كتاب عربموضوعات رئيسية
رسائل وبصمات، مشاهير الزمن الجميل “موسيقار الأجيال” محمد عبد الوهاب.. جمَع الأناقة والظرافة مع فنّه الراقي الجميل / بقلم عرفان نظام الدين
لم ينل موسيقار ومطرب من الشهرة والعزِّ مثل محمد عبد الوهاب (1902-1991)، ليس في مصر فحسب، بل على امتداد العالم العربي، وأُطلقت عليه عشرات الألقاب، مثل: موسيقار الأجيال، ومطرب الملوك والرؤساء، والدكتور، وأخيراً: اللواء، والذي كُرِّم به تقديراً لعطاءاته الوطنية والعربية التي توَّجَها بنشيد “الوطن الأكبر”.
تعرّفتُ على عبد الوهاب في مرحلة متأخرة، من خلال زياراته المتكرّرة إلى لندن وباريس، وكنت أتابع أخباره وألحانه وصفاته، وخوفه من ركوب الطائرة وشغفه بالنظافة إلى درجة الوسواس، حتى قيل من باب الدعابة إنه كان يغسل الصابونة بصابونة أخرى.
لم يصل الموسيقار إلى القمة إلا بعد عرق وجهود مضنية وصبر ومثابرة وإقبال على العلم والمعرفة، وكان من حسن حظه أن أُعجِب به أمير الشعراء أحمد شوقي، ورأى فيه فناناً موهوباً، فتبنَّاهُ وقرَّبهُ منه، وعرَّفهُ على كثير من الوجوه البارزة آنذاك، من الأدباء والشعراء والفنانين والسياسيين، وأهداهُ بعض قصائده ليُغنِّيها، وعلى الرغم من أن عبد الوهاب خرج من بيئة فقيرة محافظة، فإنه نجح وأصبح مَضرب المثل في أناقته وأدبه وعذب حديثه وتواضعه.
تزوج ثلاث نساء في حياته، الأولى زينب الحكيم تزوَّجها سراً، وكانت أكبر منه بربع القرن، ثم تزوَّج سيدة من بيئته اسمها إقبال نصار، وأنجب منها عدة أولاد أسدل عليهم ستار السرية والخصوصية، إلا أن هذا الزواج لم يستمر طويلاً، إلى أن تزوَّج ثالثة من سيدة سورية اسمها نهلة القدسي، بعد إعجاب متبادل بينهما خلال حفلة له، وكانت متزوجة من المرحوم عبد المنعم الرفاعي، رئيس الوزراء الأردني الأسبق، ولها منه ابن واحد هو عمر.
تزوج العاشقان، محمد عبد الوهاب ونهلة القدسي، لتستمر السعادة حتى آخر يوم من حياة الموسيقار الكبير، وسط انسجام تام بينهما، وعندما وافق المرحوم عبد المنعم الرفاعي على منحي حق نشر مذكَّراته، وكنت وقتها رئيساً لتحرير صحفية “الشرق الأوسط”، اشترط عليَّ ألا أتطرَّق إلى موضوع طلاقه، وقد بقيت بينهما العلاقة (الرفاعي والقدسي) حضارية، إذ كان الرفاعي يقيم في منزل محمد عبد الوهاب عندما يزور القاهرة مع ابنه عمر.
وبقي زواج نهلة ومحمد عبد الوهاب سعيداً، لم يتعكَّر صفوه إلا بوصول المطربة السورية ميادة الحناوي إلى مصر، وتبنِّي عبد الوهاب لها، والذي تحوَّل إلى إعجاب كاد أن يثمر ألحاناً بصوت الفنانة الحناوي التي تميَّزت بجمال لافت وصوت عذب، ولكن بسحر ساحر صدر قرار منع دخولها مصر، وتم ترحيلها، وقد قيل يومها إن نهلة القدسي كانت وراء القرار باتصال مباشر مع عقيلة الرئيس أنور السادات السيدة جيهان السادات.
بلغ محمد عبد الوهاب الذروة بتلحينه أغنية “أنت عمري” لكوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وقد تبنَّى فنانين كُثراً، على رأسهم العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، وتعامل مع شعراء كبار مثل نزار قباني، كما تعاون مع الرحابنة، لتغني له فيروز رائعته “يا جارة الوادي”. أما أغنية “اسهار” فلها قصة طريفة، إذ كان الموسيقار في ضيافة الراحل المبدع عاصي الرحباني، وعندما همَّ محمد عبد الوهاب بالمغادرة بادره عاصي بالقول: “اسهار بعد اسهار، ليحرز المشوار”، فعاد فوراً وأمسك بعوده ليلحن، فيما أكمل الرحباني كلماتها، لتغنيها فيروز، وتلقى رواجاً واسعاً.
