالية، التي تطرح تساؤلا عن مقابر أخرى مجهولة، إذ لا يُعقل أن يكون عدد الموتى اليهود في حدود 60، لقرابة قرنين.
لكن أستاذ التاريخ، يشير إلى أن “التفسير الوحيد، قد يكون أنه حتى سبعينيات القرن الماضي، كان المسلمين والمسيحيين واليهود يدفنون موتاهم، في مقبرة واحدة، مُقسمة داخليا، دون حدود واضحة”.
وفيما تشير روايات غير مؤكدة، إلى مقبرة يهودية على مساحة خالية حاليا، وسط الخرطوم، يبقى المدفن الحالي، بشواهده الـ 60، الوحيد الذي يكسر صمت التاريخ، حيال هذا الإرث العبري.
100 تعليقات