العلم والنشيد الوطنيان بين الحقيقة والخيال(ح 3) / بقلم الأستاذ: محمدٌ ولد إشدو
هذا عن العلم. وأما النشيد فإنه لا علاقة له – هو الآخر- مطلقا بالاستعمار؛ كما لا علاقة له أيضا بشخص الشيخ والزعيم الشيخ سيديا بابه، وإن كان هذا الشيخ وأبوه الشيخ سيدي محمد وجده الشيخ سيديا الكبير والشيخ محمد المامي وآخرون مثلهم هم أول من دعا بإلحاح شديد من عمق التجربة الأليمة وواقع المأساة التي تعيشها أرضهم،إلى فكرة إقامة كيان موحد منظم آمن في هذا “القطرالبيضاني”:
دولة الجمع كان بابه أباها** قبل هذا وحرمه نجل بابانا
وابن داداه قد بناها فأعلى ** صرحها ثم أتقن البنيانــــا.
وكان الشيخ سيديا بابه نفسه هو أول من ذكر اسم موريتانيا في ديوان قومه: الشعر!
لقد عانى وطننا طيلة قرون من فوضى عارمة:حروب أهلية شرسة ونهب كاسح، أهلكت الحرث والنسل وشكلتعائقا في وجه التراكم والنمو أعتى بكثير وأخطر من عوامل التعرية والكوارث الطبيعة، لحد أن بلادنا أصبحت تدعى “بلاد السيبة” و”المنكب البرزخي”. وكانت الأسرة أو المجموعة فيها التي استغنت بعد كد طويل وأصبحت ذات نشب، تتحول في لمح البصر إلى درك الفقر المدقع والعري والشقاء إثر غارة شعواء تقوم بها مع طلوع الفجر عصابات اللصوص والغزاة المنتمية في الغالب إلى بعض العشائر المسلحة القادمة من الشمال أساسا؛ ولم تنج المدن القليلة القائمة يومئذ من نفس المصير المفجع. وهذا الوضع الكارثي هو ما حمل قادة الرأي المذُكورين آنفا على الدعوة جهارا لإقامة سلطة مركزية تكون حصنا من السيبة؛كما دعا قوم ما دون السدين ذا القرنين إلى إقامة سد يحول بينهم وبين المفسدين. وإنّفشَل دعوة قومنا هو ما حمل الشيخين الشيخ سيديا بابه والشيخ سعد أبيه على تبني اجتهاد مهادنة فرنسا دفعا لضرر السيبة والعجز عن الحرب بضرر أخف منه. يقول الشيخ سيديا بابه في رسالة إلى الشيخ سيد محمد ولد حبت: “وإن قُدِّرَ بعضُالمفاسد فإن مفسدة السيبة أو الحرب مع العجز عنها أعظم. ومن القواعد المجمع عليها وجوب ارتكاب أخف الضررينوترك أعظم المفسدتين”. وقد رأىغيرهما غير ذلك. وراهن آخرون على نجاعة الدور الألماني؛ الشيء الذي يوجب النظر إلى بعض أعمال المقاومة بتمعن وتدبر وحذر، إذ قد لا يكون بعضها خالصا لوجه الله!
صحيح أن النشيد الحالي مجتزأ من قصيدة للشيخ سيديا بابه، ولكن الشيخ سيديا بابه لم ينظم تلك القصيدة لتكون نشيدا لأتباعه، أحرى أن تكون نشيدا لدولة ما تزال في رحم الغيب. وإنما نظمها ذبا عن السنة بوصفه مجددا ومصلحا. وما اتخذت نشيدا للجمهورية الإسلامية الموريتانية إلا بعد وفاته رحمه الله بربع قرن.
