الرجل القادم من أرض الغرائب والعجائب / المرتضى محمد اشفاق
في ملتقى مصاب الأودية، حين تذوب بقايا ظهور النجاد،
ظهر بسوء كبر، بعد قبح شبيبة..شفتاه ضامرتان بلون خطيئة، وشحوب إجهاد، أنفه مترهل مثل دبر قرد عجوز..حاجباه كأكياس فطريات متقيحة..كأن على ذقنه بقايا براز عنكبوت..في جبهته وسخ شؤم، وفي انحدار عينيه عفن رذيلة….
قال أيها الرجل ألا تحب أن أحدثك عن قومك، فأنا قادم وجنودي من أرضكم، أرض الغرائب، والعجائب، وعلم العجائز، وفقه الجنائز..فاسمع مني أبين لك:
…لما أنهكنا ظهور المطايا، وواصلنا الغدايا بالعشايا، وجاوزنا البحر إلى النهر، والعمران إلى القفر، رأينا أقواما حيارى، تخالهم سكارى وماهم بسكارى، يجتمعون على صوت الطست، ويمهرون في الوضع والنحت، إذا انفجر إطار السيارة خرجوا إليه مُجْفَلين، أطفالا وراشدين، تاركين بيوتهم للغنم والمجرمين، فتُؤكل المصاحف، ويٌعبث بالنفيس، ويسرق الثمين، يزدحمون على ميت بوباء، في جلبة وغوغاء، ينظرون إلى السماء شاخصين، لأن مختبلا قال إنه رأى فيها سورة يس..يبحثون في الكتب عن الشعرة الواقية من الأوبئة المهلكة..
يصطفون في قيظ الهواجر والشمس تجلد ظهورهم، ونار السموم تشوي وجوههم، ليلوحوا لعابر في محصنة، مظللة، مكيفة، تطوي الأرض عدوَ الأرانب عن الذئاب..
ولما ضربنا خيامنا، وعلا صياح مواشينا،
أقبلوا علينا مبجلين، وتحلقوا حولنا راكعين، وساجدين، فصبوا علينا من ركيك شعرهم قربا، وأمطرونا من فريهم خطبا، حتى كدنا لا نعرفنا..
فقلت لرهطي ويحكم، رخص الشعر إذن وأفل نجمه، وخبا وهجه، وضمر حجمه، لا مقام لكم هنا، فهؤلاء أمة لا تدركها مطايا الخواطر، ألم تروا أنهم لم يحوجونا إلى نشر البشائر، وهذه جيادنا بين الفواتر والعواثر، لم نغرهم بجنة، ولم نرهبهم بنار، فانطلقوا يلبون في مباركة وانبهار، وتجاوزوا كل حد ومقدار، فالفرار الفرار، أيها الأبالسة الأشرار، لا بقاء لكم ولا قرار ..لا قبل لكم بقومٍ الحرفُ في أفواههم أسير، يحلون به كل جائر وحقير، فالنفير النفير، ضاقت الدار، واخلولق الحصير..
أيها الشيطان الأكبر، لا قبل لنا بمثل هؤلاء القوم، فقد بلغ بعضهم -لا كلهم- مقامات أولياء الشياطين، وحازوا إجازات قديسي الضلال المبين، فما زال الدرب أمامنا طويلا كي نضل ضلالهم، وننحرف انحرافهم، ونحيد مثلهم عن الصراط المستقيم، ونبدي للناس خلاف ما نخفي، ونظهر عكس ما نضمر، ونأخذ ما عندهم بالملق والنفاق، ونخلف الوعود، وننقض العهود..وننفق بضاعتنا بالأيمان الحانثة..ونبيع الصديق بدرهم، وننكر الدين، ونخون الأمانة، نبني ما لا نسكن، ونجمع ما لا نأكل، نصلي النوافل، ونهمل الفرائض، نصوم رجبا، وشعبان، والاثنين والخميس، وتتجافى جنوبنا عن المضاجع في الليالي العشر، ونلتمس ليلة القدر في السنة لا في رمضان وحده، ثم نحدث فنكذب، ونبيع فنغش، ونلقن أطفالنا أن كل سبيل إلى المال مباحة، ولو كانت على دماء الفضيلة، وأوجاع الخليل، والشقيق.. نتصدق على الأرامل والأيتام، ونعرك نهود القاصرات في الزحام..ونتحسس أسفل بطونهن في الظلام..
في بلادكم أقوام تعدونهم من الهوامش، هم خياركم، لا يتحصنون بلحاهم، ولا يسألون الناس بآبائهم وتقاهم، يرعون حق جارهم، لا يطعنونه في الظهر، ولا يعدون ماشيته، ولا يتفحصون ضروع دوابه، ولا يسألون عن إدامه، وزنة لحمه، ومصلح طعامه، ولا يطعنون في نسبه، ولا يحسدونه على حسبه، لا يغتابونه وراء ظهره، يُعينونه، ولا يَعينونه، إذا احتاج إليهم أجابوه، وإذا طلبهم جاؤوه..يرضون باليسير، ولا يطمعون في الكثير..هؤلاء خياركم، ومظنة الصلاح، والبركة منكم، هم أهل الفطرة، والصفاء، وأهل المنعة والوفاء..
فازرع فيهم تحمد، وابذر فيهم تحصد…
فوالذي أوقفك لتسمع مني، لقد صدقتك في هذه وإني لكذوب..