وعلى الرغم من الهالة التي أحيطت به، وتربُّعِه على عرش الفن والتلحين والطرب، فقد تميَّز محمد عبد الوهاب بالتواضع والإصرار على سماع من كان يثق به في أي لحن يخفيه، ويبقيه سرّاً حتى يتأكد من تمتُّعِه بكل مقومات النجاح.
في أحد الأيام جاءني الصديق الكاتب والإعلامي الكبير الراحل أحمد بهاء الدين إلى لندن، وبيده شريط “كاسيت”، وبادرني بالقول: “أحمل لك هدية من عبد الوهاب، فقد اختارك مع عشرين صديقاً وصحافياً لسماع رأيك في أغنية جديدة بعنوان: من غير ليه”، سررتُ كثيراً بهذه الهدية الثمينة، وأُعجبتُ بالأغنية وكلماتها وألحانها، وصادف أن كنت مدعوّاً عند الصديق إبراهيم عزام مطرب الجاليات العربية في لندن، وأسمعته الشريط، فأعجب به وأمسك العود وبدأ يدندن، وحفظ اللحن خلال دقائق.
اتصلت هاتفياً مع عبد الوهاب وشكرته على هديته، وأخبرته بإعجاب عزام وأعطيته سمَّاعة الهاتف ليُغنِّي مقطعاً من الأغنية، وإذا به يهتف: “الله الله يا سلام… لا مانع عندي من أن تؤدِّيها، ولكن بعد إذاعتها رسميًّا وتوزيعها”… بهذا المستوى من الأخلاق والذوق كان يتصرف الكبار.
كان محمد عبد الوهاب يتمتَّع بروح النكتة وسرعة البديهة، فقد كنت ذات مرة مدعوًّا إلى عشاء أقيم في منزل صديق مشترك على شرفه، وإذا به يتأخر أكثر من ساعة عن الموعد، ما أثار بعض الامتعاض لدى الحضور. وعندما وصل مع عقيلته، اعتذر بحرارة وقال إنه اضطر للنوم بعد يوم شاق أجريت له فيه فحوص طبِّيَّة أتعبته، ومنها فحص البروستات، ثم بدأ يضحك وهو يصف هذا الفحص المؤلم بطريقته الفكاهية، قائلًا: لقد وضعوا لي عصا “قد كده” (وهو يشير إلى طولها).. وتذكَّرتُ وأنا أتألم فنانًا معروفًا بأمر معين، وقلت في نفسي “الله يخرب بيتك” يا (وذكر اسمه)… إيه اللي عاجبك بالشغلانة دي”؟!.. فضحكنا جميعاً، ونسينا العتب على التأخير، وجلسنا نستمع باستمتاع إلى حديثه الشيِّق، والذي تميَّز بتنوعه وسعة أفقِهِ.
إلا أن السمة البارزة له ولمعظم الفنانين العمالقة كانت الوطنية وحب الوطن، والتأكيد على مسؤولية الحاكم والمواطن ضمن معادلة الحقوق والواجبات، ولهذا كانوا سبَّاقين لدعم أوطانهم وأمتهم بشتى الوسائل.
لقد كانت له وجهة نظر سياسية عميقة وبعيدة المدى، وفي هذا المجال حدَّثنا الفنان الكبير، عندما حان وقت سفره من لندن، قائلًا: اشترت زوجتي من الأسواق ما فاضت بها حقائبها، فنزلتُ إلى السوق لأشتري حقيبة جديدة، ولكنِّي وجدتُ متجر الحقائب مُغلقاً، إذ كانت الساعة التاسعة والربع صباحاً، فقمتُ بالطرق على الزجاج عندما وجدتُ سيدة داخل المتجر، ولكنها لم ترد عليَّ، وبعدما كررتُ المحاولة فتحتْ الباب موارباً، وقالت بلطف: عليك أن تنتظر حتى التاسعة والنصف بحسب القانون، فقلتُ لها: ما الفرق، ما من أحد يراقبكِ؟! فردَّت عليَّ قائلة: أنا وكل مواطن هو القانون… وهنا قال لنا الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب: الآن فهمتُ أسباب تقدُّمِهم وتخلُّفِنا، فلا أمل لنا إلا باحترام القانون.