وقد اتخذت نشيدا لأسباب عدة منها على سبيل المثال:
أولا: ملاءمتها للمناخ الفكري العام السائد يومئذ في عموم البلاد؛ حيث يشكل السنة الأغلبية الساحقة، وحيث يسود المذهب المالكي سيادة مطلقة، وحيث يكاد ينعدم مفهوم الوطنفي غير دائرة ضيقة جدا (هي بعض النخبة) ويسود مفهوم الانتماء للدين الإسلامي كعقيدة فطرية معطاة لدى الشعب. وقد كان نفس الاعتقاد سائدا سيادة مطلقة أثناء الغزو الاستعماري، حيث كان الوازع الديني وحماية المصالح والامتيازات هما الحافزان المسيطران على رجال المقاومة. وكان مفهوم الوطن غائبا غيابا كليا أو شبه كلي.
ثانيا: انعدام بديل ملائم. وهنا يجب التأكيد على الحقائق التالية:
* أنه إلى حد سنة 1962 لم يكن يوجد ما يمكن أن يكون نشيدا سوى نصين عربيين أحدهما للأستاذ الشيخ ماء العينين ولد اشبيه، والثاني للأستاذ عبد الوهاب الشيگر. ولا أعلم بالضبط تاريخ نظمهما، وإن كنت أظنهما متأخرين عن اختيار قصيدة الشيخ سيديا بابه نشيدا وطنيا للبلاد. وهذان النصان ليسا ملائمين كنشيد وطني للجمهورية الإسلامية الموريتانية لأسباب وجيهة، وهي: أن نص الأستاذ عبد الوهاب الشيگر وإن كان قائله أحد مؤسسي الدولة ومدير جريدة موريتانيا الجديدة الناطقة باسمها، وقد قيل في مناسبة رمزية مهيبة هي زيارة الرئيس المختار ولد داداه على رأس وفد حكومي لضريح الأمير الشهيد المؤسس الأول ببكر بن عامر، فإنه لا يُذكر فيه اسم موريتانيا بل يُذكر اسم شنقيط التي هي مدينة عريقة ومجيدة من مدن موريتانيا؛ لكنها لا تجسد موريتانيا بكل أطيافها ومكوناتها التي يحرص بُناة الدولة بحق على جمعها ودمجها كلها في كيان واحد يعبر عنها أفضل تعبير. وإليكم ما رسب في ذاكرتي من ذلك النشيد الذي يخاطب الشاعر في مستهله القائد ببكر بن عامر:
يا باني المجد مهلا** يكفيك هذا الخلود
كم جبت وعرا وسهلا ** تقفو خطاك الجنود
شنقيطَ نبني ونعلي ** سياسة واقتصادا
تاريخنا العدل يملي ** دستورنا القسط شادا.
أما نص الأستاذ الشيح ماء العينين فكان – على جودته- أقل ملاءمة،لأنهرغم اشتراكه مع نص الأستاذ عبد الوهاب في التنويه باسم شنقيط بدل موريتانيا، فهو نشيد للمعارضة (أي حزب النهضة الوطنية) ومن غير المستساغ طبعا أن تأخذ الموالاة نشيد خصومها السياسيين الرافضين لبرنامجها واستقلالها فتتبناه نشيدا للدولة حتى ولو كان كاملا وخاليا من العيب؛ خاصة أن النهضة كانت يومها في مفترق طرق بين لجوء بعض قادتها إلى المغرب وتبني أطروحاته، وإقدام بعض آخر على العمل المسلح ضد دولة الوطن الجديدة.
وقد انتبه الطلبة الموريتانيون في القاهرة سنة 67 إلى نقص نشيد النهضة المتمثل في إغفال ذكر موريتانيا، فطلبوا من جهة مصرية تلحين هذا النشيد بإضافة لازمة جديدة هي: “موريتانيا، موريتانيا..نحن لك”. وقد لحنته إحدى الفرق الموسيقية التابعة لإذاعة القاهرة أو صوت العرب، تلحينا جيدا وحماسيا، لكنه لم يخلد في الذاكرة الجمعية!
