«قصائد جديدة» لأنطونيو ماتشادو: تأسيس للحداثة وموت في المنفى القريب
اسمان إثنان، يرتبطان ببعضهما بعضاً. صاحب أولهما ينتمي إلى أميركا اللاتينية، والثاني إلى إسبانيا، وهما يذكران معاً حين الحديث عن التأسيس الفعلي للحركة الشعرية باللغة الإسبانية في القرن العشرين. الاسم الأول هو روبن داريو، والثاني أنطونيو ماتشادو. وعلى رغم أن ثلاثة وعشرين عاماً تفصل بين رحيل أولهما ورحيل الثاني، فإنهما ساهما معاً، ومن خلال صداقتهما، في وضع الأسس التي قام عليها الشعر الحديث في قسمي العالم الإسباني اللغة.
> ولئن كانت حياة روبن داريو القصيرة لم تتح له ان يلعب دوراً أساسياً كبيراً، بخاصة انه عاش متنقلاً شريداً، فإن ماتشادو لعب مثل ذلك الدور، ووصل الى حد ان اعتبر من كبار شهداء الحرب الأهلية الإسبانية، هو الذي ساهم في تلك الحرب الى جانب الجمهوريين، واضطر في النهاية لسلوك درب المنفى مع أمه عندما انهزم الفريق التقدمي الذي ناصره، فمات عند بداية منفاه، ما جعله بطلاً للكثير من قصائد أراغون وبول إيلوار وغيرهما، من دون أن ننسى هنا تخليد عدد من المغنين الفرنسيين والإسبان والأميركيين اللاتينيين لاسمه في أغان ربما تكون منسية بعض الشيء في هذه الأيام التي يغيب عنها أكثر ما يغيب مفهوم القيم. ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة الى أن ما من شاعر كتب ويكتب بالإسبانية يفوته أن يذكر حين يُسأن عن الشاعر الذي أثّر فيه أكثر من أيّ شاعر آخر، إلا ويذكر ماتشادو بوصف ذلك الشاعر. ولئن كان ماتشادو قد عُرف بيساريّته الفاقعة، فإن كاتباً كبيراً حسب نفسه دائماً على خط اليمين، هو الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، لم يفته أبداً أن يذكره مبجّلاً حياته وشعره. ولئن نُظر دائماً الى حياة ماتشادو بوصفها قصيدته الأقوى والأجمل فإن أهميته الأولى بالنسبة الى عالم الفكر والشعر ستظل دائماً شعرية ابداعية، أكثر منها سياسية لأنه يعتبر الأب الحقيقي لمدرسة الحداثة في الشعر الإسباني، الى جانب لوركا وغيره.
> ولد أنطونيو ماتشادو عام 1875 في إشبيلية، ابناً لكاتب معروف، وكان يصغر أخاه مانويل، وهو بدوره كان شاعراً حداثياً كبيراً، بعام واحد. وتلقى انطونيو تعليمه في جامعة مدريد، وفي معهد التعليم الحر فيها. وبدأ اهتمامه بالشعر باكراً، لذلك نراه يتوجه الى باريس عام 1899، وكانت المحجّ الذي لا بد منه لكل مبدع إسباني، يقصدها ليس فقط لكي يكتسب شهرة واسعة فيها، إن كانت مواهبه تؤهله لذلك، بل لكي يتعلم منها ضروب الحداثة المازجة بين الثقافات، وكيف ينبغي على المبدع ان يغوص في نوع إبداعه ولكن كذلك في ضروب الإبداع الأخرى كافة. وكان هذا دأب ماتشادو الشاب الذي حتى وإن كان قد عاهد نفسه ان يعود من عاصمة النور شاعراً مرموقاً، كان يعرف أنه سيعود متخماً بالشعر وبالموسيقى والرسم والفكر بصورة عامة. فالشاعر، في نظره، كان لا يمكنه أن يكون شاعراً لمجرد امتلاكه ناصية اللغة وحدها. وهناك في باريس اتصل شاعرنا الشاب بالحلقات الأدبية، وتعرف بخاصة على روبن داريو، ناهيك باتصاله بالعديد من المبدعين الإسبان والأميركيين اللاتينيين الذين كانوا يعيشون في فرنسا أو حتى يزوروها بين الحين والآخر. ومع هذا فإن ارتباطه بروبن داريو كان صاحب الأثر الحاسم فيه كما سيقول لنا في يومياته وكذلك في أشعاره لاحقاً.
> وبعد أن أمضى فترة لا بأس بها من الزمن في باريس سيقول لاحقاً أنها علمته معظم ما تعلمه في حياته، عاد ماتشادو الى اسبانيا، حيث شغل كرسي دراسة اللغة الفرنسية في كلية سورْيا. وكان في 1903 قد اصدر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان «ضروب الوحدة» وهي المجموعة ذاتها التي أعاد إصدارها بعد ذلك بأربع سنوات، معدلة ومزيدة تحت عنوان «ضروب الوحدة، رواقات وقصائد أخرى». ومنذ تلك الأشعار المبكرة حدد ماتشادو اتجاهه الشعري المازج بين الإيقاعات الشعبية الأندلسية وبين المواضيع التي كانت تطغى على اهتمام المبدعين عند نهاية القرن، مثل الزمن والموت والكآبة. وفي سوريا (وهي مدينة إسبانية)، تعرف في تلك الأثناء على ليونور كونفاس التي تزوج منها ورحل معها مجدداً الى باريس حيث راح يدرس الفلسفة هذه المرة على فيلسوفها الذي كان الأشهر في ذلك الحين، هنري برغسون.