هذا هو محمد عبد الوهاب، “الهرم الكبير”، وهذه هي القيم التي تعلَّمناها منه، ومن عمالقة الزمن الجميل، وأختم مع كلمة معبرة له: “من يعطي الفن كل شيء يأخذ منه كل شيء”.
محمد عبد الوهاب مع امير الشعراء احمد شوقي
بعد غدٍ:
كلمات بهاء… وبهاء الكلمات
تعرّفتُ على عبد الوهاب في مرحلة متأخرة، من خلال زياراته المتكرّرة إلى لندن وباريس، وكنت أتابع أخباره وألحانه وصفاته، وخوفه من ركوب الطائرة وشغفه بالنظافة إلى درجة الوسواس، حتى قيل من باب الدعابة إنه كان يغسل الصابونة بصابونة أخرى.
لم يصل الموسيقار إلى القمة إلا بعد عرق وجهود مضنية وصبر ومثابرة وإقبال على العلم والمعرفة، وكان من حسن حظه أن أُعجِب به أمير الشعراء أحمد شوقي، ورأى فيه فناناً موهوباً، فتبنَّاهُ وقرَّبهُ منه، وعرَّفهُ على كثير من الوجوه البارزة آنذاك، من الأدباء والشعراء والفنانين والسياسيين، وأهداهُ بعض قصائده ليُغنِّيها، وعلى الرغم من أن عبد الوهاب خرج من بيئة فقيرة محافظة، فإنه نجح وأصبح مَضرب المثل في أناقته وأدبه وعذب حديثه وتواضعه.
تزوج ثلاث نساء في حياته، الأولى زينب الحكيم تزوَّجها سراً، وكانت أكبر منه بربع القرن، ثم تزوَّج سيدة من بيئته اسمها إقبال نصار، وأنجب منها عدة أولاد أسدل عليهم ستار السرية والخصوصية، إلا أن هذا الزواج لم يستمر طويلاً، إلى أن تزوَّج ثالثة من سيدة سورية اسمها نهلة القدسي، بعد إعجاب متبادل بينهما خلال حفلة له، وكانت متزوجة من المرحوم عبد المنعم الرفاعي، رئيس الوزراء الأردني الأسبق، ولها منه ابن واحد هو عمر.
تزوج العاشقان، محمد عبد الوهاب ونهلة القدسي، لتستمر السعادة حتى آخر يوم من حياة الموسيقار الكبير، وسط انسجام تام بينهما، وعندما وافق المرحوم عبد المنعم الرفاعي على منحي حق نشر مذكَّراته، وكنت وقتها رئيساً لتحرير صحفية “الشرق الأوسط”، اشترط عليَّ ألا أتطرَّق إلى موضوع طلاقه، وقد بقيت بينهما العلاقة (الرفاعي والقدسي) حضارية، إذ كان الرفاعي يقيم في منزل محمد عبد الوهاب عندما يزور القاهرة مع ابنه عمر.
وبقي زواج نهلة ومحمد عبد الوهاب سعيداً، لم يتعكَّر صفوه إلا بوصول المطربة السورية ميادة الحناوي إلى مصر، وتبنِّي عبد الوهاب لها، والذي تحوَّل إلى إعجاب كاد أن يثمر ألحاناً بصوت الفنانة الحناوي التي تميَّزت بجمال لافت وصوت عذب، ولكن بسحر ساحر صدر قرار منع دخولها مصر، وتم ترحيلها، وقد قيل يومها إن نهلة القدسي كانت وراء القرار باتصال مباشر مع عقيلة الرئيس أنور السادات السيدة جيهان السادات.
بلغ محمد عبد الوهاب الذروة بتلحينه أغنية “أنت عمري” لكوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وقد تبنَّى فنانين كُثراً، على رأسهم العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، وتعامل مع شعراء كبار مثل نزار قباني، كما تعاون مع الرحابنة، لتغني له فيروز رائعته “يا جارة الوادي”. أما أغنية “اسهار” فلها قصة طريفة، إذ كان الموسيقار في ضيافة الراحل المبدع عاصي الرحباني، وعندما همَّ محمد عبد الوهاب بالمغادرة بادره عاصي بالقول: “اسهار بعد اسهار، ليحرز المشوار”، فعاد فوراً وأمسك بعوده ليلحن، فيما أكمل الرحباني كلماتها، لتغنيها فيروز، وتلقى رواجاً واسعاً.
