ولد ابريد الليل.. والاستفهامات الثلاثة / محمد المنى
يتميز الفقيد محمد يحظيه ولد ابريد الليل عن جميع الساسة الموريتانيين بشخصيته ذات البعد الثقافي المجرد، الأدبي والفكري العميق، والتي تجعله يتجاوز في تصوراته السياسية حدود الواقع ويجنح في مرئياته إلى نوع من «الواقعية السحرية» في فهمه لمشكلات الدولة والمجتمع وفي استشرافاته للمستقبل وآفاق تحولاته. لذلك لا غرابة إن خرج على النص الحزبي والإطار التنظيمي في أحيان عديدة، فهو بأفكاره وأخيلته وعواطفه الواعية المتعقلة أوسع من أي أيديولوجيا حزبية أو مواقف سياسية مسطورة.
وثمة ثلاث قضايا تثير الاستفهام والتساؤل لديّ منذ سنوات، أتمنى أن يقدم لنا بعض رفاق الفقيد محمد يحظيه توضيحاً كافياً لإنارة الرأي العام بشأنها:
الأولى تأييده اللا محدود لجبهة البوليساريو، خلافاً لموقف حزب البعث ممثلا في قيادته العراقية التي لم تعترف يوماً بـ«الجمهورية العربية الصحراوية»، انسجاماً من «البعث» مع موقفه الوحدوي الرافض لأي حالة انفصالية تزيد تقسيمَ وتَجزُّأَ الوطن العربي المقسَّم والمجزَّأ أصلا. لكن عكساً للحزب ولخطه الوحدوي، جعل محمد يحظيه الموقفَ من البوليزاريو معياراً ضابطاً لعلاقته بأي نظام حكم موريتاني؛ تأييداً أم معارضةً، قبولا أم رفضاً. فهل يمكن القول إنه في هذا الموقف مثّل حالةً «بعثية» شاذة تضاءل فيها المكوِّن القومي الوحدوي في أيديولوجية الحزب لصالح المكون اليساري فيها، حيث كان اليسار العالمي مؤيداً قوياً لـ«كفاح الشعب الصحراوي»؟ أم أن هناك عوامل أخرى تفسر انحيازه لـ«القضية الصحراوية» وأولويتها المطلقة بالنسبة إليه؟
المسألة الثانية موقفه الغامض من واقع اللغة العربية ومطلب التعريب؛ وهي مسألة مبدئية بالنسبة لحزب البعث لا يقبل المساومة فيها، حتى أن أحد رفاق محمد يحظيه في الجناح المدني لحركة العاشر من يوليو (كان محسوباً على «البعث» في مرحلة معينة) برر الانقلاب بالقول فحسب إن المختار ولد داداه ألقى خطاب الاستقلال باللغة الفرنسية! لكننا سنجد أن قادة الدولة خلال العهود اللاحقة سيواظبون على إلقاء خطاباتهم بلغة المستعمر ذاتها، دون أن يجد محمد يحظيه في ذلك السلوك ما يستحق الملاحظة، بل اعتاد هو نفسه أن يكتب مقالاته الموجَّهة إلى الرأي العام الموريتاني باللغة الفرنسية ذاتها. فهل رأى في التعريب مسألةً شكليةً وقليلةَ الأهمية قياساً إلى مسائل أخرى أكثر أولوية أو ذات طابع استراتيجي ملح؟ أم أنه انسجم في هذه أيضاً مع اليسار (الحركة الوطنية الديمقراطية) وموقفه من التعريب كدعوة شوفينية ضارة بالوحدة الوطنية؟!
أما المسألة الثالثة والأخيرة فهي كون محمد يحظيه كتب العديد من المقالات ضمَّن بعضَها مرئياتِه الاستراتيجية حول المستقبل وبعضها الآخر اشتمل على آرائه ومواقفه الناقدة بشدة لمرحلة الاستقلال والتأسيس ونظام حكم المختار ولد داداه.. لكنه لم ينشر (على حد علمي) أي مكتوب عن العهود السياسية وأنظمة الحكم اللاحقة التي كان جزءاً منها، مسؤولا تنفيذياً ومرشَّحاً انتخابياً ومنظِّراً سياسياً وموجِّهاً فكرياً ومؤيِّداً حزبياً. فهل منعه من ذلك أن نقدها كان ليبطل حجية نقده لمرحلة الحكم المدني؟ أم منَعه فحسب أن حصيلتَها كانت فشلا تنموياً وثقافياً وأخلاقياً راكم نتائجَه وأسبابَه إلى اليوم؟ أم أنه رآها (لكن بعد أن قُضي الأمر) أقل شأناً من أن تكون موضعاً حتى للانتقاد والتقييم؟
أتمنى من رفاق الفقيد محمد يحظيه ولد ابريد الليل، وممن احتكوا به خلال السنوات الأخيرة وكانوا يجالسونه ويتلقون منه مقالاته العميقة، لترجمتها ونشرها، أن يسعفونا بإجابات مفيدة ودقيقة حول الاستفهامات الثلاثة أعلاه!