> غير ان اقامته الباريسية لم تطل بل اضطر للعودة اثر مرض زوجته التي رحلت عن عالمنا حال عودتهما، فاتجه هو ليعيش في مسقط رأسه ويكتب بعض أكثر القصائد حزناً وكآبة في سجله الشعري. وهي قصائد عاد وجمعها في «الأعمال الكاملة» التي أصدرها في ذلك الحين، وكان لنشرها وقع كبير على قراء الشعر والحلقات الأدبية التي وجدت في ذلك الشاعر الحزين، معلّماً حقيقياً لجيل من الشعراء الشبان كان يبحث عن معلم. والحقيقة ان التفاف شعراء الجيل الجديد من حوله، اخرجه من كآبته ودفعه، ليس فقط الى استعادة مذاق العيش، بل كذلك الى نوع من الربط بين الاهتمام الشعري والاهتمام السياسي. وهكذا في الوقت الذي توجه للإقامة في سيغوفيا حيث شعر ان بإمكان حياته ان تكون اكثر امتلاء وفائدة لأن سيغوفيا كانت في ذلك الحين مركز نشاط فكري وسياسي صاخب يبدو أنه لاءمه من الناحية الفكرية والسياسية بقدر ما كانت العاصمة الفرنسية قد لاءمته من الناحية الإبداعية، بدأ يكتب سلسلة من القصائد القصيرة الحادة التي راحت تضرب على وتر الشعر الشعبي الأندلسي، بحيث تبدو صالحة للغناء من دون تلحين، وهذه القصائد جمعها ماتشادو في ديوان حمل عنوان «قصائد جديدة» (1917 – 1920) وصار انجيل الساعين الى إحداث تجديد حقيقي في الشعر الإسباني ليس فقط في الأشكال الشعرية التي بدت أحياناً مغالية، حتى، في تجديديّتها، بل كذلك في مواضيعها التي راحت تتّسم أكثر وأكثر بطابع إنساني وبنزعة تقدمية تبتعد به عن النزعة المحافظة التي كان قد تلمّسها لدى أستاذه في الفلسفة برغسون حتى وإن كان قد احتفظ منه بأحسن الذكريات الفكرية من ناحية الاطلاع على الزمن وعلاقته بالحياة وهي العلاقة التي لا شك في أن في وسعنا تلمّس حضورها الكبير في أشعار «قصائد جديدة» التي ستظل تعتبر من أقوى مجموعاته. وعلى أي حال، الى تلك الفترة بالذات تعود بداية اهتمام شاعرنا بالحياة السياسية أو مناصرته المعلنة والجريئة في ذلك الحين، للأحزاب اليسارية وللحزب الشيوعي الإسباني منذ تأسيسه في تلك المرحلة. وهي مناصرة لم يخفف منها انتخابه عضواً في الأكاديمية الملكية الإسبانية في 1927، بعد عامين على اصداره طبعة جديدة لـ «الأعمال الشعرية الكاملة».
> في 1931، وقد باتت المعركة السياسية حامية الوطيس عاد ماتشادو الى إسبانيا، حيث بدأ يهتم بالكتابة الصحافية، وراح ينشر في صحيفة «إلـ سول» سلسلة من المقالات والحواريات الساخرة التي جعل لها بطلين هما خوان دي ميرينا وآبيل مارتان، وجعل هذين البطلين يتناقشان في شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، في شكل عابق بالسخرية والغضب. ومن المعروف ان هذه المقالات ساهمت في شعبية حركات الغضب التقدمية وفي التفاف النخبة المثقفة من حولها. ولقد اضاف ماتشادو الى بطليه شخصية ثالثة، نسائية هذه المرة، سماها غيومار، ظل الاعتقاد سائداً بأنها شخصية خيالية، حتى كشفت باحثة في 1950، عن كونها شخصية حقيقية كانت هي في الواقع الغرام السري والأخير في حياة ذلك الشاعر الذي كانت الحكاية قد قالت أنه أبداً لم يتخذ لنفسه حبيبة منذ رحيل زوجته.
> خلال الحرب الأهلية الإسبانية، عاش أنطونيو ماتشادو متنقلاً بين مدريد وبلنسيه وبرشلونة وكان خلال كل تلك المرحلة، يواصل الكتابة التحريضية في مجلة «اورا دي إسبانيا»، وكانت مقالاته تعبق بأمل انتصار الجمهوريين، ولكن ذلك الأمل لم يتحقق بل قُضي عليهم وعلى آمالهم التي كانت عريضة، بتواطؤ من النازيين الألمان والفاشيين الإيطاليين واليمين الفرنسي – هل يذكرنا هذا التواطؤ بشيء يحدث في أيامنا؟ -، لينتهي الأمر بانتصار فاشيي فرانكو. وهكذا اضطر ماتشادو الى الهرب في اتجاه فرنسا، حيث عبر الحدود وأقام فترة في مدينة كوليور، مع أمه، لكن إقامته هذه المرة لم تطل، إذ سرعان ما قضى في منفاه ذاك في أحد أيام شباط (فبراير) 1939 فدفن في المدينة الفرنسية القريبة من إسبانيا.
إبراهيم العريس- المقال للحياة