من تاريخ الكادحين ( 8)..إني أغار من مدالية الرفيق يسلم ابن عبدم/ بقلم بدن ول عابدين
تعقيبا على ما كتبت البارحة،عن الذكرى الأولى لصدور العدد الأول من” صيحة المظلوم”، وصلني تعليق اثلج صدري من احد كبار المحررين في الصحيفة يومها،حضر الإحتفال الذى حدثنا عنه سابقا و عاش العذاب والحرمان، عرف السجون، خرج منها مرتفع الرأس عزيمته لا تلين. أتذكر ان المغفور له بإذن الله محمد سالم زين طيبَ الله ثراه،حدثني عنه قال : “لما خرج الرفيق فاضل الداه من سجن بيله (وهو سجن رهيب في لكصر) كنتُ أول من إتصل به لأقدر معنوياته المرتفعة خلال وجوده داخل زنزانات النظام وما سمعنا عنه من صمود وهو يواجه جلاديه شُلت ايديهم، أسكنوه في اقفاصٍ لا يعادلها ضيقا وسوءً الا ما ذاقه وهو حرٌّ طليقٌ اثناء العمل الشاق الذي كان يقوم به في “غبة الطباعة” الخباء يخرج منها مختنقا يتصبب عرقا. واستطرد المغفور له محمد سالم زين طيب الله ثراه : دخل علي الرفيق فاضل الداه وهو باسمُ الثغرِ وضاح المحيا يحمل مظروفا فتحه امامي وقال : “هذه شهاداتي جميعها وكانت يومها من أفضل ما يحصل عليه الموريتانيون ومن جامعات شهيرة، أُمزقها تمزيقا لأتفرغ بكل طاقاتي، سواد ليلي وبياض نهاري، وأضع نفسي تحت تصرف شعبي و وطني متفرغًا لخدمة المظلومين… أنا من الثوار” إنتهى الإستشهاد.
هذا الشاب المثقف الرفيق فاضل الداه تَقلدَ ،بعد ان وضعت الحرب اوزارها، وظائف سامية في الدولة : وزيرا للطاقة والمياه ثم نائبا لوزير الخارجية عمل ممثلا دائما لموريتانيا لدى الجامعة العربية وسفيرا في مصر والسودان واليمن والعراق وسوريا والأردن ولبنان والمغرب ومستشارا لرئيس الجمهورية ومديرا عاما لمؤسستي الإذاعة الوطنية وجريدة الشعب وعُين بعد التقاعد أمينا دائما لمجلس جائزة شنقيط لعدة سنوات. النص الذي وصلني من الوزير فاضل ول الداه تعقيبا على ما نشرتُ البارحة انقله لكم حرفيا: ”
نص الرسالة :
رغم الفرح بذلك الحفل البهيج وخاصة بالمشوي الذي كان بالنسبة لنا أندر من”الكبريت الأحمر”،ورغم تواضع التكريم الذي ناله زميلنا يسلم فلازلت أذكرأنني شعرت وقتها بشيئ من الغيرة من الزميل المحظوظ ولا أدري هل شعر بقية الرفاق بنفس الشيئ وأسروه في أنفسهم،وتفسير ذلك أن السباق والتدافع بالمناكب يومئذ لم يكن مثل ماهو اليوم حول من يتبوأ المنصب الأعلى أو يمتلك السيارة الأفخم أو البيت الأجمل، بل حول من يقدم للشعب أنفع وأجلّ الخدمات..فقد رأيت ماكنا نعاني من شهية لأكل اللحم ونحن مع ذلك أصحاب وظائف ودخول تخلوا عنها طواعية وقد كان بإمكانها أن توفر لهم شيئا من رغد العيش ولكنهم فضلوا الجوع والمعاناة الشديدة إعلاءً لمصالح الشعب.. نسيت أن أقول إن التكريم الذي ناله يسلم كان عادلا ومنصفاً. فالمجهود الذي يقوم به يفوق مانقوم به جميعاً شدة وعناءً.فبينما نستطيع نحن أن نتمدد ونحن نكتب أونملي أونصحح يبقى هو جالساً طول الوقت ساعات وساعات وهو ينقر بإصبع واحدة على الآلة حتي يتم إنجاز الجريدة في جو من الضيق والكرب لا يماثله إلا نقرات الموسيقار بيتهوفن وهو ينجز السمفونية الخامسة وقد أغلق على نفسه غرفة ضيقة خوفاًمن مالك العقارالذي يدق عليه كل دقيقة يشتمه ويهدده بالطرد إن لم يدفع إيجار الغرفة.. وكانت طرقات هذاالمالك البخيل للباب هي التي قلدها الموسيقار بنقرات على الپيانو سماها ضربات القدر تصويراً لمعاناته الشديدة..” إنتهى الإستشهاد.
اليك يا صيحة المظلوم اهديها
تحيتا يملأُ الإعجاب مهديها
اعود الى قصة رائعة الشاعر أحمدو عبد القادر و كنتُ وعدتُ القراء والمتابعين الكرام بسردها فأذكر انه بعدما أنهينا مراسيم حفل الذكرى الأولى لصيحة المظلوم طلب الشاعر ان نأذن له بيوم يتهيأُ فيه لدخول جو الشعر بالطواف حول بعض الحدائق الغناء في المدينة والتمتع بمنظرها الخلاب وعبق أزهارها الفاتنة ، ليُساعده ذلك على مهمته. سلك الشاعر طريق جمال عبد الناصر، توجه نحو البحر سيرًا على الأقدام، مرّ أمام المستشفى الوطني عرج يسارا، إقترب من أكواخ ” الكبة”، ارجع النظر كرتين، لفت إنتباهه مشهدٌ غير عادي؛ أحد الأكواخ التي كنا نستخدمها لتصفيف صيحة المظلوم و تشبيكها لم يعد قائما في مكانه، عصفت به هوج الرياح و رمت حُطامه أشلاءً متناثرةً على مدِ البصر! اما المحتويات فسلمت بأعجوبة، كنا لا نتركها إحترازًا فوق أرضية الكوخ بل تكون عادةً في صندوق حديد موصد، نحفرُ له غارًا يتوسط أرضية الكوخ ونُواريه التراب ثُم نبسط الفراش فوقه و نُكملُ ديكور التمويه.
تحية لصيحة المظلوم
عاد إلينا الشاعر قبل ان يُتٍم نزهته العاثرة لكنه انقذ كنزا يُمثل صيدا ثمينا للعدو المتربص. و من هذا المشهد البائس ولدت رائعة الشاعر تحيةً لصيحة المظلوم:
اليك يا صيحة المظلوم أهديها
تحية يملأُ الإعجاب مهديها
يا شعلةً تغمُر الآفاقَ مشرقةً
فوق المنابر تُعليها و تُذكيها.
تجدون نص القصيدة كاملا مرفقا بهذا المقال.
اما صيحة المظلوم فقد ظلت عصيةً على القبض عليها رغم ما بذل النظام من جهود لتوقيفها. فبعد صدور العدد الأول من “الصيحة” سجّلَ الإدعاء دعوى ضد مجهول “إكْس” وهو حسب الدعوى “فرد أو مجموعة من الأشخاص يكتبون منشوراتٍ يوزعونها في عموم التراب الوطني تدعو الى الفوضى و قلب النظام ليس لهم عنوان معروف” وما أصعب أن تُطاردَ مجهولاً ليس له عنوان.
من صفحة الاستاذ عبد القادر ولد محمد