مكافحة الفساد من المقاربة السياسة إلى المعالجة القضائية / عبد القادر ولد محمد
حدث في عقد الثمانيات من القرن الماضي ابان محاكمة تم تنظيمها في دار الشباب القديمة تتعلق بملف الضالعين في سوء تسيير المؤسسة العمومية المسماة فارماريم
Pharmarim ( صيدليةالجمهورية الإسلامية الموريتانية ) ان تكلم رئيس محكمة العدل الخاصة الضابط السامي عثمان ليوضح للمحامين خصوصا الاجانب منهم و للجمهور بنبرة عسكرية اهتزت منها الجدران و خر منها السقف يانه لن يقبل بتحويل المحاكمة إلى مهرجان انتخابي و ان لديه من الرجال ما يكفي لإخراج ما وصفه بالغوغاء الغاضبة ..
كانت أغلبية الجمهور تتشكل حينها من أنصار الزعيم تراوري لادجي و هو زعيم سياسي بارز من القادة التاريخيين لحزب الكادحين.. .. تم اتهامه في القضية المشار إليها ءانفا. و قد استقبلوا قدوم المحكمة هاتفين على وتيرة تحدي راديكالي للسلطة باسم لا دجي… لادجي.. لا دجي..
بعد العاصفة طلب احد كبار لفيف محامي المتهم الكلام و هو شيخ سنغالي و قور و قال بهدوء ما مفاده : السيد الرئيس المحترم تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض…منبها على أن وجود المحامين المدافعين عن المتهمين في هذه القضية هو أكبر دليل على مصداقية العدالة المورتانية و ان المحامي يعتبر شرط صحة للمرافعات القضائية ..
كانت تلك رسالة قوية بعثها المحامي السنغالي إلى المورتانين و يبدو أن كثيرا منهم لم يستوعبها بعد مرور ما يناهز أربعة عقود على الحدث …
و قد صاحبتها رسالة أخرى وجهها المحامي الوقور إلى المختصين في المجال القانوني مفادها أن القضية المطروحة تدخل في اختصاص المحاكم العادية و بالتالي لا يحق لمحكمة العدل الخاصة الاستثنائية البت فيها …
هنالك رد عليه سيادة الضابط السامي رئيس المحكمة الموقر بأن الملف يوجد على الطاولة و انه سينظر فيه عنوة شاء من شاء و ابى من ابى..
تبسم كبار المحامين المورتانين تهكما من رد حضرة القاضي المثير و تبسم كل الحضور بما في ذلك أكثرهم غوغائية لكن ربما غاب عن الجميع ان السيد الضابط السامي رئيس المحكمة عبر بعفوية .لا تتماشى مع منطق القانون ..عن واقع العلاقة ببن الإرادة السياسة و المقاضاة بسب اختلاس أموال الدولة ..لان تلك المحاكمة التى تلتها في عهد الأنظمة الاستثنائية محاكمات أخرى و حملات سياسية كبرى و صغرى جسدت على علاتها إرادة السلطات العليا للبلد المتعلقة بردع الفساد و المفسدين …
لكن الأكيد أن التاريخ السياسي الموريتاني لم يشهد حتى الان حملة سياسية بدعوى مكافحة الفساد أكثر إثارة و لا اضخم ضجيحا و لا ايرز شعبوية من الحملة الكبرى التي أطلقها السيد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ضد خصومه السياسيين و التي قادته بمنطق انتقائي إلى أن يضع كل من لا يسانده سياسيا في خانة المفسدين بما في ذلك زعماء المعارضة التاريخية ووجوهها المعروفة الذين لم يكن لهم اي دور يذكر في التسيير العمومي و الذين وجدوا انفسهم بتلك الحقبة في موقف دفاعي مثير للشفقة.. .
