الجزائر: هل كان بالإمكان أحسن مما كان؟/ دكتور محيي الدين عميمور
13 مارس 2019، 01:59 صباحًا
عندما أخذت في استعراض المواقف الأخيرة للرئيس عبد العزيز بو تفليقة تذكرت حكمة تقول: إذا كان هؤلاء هم أصدقاؤك فأنت لست في حاجة لأعداء.
وواقع الأمر أنني كنت أتابع الأحداث منذ الإعلان عن الاستعدادات للانتخابات الرئاسية بمزيج من القلق والإحباط، فقد كنت أعرف في الرئيس ذكاءه ومقدرته على اختيار أحسن البدائل بالنسبة للقضايا المطروحة، لكنني أحسست مع البلاغ الذي قرأه مدير حملته الانتخابية السيد زعلان، بعد إعفاء السيد سلال، بأن هناك شيئا ما لا ينسجم مع ما كنت أعرفه في الماضي عن “سي عبد القادر”.
وتملكني الشعور بأن السيناريو والإخراج تولى أمرهما أناس يكرهون الرئيس ولا يريدون به، في مرضه وشيخوخته، خيرا.
ومن هنا قلت في مقال سابق بكل موضوعية، وفيما يتعلق بقرار التقدم لعهدة خامسة، إن هذا، إذا كان قرارا اتخذه الرئيس نفسه، فهو خطأ سياسي غير جدير بشخصية في مستواه، ذكاء وممارسة وخبرة، أما إذا كان قرارا اتخذه آخرون فهو خطيئة سياسية، ارتكبها من يتحملون المسؤولية الأولى في غضبة الشعب ضد رجل هتفتْ باسمه يوما ما أغلبية ساحقة من شعبٍ من حقه أن يحلم بالاستقرار وبالازدهار، ويناصر من يَعِدُ بتحقيق ذلك ويقف معه في كل الظروف.
من هنا كان يمكن أن أشعر بالسعادة عندما بثت وكالة الأنباء الجزائرية الاثنين الماضي رسالة الرئيس التي يعلن فيها مجموعة من القرارات، ويقول فيها إنه لم يكن ينوي الترشح لعهدة خامسة، وهو ما تناقض مع الرسالة الأولى ليؤكد أن هناك كاتبان مختلفان.
ولم تكن وضعية الارتباك التي أحسست بها أمرا مألوفا بالنسبة لما عرفتُه عن قمة المؤسسات السيادية الجزائرية، وارتبط هذا باللقطات الجماهيرية الساذجة التي قدمتْ فيها تلفزة خاصة، بتعليمات مؤكدة ولمدة لعلها تجاوزت الساعة وفي سابقة لم تعرف في أي بلد محترم، مغادرة الطائرة الرئاسية إلى جنيف ثم عودة الطائرة الرئاسية إلى الجزائر، وكان المُخرج أو من وراء المخرج مخلوقا لا علاقة له بالإخراج الذي يتطلب الاهتمام بما يُسمّى (RACCORD) أي تطابق الصورة السابقة مع الصورة اللاحقة في لقطة تبين حدثا واحدا في وقت واحد، وبرغم أن وجود طائرتين من نفس الطراز ليس أمرا مستحيلا، لكن من تابعوا البث المباشر اكتشفوا رقمين مختلفين لطائرة المفروض أنها طائرة واحدة، وكان ترقيم الطائرة الرئاسية التي غادرت الجزائر لتأتي بالرئيس (7T-VPM) مختلفا عن ترقيم الطائرة التي قالت المذيعة الطيبة إنها جاءت به، والذي كان (7T-VPS)، بدون أن يرى أحد الرئيس لا في المغادرة ولا في العودة، وهو شيئ قد يعتبر طبيعيا بالنسبة لوضعيته الصحية، لكن البث المباشر هو الذي لم يكن أمرا طبيعيا، بل بدا كاستجداء للتعاطف الجماهيري، وكان بثا غبيا لم يلحظ الترقيم، وصاحبته ثرثرة طويلة مزعجة من مذيعة مسكينة أمروها، وأجبرتها لقمة على العيش على التنفيذ.
وكان البث المباشر لتحركات أسطول السيارات داخل المستشفى السويسري ثم من مطار بو فاريك بالجزائر عملية سخيفة غير مألوفة، أثبتت أن وراءها من أراد أن يثير اهتمام المشاهدين وهو لا يعرف معنى البث المباشر الذي يجب أن يستقطب الانتباه.
