يجمع أغلب المحللين والساسة والمفكرين على أن الحرب في أكرانيا لن تبقي على العلاقات الدولية والنظام العالمي كما كانا من قبل، وأن العالم بدخوله في هذه الحرب دشن حقبة جديدة، لأنها تجري في منطقة حساسة للغاية، في نقطة تماس دقيقة بين قوى عالمية لها حسابات متناقضة ومتعارضة.
فالغرب الذي يمثله التحالف الأمريكي الأوربي يصر على استدامة المكاسب التي جناها عقب الحرب العالمية الثانية، والتي كرسها انهيار المعسكر الاشتراكي في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات. وروسيا والصين ومعهما كل الدول التي يقلقها أن يحشر الغرب أنفه في كل صغيرة وكبيرة تخصها، ويكبل انطلاقتها نحو تقدم شعوبها ورفاهيتها، انتفضت في وجه عالم متحكم فيه بشكل أحادي، تقوده مصالح تكتل ينتمي تاريخيا إلى القوى الاستعمارية ووجد من أجل تكريس استعمار جديد.
إنها لحطة تحول كبرى ستغير بدون شك الخريطة الجيوسياسية في العالم وستؤدي إلى تشكيل نظام عالمي جديد لا يقوده الغرب وحده، وإنما يخضع إلى منطق آخر من التوازنات، من شأنها إذا احترمت أن تضمن التعايش في عالم متعدد الأقطاب.
لا أحد باستطاعته الآن أن يتكهن بما ستؤول إليه هذ الحرب التي تدور رحاها في الظاهر بين روسيا وأكرانيا، وفي الخفاء بين قوى عالمية تتنازع زعامة العالم، بين روسيا من جهة والغرب من جهة ثانية.
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: أين العرب من هذه الحرب التي لا يمكن أن تحط أوزارها إلا بالتوصل إلى توافق الأطراف المتصارعة على صيغة للتعايش، وهي صيغة لا يمكن أن يضمن لها النجاح إلا بحفظ المصالح الكبرى للطرفين معا؟
لا بد من الاعتراف بأن العرب اليوم يمرون بمرحلة ضعف حرجة، من علاماتها البارزة هذا الترهل الذي تعرفه مؤسساتهم التي أنشأها الأسلاف من أجل الدفاع عن مصالح مشتركة لعالم يمتد من المحيط إلى الخليج.
إن هذا الترهل جعل مؤسسة كالجامعة العربية عاجزة عن اتخاذ أي خطوة في اتجاه تصحيح المسار، بما يضمن الحد الأدنى من التضامن بين الدول العربية. ذلك أن بعض تلك الدول خرجت مما يعرف بالربيع العربي منهكة إلى حد الاحتضار، وبعضها أدرك أن الغرب قادر في لحظة ما أن يغير أي نظام عربي، وأنه يملك الوسائل لذلك، ومنها القوة العسكرية كما فعل في العراق وليبيا. هذا ما جعل أغلب الدول العربية المؤثرة تنقاد بسهولة إلى الأطماع الغربية إلى حد الإذلال الذي فرض عليها التطبيع مع كيان ظل يصنف في كل الأدبيات التي خرجت من المؤتمرات العربية عدوا.
من المفروض أن يستغل العرب هذه الفترة الانتقالية التي يمر بها العالم اليوم كي يعيدوا تنظيم أنفسهم وتحديد أولوياتهم، وأن يعبروا عن كل ذلك بمبادرات تعيد الاعتبار للعمل العربي المشترك.
ولكن ما نشاهدها ونعيشه لا ينبئ بان النظام العربي المتهالك قد أدرك أبعاد وخطورة المرحلة. فما زال العرب يهرعون لدعم النظام العالمي القديم الذي كرس حيفا لحق بهم عبر التاريخ المعاصر، لأنهم يعتقدون أن الغرب هو القادر وحده على حمايتهم من رياح التغيير التي باتت تهب من كل جانب، ولأنهم يعرفون أن الشعوب غير مستعدة للدفاع عن قادتها لأنها لم تخترهم بطريقة ديمقراطية. هكذا أصبحنا نسمع عن اجتماعات تنسيقية تحركها أياد غربية، وصلت إلى حد الإعلان عن “ناتو” عربي لا يقوده العرب، وإنما تمسك بخيوطه أمريكا وإسرائيل.