وعلى الرغم من الهالة التي أحيطت به، وتربُّعِه على عرش الفن والتلحين والطرب، فقد تميَّز محمد عبد الوهاب بالتواضع والإصرار على سماع من كان يثق به في أي لحن يخفيه، ويبقيه سرّاً حتى يتأكد من تمتُّعِه بكل مقومات النجاح.
في أحد الأيام جاءني الصديق الكاتب والإعلامي الكبير الراحل أحمد بهاء الدين إلى لندن، وبيده شريط “كاسيت”، وبادرني بالقول: “أحمل لك هدية من عبد الوهاب، فقد اختارك مع عشرين صديقاً وصحافياً لسماع رأيك في أغنية جديدة بعنوان: من غير ليه”، سررتُ كثيراً بهذه الهدية الثمينة، وأُعجبتُ بالأغنية وكلماتها وألحانها، وصادف أن كنت مدعوّاً عند الصديق إبراهيم عزام مطرب الجاليات العربية في لندن، وأسمعته الشريط، فأعجب به وأمسك العود وبدأ يدندن، وحفظ اللحن خلال دقائق.
اتصلت هاتفياً مع عبد الوهاب وشكرته على هديته، وأخبرته بإعجاب عزام وأعطيته سمَّاعة الهاتف ليُغنِّي مقطعاً من الأغنية، وإذا به يهتف: “الله الله يا سلام… لا مانع عندي من أن تؤدِّيها، ولكن بعد إذاعتها رسميًّا وتوزيعها”… بهذا المستوى من الأخلاق والذوق كان يتصرف الكبار.
كان محمد عبد الوهاب يتمتَّع بروح النكتة وسرعة البديهة، فقد كنت ذات مرة مدعوًّا إلى عشاء أقيم في منزل صديق مشترك على شرفه، وإذا به يتأخر أكثر من ساعة عن الموعد، ما أثار بعض الامتعاض لدى الحضور. وعندما وصل مع عقيلته، اعتذر بحرارة وقال إنه اضطر للنوم بعد يوم شاق أجريت له فيه فحوص طبِّيَّة أتعبته، ومنها فحص البروستات، ثم بدأ يضحك وهو يصف هذا الفحص المؤلم بطريقته الفكاهية، قائلًا: لقد وضعوا لي عصا “قد كده” (وهو يشير إلى طولها).. وتذكَّرتُ وأنا أتألم فنانًا معروفًا بأمر معين، وقلت في نفسي “الله يخرب بيتك” يا (وذكر اسمه)… إيه اللي عاجبك بالشغلانة دي”؟!.. فضحكنا جميعاً، ونسينا العتب على التأخير، وجلسنا نستمع باستمتاع إلى حديثه الشيِّق، والذي تميَّز بتنوعه وسعة أفقِهِ.
إلا أن السمة البارزة له ولمعظم الفنانين العمالقة كانت الوطنية وحب الوطن، والتأكيد على مسؤولية الحاكم والمواطن ضمن معادلة الحقوق والواجبات، ولهذا كانوا سبَّاقين لدعم أوطانهم وأمتهم بشتى الوسائل.
لقد كانت له وجهة نظر سياسية عميقة وبعيدة المدى، وفي هذا المجال حدَّثنا الفنان الكبير، عندما حان وقت سفره من لندن، قائلًا: اشترت زوجتي من الأسواق ما فاضت بها حقائبها، فنزلتُ إلى السوق لأشتري حقيبة جديدة، ولكنِّي وجدتُ متجر الحقائب مُغلقاً، إذ كانت الساعة التاسعة والربع صباحاً، فقمتُ بالطرق على الزجاج عندما وجدتُ سيدة داخل المتجر، ولكنها لم ترد عليَّ، وبعدما كررتُ المحاولة فتحتْ الباب موارباً، وقالت بلطف: عليك أن تنتظر حتى التاسعة والنصف بحسب القانون، فقلتُ لها: ما الفرق، ما من أحد يراقبكِ؟! فردَّت عليَّ قائلة: أنا وكل مواطن هو القانون… وهنا قال لنا الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب: الآن فهمتُ أسباب تقدُّمِهم وتخلُّفِنا، فلا أمل لنا إلا باحترام القانون.
هذا هو محمد عبد الوهاب، “الهرم الكبير”، وهذه هي القيم التي تعلَّمناها منه، ومن عمالقة الزمن الجميل، وأختم مع كلمة معبرة له: “من يعطي الفن كل شيء يأخذ منه كل شيء”.
محمد عبد الوهاب مع امير الشعراء احمد شوقي
بعد غدٍ:
كلمات بهاء… وبهاء الكلمات