وإذا كنت توقفت عند كل هذا فلأنني رأيت فيه حجما من التهريج الذي أساء لعملية سياسية لم تكن عملية عادية، رأى بها رئيس الجمهورية، أو من يُشير عليه، الاستجابة للضغط الشعبي الرافض لعهدة خامسة، وكان الارتباك الذي أحسسنا به إساءة للمضمون نفسه، وبالتالي إساءة للرئيس نفسه، ولعله تأكيد لأحقية مطلب الجماهير بإلغاء عهدة رئاسية لا يملك فيها الرئيس من أمر نفسه شيئا كبيرا، وهو الذي عرف عنه أنه يتابع الصغيرة والكبيرة.
وكانت الملاحظة الأساسية الأولى هي أن المضمون الرئيسي لرسالة الرئيس الأخيرة كان هو نفسه مضمون رسالته الأولى، مع اختلاف جوهري هو إعلان الرئيس في تلك عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية، التي ستتم بعد الندوة التي سبقت الإشارة لها في الرسالة السابقة.
وكنت قلت إن هناك قرارات كان يمكن أن تكون رائعة لو اتخذت في وقتها، لكنها تصبح كسمكة تطبخ بأحشائها بعد أيام من تركها تحت شمسِ يومٍ من أيام الصيف الحارة، وهو ما ينطبق على قرار عدم الترشح، الذي احترم تاريخ 13 مارس، لأن الدستور يمنع “الانسحاب” بعد ذلك التاريخ.
وكانت نقطة الضعف الرئيسية في الإجراء المتخذ، وطبقا لما تناوله حقوقيون، أنه لا يخضع بشكل مباشر لأي مادة دستورية، حيث أن تأجيل الانتخابات الرئاسية، والذي “أوحيَ” بأنه اعتمد على تفسير للمادة 107 من الدستور، مرتبط باتخاذ رئيس الجمهوريّة “قرار الحالة الاستثنائيّة إذا كانت البلاد مهدّدة بخطر داهم يوشك أن يصيب مؤسّساتها الدّستوريّة أو استقلالها أو سلامة ترابها. (..) وتخوّل الحالة الاستثنائيّة رئيس الجمهوريّة أن يتّخذ الإجراءات الاستثنائيّة التي تستوجبها المحافظة على استقلال الأمّة والمؤسّسات الدّستوريّة في الجمهوريّة”.
والإجراء الاستثنائي الذي تقرر هنا هو تأجيل الانتخابات الرئاسية، والذي يراه كثيرون ليّاً لذراع المادة المذكورة، والتفافٌ حول المادة 102 التي طالبت بها المعارضة، وهي إعلان حالة الشغور، والبعض ينسى أنها مرتبطة بالمادة 104 التي تمنع رئيس الدولة المؤقت من إجراء أي تحوير وزاري، أي أن الحكومة تبقى كما هي في حالة إعلان الشغور وتكليف رئيس مجلس الأمة بمهمة رئاسة الدولة لمدة 45 يوما، وهذا يمكن أن يراه البعض تحديا للجماهير التي نادت بالتخلص من العديد من الأوجه الوزارية التي كانت عبئا على المسيرة.
وبرغم أن القرار بتأجيل الانتخابات الرئاسية كان واحدا من مطالب شخصيات معارضة وكان يجب أن يقابل بالترحيب منهم ومن المجموع غير الخبير بالشؤون الدستورية، إلا أن ما حدث كان مدهشا، فقد اختفت أصوات سياسية لم تكن صائمة في الأيام الماضية عن التصريحات، وظلت شخصيات أخرى غائبة عن الساحة، وتكاثر عدد المعلقين الإستراتيجيين الذين راح معظمهم يلقى الزهور على الحراك الشبابي، بدون أن ينسى كلمات التمجيد للجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني.
لكن ردود الفعل السلبية كانت تثير الدهشة، من جهة لأنها راحت تشكك في جدية العملية كلها وفي صدق نوايا السلطة في تحقيق وعودها، وبرغم أنها لم تكن على خطأ مطلق لكن الخط الفاصل بين الثورة والفتنة خيط رقيق.
وكان أخطر ما حدث في رأيي أن البعض أعطى الشعور بأنه كان يريد استثمار الحراك الشعبي لغير الأهداف الأصلية التي انطلق من أجلها وهو إسقاط العهدة الخامسة للرئيس بو تفليقة، وبحيث بدا أن خلفية بعض ردود الفعل كانت الانتقام من السلطة، بل ولم يتردد البعض من القول صراحة بأنه يندد بنظام الحكم منذ استرجاع الاستقلال.
وتملكني الشعور بأن هناك من كان يأمل في سيناريو آخر يقتدي بما حدث في 1992، لينتزع السلطة من جديد خارج كل إطار دستوري أو مباركة شعبية، ولتصفية الحساب مع كل من لا ينسجمون مع طرحه الإيديولوجي أو مذهبه الفكري .