إنه رهان على معسكر بعينه هو المعسكر الأمريكي. لقد عرفت أمريكا والدول الغربية كيف تسوق فكرة مفادها أن هناك من يتربص بهم، وأن عدو العرب ليس هو الذي اغتصب أرضهم ونهب خيرات بلدانهم، وأنبت شوكة في خاصرتهم، بل هو إيران التي تربطهم بها علاقات تاريخية يصعب التنكر لها.
صحيح أن هناك في هذا البلد الإسلامي، خاصة مع إقامة نظام “الجمهورية الإسلامية”، من منظري “ولاية الفقيه” من اعتقد أن “الثورة الإيرانية” لا تكتمل إلا بتعميم هذا النمط من الحكم على العالم العربي، ولكن من يدبر شؤون إيران اليوم هم في أغلبهم سياسيون ينتمون إلى الجيل الثاني من الساسة، الذين يمتلكون رؤية مخالفة للجيل المؤسس. وما نشاهده في اليمن وفي غيرها من البلدان العربية، من حرب بالوكالة، ما هو في واقع الأمر سوى رد فعل على تسليم مفاتيح الخليج العربي للغرب، تحت حراب القواعد العسكرية الأمريكية التي باتت تنتشر في كل مكان من جزيرة العرب.
ليس هذا دفاعا عن النظام الإيراني الذي لا يختلف في جوهره عن أنظمة الحكم في أغلب الدول العربية، حيث تغيب الديمقراطية بمعناها الحقيقي، ويقمع الرأي الآخر بالحديد والنار، ويحكم الطوق على الحريات العامة وتهان المرأة في كرامتها.
ولكن إثارة المسألة الإيرانية في هذا السياق ضرورية للتأكيد على أن أمريكا وحلفاؤها نجحوا في إقناع العرب بأن هناك عدوا يتربص بهم من الشرق الأقصى، وأن عليهم أن ينسوا تحرير فلسطين إلى الأبد وأن يتجهوا بكل ما يملكون لدرء ذلك الخطر الداهم.
من المفيد أن نسجل هاهنا أن الساسة العرب لم يتعظوا بالتجربة العراقية، عندما صور الإعلام الأمريكي نظام صدام حسين غولا مقبلا على التهام الدول المجاورة بين عشية وضحاها، وأنه يمتلك من أسلحة الدمار الشامل ما يمكنه من محو دول بكاملها من على الخارطة… ثم تبين أن ذلك النظام لم تكن له أية أطماع خارج حدوده، وأن غزوه للكويت كان خطأ استراتيجيا أدى العراق ثمنه وما يزال، وأن دخول الكويت في حد ذاته لا يخلو من مؤامرة أمريكية.
إن على القادة العرب أن ينصتوا إلى حكمة شعوبهم، وهي حكمة من السهل تبيان ملامحها اليوم في الشارع العربي. ومن يستمع إلى نبض المواطن العربي البسيط، يعرف أن الرأي العام العربي يميل إلى مناصرة روسيا، ليس حبا في روسيا، بل كرها في السياسة الغربية التي تحول بين العرب وبين التقدم والرفاهية.
إن هذا لا ينطوي على أية دعوة إلى الخروج من جبة حلف والدخول في جبة حلف آخر، بل يعني أن عالما متعدد الأقطاب هو في مصلحة العرب. ولا أدل على ذلك من أنهم كانوا أحسن حالا عندما كان العالم يعيش في ظل قطبين. وقتذاك كان العرب يشكلون رقما في المعادلة. أما اليوم فقد وضعوا كل بيضهم في سلة واحدة. والخوف كل الخوف أن تسقط السلة من أيديهم فينكسر البيض كله، وتلك هي الطامة الكبرى.