..لقد تمكن السيد الرئيس السابق.. المتهم اليوم بضلوع فى عمليات فساد.كبرى .. أو بلغة القانون المشتبه فيه .. بتوظيف سياسي لمعضلة الفساد التي أدت على مدى العقود إلى إحباط جماعي في صفوف الجماهير المطحونة ،
و قد صار في اعين الحشود التي خرجت في مظاهرات شعبوية ايام قدومه إلى السلطة بانقلاب خشن على الشرعية بمثابة المهدي الذي ينتظر منه أن ينقذ البلاد و العباد من ويلات الفساد و تراكمه عبر الأجيال حيث انه عبر من كفة ميزان القوة السياسية الراجحة حينها لصالحه عن ذلك برفضه المطلق لحجة ” عفا الله عن ما سلف” المتحكمة في عقلية الموريتانيين…
لكن من الواضح أن تلك المقاربة السياسية بامتياز لم تعد في نهاية عشريته في الحكم بنتيجة فعلية عليه من منظور سياسي صرف وذلك بمجرد النظر إلى كون غالبية الطيف السياسي موالاة أزلية و معارضة تاريخية و غيرهم من قادة الرأي العام غير مقتنع في ما يبدو . بجديتها .. و بالتالي قليل هم من وقف معه في وجه الاتهامات الخطيرة التي يتعرض لها حاليا ..
و الواقع أن السياسة هي بالأساس احوال ديناميكية تتغير مع تغير معطيات الواقع و تقتضي بطبعها تجديد المرجعيات و التحالفات فقد تغير المشهد السياسي بشكل جذري و مفاجئ و لأسباب ربما تكون غائبة أو مغيبة عن الرأي العام لكن المهم و حسب الظاهر من حالها ان ميزان القوة السياسية يميل إلى كفة أخرى و أن الإرادة السياسية المشروعة لخلفه تجسدت في انتهاج أسلوب مغاير قوامه نهج قانوني صامت و معالجة قضائية لملف الفساد ..
و مما لا شك فيه ان مثل هذا التوجه السياسي الجديد يستجيب مهما كانت طبيعة دوافعه و خلفياته لتطلع مشروع الى ارساء دولة القانون و المؤسسات..
هنا تجدر الإشارة إلى أن القضاء الموريتاني يواجه في هذه القضية تحديا جسيما يتعين رفعه لتاريخ القانون في بلدنا حيث أن النقاش الفقهي الذي دار بين القانونين و منهم بعض الفطاحلة سيبقى نظريا ما لم يحسم القضاء المورتاني بحكم يكتسي سلطة الشيئ المحكوم فيه مسألة الاختصاص القضائي في المسائل المترتبة على نص الدستور أو على تأويله الخلافي و غيرها من المسائل المثارة في الجدل الدائر حاليا بين القانونين،،، خصوصا فيما يتعلق بواجب حفظ ممتلكات الدولة و حماية المال العمومي بجميع الطرق القانونية المتاحة بما في ذلك سيف الضرائب الذي يجب أن يسلط بلا رأفة على كل مكتسبي أموال الشعب دون وجه حق شرعي..
و في نهاية المطاف تبقى مكافحة الفساد و ما يترتب عليها من حتمية المساءلة القضائية مرهونة بالنتيجة المتوخاة من كل مقاربة سياسية أو معالجة قضائية حيث أن الرأي العام المورتاني صار اليوم أكثر من وقت مضى مصابا بالإحباط الشديد. ..
و عليه فان هنالك حاجة ماسة إلى استعادة الدولة بالمفهوم العام لمصداقيتها لأن جماهير الشعب المحروم من ابسط مقومات الحياة في بلد غني بثرواته تنتظر بفارغ صبر من دولة القانون توزيعا عادلا عاجلا لا أجلا للثروة الوطنية و لم تعد بمقدورها ان تصبر على تبديد أموالها و لا على اختلاس ممتلكاتها و لأن ما كان يمكن فعله في غياب الوعي بالعقود الماضية لم يعد اليوم من الممكن فعله … فإن الرأي العام يكاد يتفق اليوم حسب اغلب الظن على أن السياسة فقدت مصداقيتها في هذا البلد بعد أن بات القانون نسيا منسيا بفترة طويلة كلها ليل و غيوم ..
و عليه فان الجميع -بما فيه دفاع المتهم ،،الذي تفترض براءته ما لم تتم إدانته قضائيا .. و الذي تعود اليه الكلمة الاخيره أمام القضاء ، ينتظر من القضاء المورتياني النطق المعلل بكلمة الفصل بمعيار العدل لكي لا تبقى الكلمة الأخيرة للغوغاء …