ولم يكن سرا أن الرئيس بو تفليقة قد خلق لنفسه حجما هاما من الخصوم بل والأعداء، فحجم من تمت تصفيتهم من المسؤولين المدنيين والعسكريين خلال العقدين الأخيرين لم يكن قليلا، ومؤسسة الثقافة والاتصال وحدها أقيل منها نحو 16 عشر وزيرا، كثير منهم لم يُكمل السنة، وهو ما يعطي صورة عن حجم خصوم الرئيس في معظم ولايات الجمهورية، ويعيد إلى الأذهان مزاعم وجود شبكة تم تكوينها خلال السنوات الماضية، هي التي نظمت الاحتجاجات الجماهيرية، لكن هذا، حتى إن صدق، لا يُفسّر ضخامة الأعداد الهائلة التي جعلت من الحراك الشعبي حدثا عالميا وظاهرة تلقائية تختلف تماما عن أحداث 1988 المشبوهة، والتي تأكد أنها دُبّرَتْ بليل.
وبرغم أن الوزير الأول، الذي يكرهه كثيرون في الجزائر، “استقيل” في نفس اليوم، وهو ما كان من المفروض أن يرضى عنه المتعاملون السياسيون، لكن أحدا منهم لم يقف عنده، بل راحت الأصوات تندد باختيار وزير الداخلية ليحل محله، على أساس أن الوزير الأول الجديد متهم بالتضييق على المعارضة.
وهنا أيضا تبرز صورة من صور الارتباك الذي ميز جل التحركات، فقد كان من ضروريات التكتيك أن يختار الرئيس لمهام الوزير الأول شخصية أخرى، لم تكن لها أي علاقة بالملفات الانتخابية وبالتعامل مع أحزاب المعارضة، لكن الاختيار كان من النقاط التي ركزت عليها تنديدات معظم من تابعت تدخلاتهم عبر العديد من قنوات التلفزة، ولعل هذا هو نتيجة الإشاعة التي قدمت رمطان (وليس رمضان، كما يصر) لعمامرة في البداية بصفته المرشح للمنصب الحكومي الأول.
وكان من العناصر الرئيسية في الرسالة الجديدة للرئيس العودة لقضية الندوة الوطنية، وسبق أن قلت أن فكرة الندوة يمكن أن تعتبر استنساخا فات زمانه لفكرة جبهة القوى الاشتراكية والمتمثلة في عقد مؤتمر تأسيسي، وهو ما رفضه الكثيرون طوال الستين سنة الماضية لمجرد أنه يلغي مسيرة عقود من العمل الوطني، سلبيه وإيجابيه.
والندوة كان يمكن أن تكون اختتاما رائعا للعهدة الثانية للرئيس الجزائري في 2009 لو لم يُعدّل الدستور، بشرط أن ترتبط بعملية نقاش واسع يشبه ما عرفته الجزائر في منتصف السبعينيات، وهنا كان يمكن أن يُجدّد النظام نفسه، وهو ما كنت قلته في 2008، وجرّ عليّ الكثير من الانتقادات والمواقف السلبية.
لكن الحديث عن ندوة لا يُعرف على وجه التدقيق من سوف يشارك فيها وكيف يتم اختيارهم في ظل تحفظات على النظام نفسه يظل مجرد بلاغيات.
وكنت أفضل لو سبق كل هذه التطورات لقاء مع أهم أطياف المعارضة وأحزاب الموالاة وربما شخصيات وطنية يمكنها أن تثري الحوار وتكون إعداد لمضمون الندوة نفسها.
وهذا في حد ذاته رفض للتوجهات العدمية التي تريد التخلص من كل من عرفتهم الساحة، وهناك من طالب، بتوقيع مستعار، باستبعاد كل من تولّى وظيفة ما منذ 1999، وقال آخر …منذ 1962.
وواضح من الذي يمكن أن يستفيد من وضعية الفراغ، خصوصا وأن البعض راح يغمز بعينه للقوات المسلحة مستجدا بركاتها، ولعل قدوته هو ما عرفته مصر بعد 2013.
والغريب أن أحدا ممن راح يُشكك في أهداف الندوة وموضوعية طرحها وظروف عقدها لم يحاول اقتراح عقدها قبل 18 أبريل، أي قبل اليوم المقرر للانتخابات الرئاسية، لتختتم قبل 28 أبريل، أي اليوم الذي تنتهي فيه عهدة الرئيس بو تفليقة، وهو أمر كان من الممكن أن تقبله الرئاسة، لكن عدم طرحه يمكن أن يطرح تساؤلات عن جدية المشككين في تعاملهم مع هذه القضية بالغة الأهمية.
وأبرزت جل اللقاءات المتلفزة أن الرافضين لمجموع الإجراءات التي قررها الرئيس كانوا أغلبية هامة من رجال الأحزاب ونشطاء سياسيين سمعت بأسماء بعضهم للمرة الأولى، ومن بينهم أعداد هامة في مواقع التواصل الاجتماعي كانت معظم تعليقاتهم السلبية بتوقيعات رمزية مستعارة.
وكان الغريب أن كل المنددين والمهاجمين لم يتوقفوا للحظة واحدة عند فضيلة واحدة يمكن أن تنسب للرئيس بو تفليقة، وهو، في تصوري، خطأ إعلامي يثير الشكوك في جدية كل الاتهامات التي تناولت الرئيس، وكثير منها صحيح، لكن المواطن البسيط يعرف أنه، حتى إبليس، كانت له شجاعة رفض أمر المولى عز وجل بالسجود لأدم.
ومن هنا قلت بأن المشككين في قرارات الرئيس فريقان، فريق يخشى خيبة الأمل، وهو على حق في ذلك لأن خيبات الأمل، خصوصا في العهدة الرابعة وربما قبلها أيضا، كانت كثيرة، وفريق كان يُعدّ للاستفادة من التظاهرات بالعودة إلى أسلوب 1992، ومن هنا أيضا رحت أحذر عبر موقعي في “الفيس بوك” من أن هناك صيحات حقٍ قد يُرادُ بها باطل ، وثمن الاستجابة لها قد يكون أغلى مما نظن.
وأعود إلى سؤال بديهي.
هل أحسنت الرئاسة الجزائرية صنعا بالإجراءات التي قررتها في هذا الأسبوع الأول من مارس؟.
والإجابة النزيهة في رأيي المتواضع هي أنها كانت أهون الشرين، لأن كل الاحتمالات الأخرى كان يمكن أن تقود إلى ما لا يحمد عقباه، ولمجرد أن الساحة السياسية تعيش وضعية فوضى وارتباك، وليس هناك شخصية سياسية واحدة يمكن أن تحقق حجما معقولا من الإجماع يسمح لها بأن تقود السفينة لبر الأمان.
ولهذا قلت في الفيس بوك : لا تثقوا فيمن ينثر النصائح مختفيا وراء توقيع مستعار، وراجعوا “بروفيل” كل معلق مجهول لتعرفوا من هو، حذارِ من كل تسلل.
فعندما يطالب البعض بالتخلص من كل أعمدة النظام واستبدالهم بممثلين عن الحراك الجماهيري تبدو الفكرة رائعة، لكنها تُذكر على الفور بالقصة الشهيرة التي تمحورت حول سؤال: من يضع الجرس في رقبة القط؟.
ونظرا لأن سمعة المعارضة الجزائرية على العموم ليست خيرا من سمعة نظام الحكم نفسه فقد قوبلت بالشكوك دعوات معارضين كثيرين لمواصلة الحراك إلى حين إسقاط النظام بكل عناصره، لأن السؤال البسيط الذي طرح نفسه: وماذا بعد ذلك؟
وعندما كان الرد: على الحراك الشعبي أن يُفرزَ قياداته ليقرر ما يريد، كانت الإجابة من كثيرين: … وإلى أن يحدث ذلك كيف يمكن ضمان السير العادي للدولة؟ وكيف يمكن اختيار شخصيات مسؤولة في حراك شعبي هادر يغطي 48 ولاية.
ويتضح من تلك التعليقات المتواصلة أن هناك من يريد إحداث فراغ يدفع القوات المسلحة إلى التدخل، بأمل أن تعود سيطرة الأقلية التي عرفنا دورها في تخريب الوطن خلال العشرية الحمراء.
لكن الجماهير أدركت بأن التصعيد ليس في مصلحة الحراك الشعبي، ومن هنا تنادت كل الأصوات رافضة فكرة العصيان المدني التي راح البعض يدعو لها بحماس أثار الارتياب.
ولقد قلت إن البعض يرى فيما حدث عملية التفاف ذكيّ، وهو احتمال مطروح، لكن الذكاء يواجه بالذكاء وليس بالتهور.
وبرغم أن كل إجراء تتخذه السلطة يثيرا شكوكا أكثر في نزاهته وجديته فإن الإسراع بتكوين وزارة تضم شخصيات يحترمها الشارع الجزائري هو أمر حيوي وعاجل، وعقد لقاء مع ممثلي اتجاهات الرأي العام، ورجال الإعلام بشكل خاص، هو ضرورة، مع تفادي كل من يُعرف عنهم أي ارتباط بأجهزة تنفيذية وأمنية، والجماهير تعرفهم اسما وشكلا ومسيرة.