* وكانت هناك محاولة ثالثة خاصة أفرزتها التفجيرات والاغتيالات التي جرت يومئذ وتورط فيها عناصر من المؤسسة العسكرية الوليدة كانوا على صلة ما بالنهضة. لكن تلك المحاولة لم ترْقَ إلى درجة النشيدين المذكورين؛ وقد أدتها مجموعة من الجيش بقيادة أكبر ضباطه يومئذ وكان ذلك النشيد يذاع يوميا في برنامج “إخواننا في الشمال” الموجه إلى المغرب. وكانت لازمته: “ويل لمن خان الوطن ** ولعنة الله عليه”. ومن كلماته:
“ويل لمن قد خاننا ** وباعنا فقد جنى
له العقاب والعنا **ولعنة الله عليه.
ومن المفارقات التي يجدر التنبيه عليها أن الضابط الذي قاد فرقة غناء ذلك النشيد هو نفسه من قاد لاحقا تحت إمرة اليمين العشائري المتآمر مع العدو انقلاب العاشر يوليو ضد نظام المختار ولد داداه الوطني الشرعي!
* وكان أول نشيد ظهر بعد هذه الثلاثة هو نشيد شبابي وضعه الشباب القومي عشية زيارة الوفد المصري إلى موريتانيا بقيادة الدكتور النبوي المهندس، وهو من شعر الشاعر أحمدو ولد عبد القادر، ومطلعه:
شباب البلاد هلموا نجب ** نداء الحقوق ولا نحتجب.
* وقد تلاه في نفس السنة نشيد جهوي من تأليف الأستاذ المصطفى ولد بدر الدين مطلعه:
بني بركنا شعبنا المقتدر ** على الظلم والعسف والبغي ثر
* ثم نشيد العروبة سنة 65 وهو من كلماتي،ومطلعه:
عروبتنا يا تراث الجدود **ورمز الكفاح وكنه الخلود.
وقد لحن النشيدين الأخيرين وغناهما الفنان الكبير الجيش ولد سدوم رحمه الله.
* ثم نشيد شبابي آخر من تأليف الأستاذ أحمدو ولد ممون، أستاذ العربية بثانوية العيون وقد لحنه وغناه أواخر سنة 69 التلميذ في ثانوية العيون محمد شين ولد محمادو (الفنان الكبير ونقيب المحامين فيما بعد).
* وقد أعقبت ذلك أناشيد وقطع شعرية حماسية تتغنى بالوطن والشعب وتعوض عما يعانيه النشيد الوطني من نقص في ذلك المجال، مثل “يا وطني”و”ريشة الفن”و”يا أمنا” و”أقدامنا مغروسة عبر الحقب”..لكن أيا منها لم يلفت الانتباه الكافي أو يحظ بالمستوى المطلوب من الإجماع. وظل يجري الحديث من حين لآخر عن ضرورة تغيير النشيد أكثر مما يجري عن تغيير العلم، لكنه سرعان ما كان يتلاشى دون أن يترك أثرا.
نعم. إن ستين حولا من الزمن، ومدى التطور والنماء الذي عرفته البلاد، والطموح الجامح عند الأجيال الجديدة، كل ذلك يتطلب ويبيح إعادة النظر في النشيد الوطني وتغييره. لا لأنه نشيد استعماري أو مشبوه؛ بل لأنه نشيد قديم لم يعد يلائمالمستجدات العصرية. فالأناشيد – بصفتها كائنات- قد تشيخ، وقد تشب الأوطان عن طوقها، وتتوق إلى الأفضل والأمثل والأنسب. وهذا ما يجب وضعه في الاعتبار ليكون منطلق التغيير المبارك المزمع الوجيه الذي نصبو إليه. أما إذا كان من بيننا من لهممآرب أخرى منطلقها محاولة تصفية حسابات قديمة “اجتهادية” أو “جهادية”أو طائفية أو جهوية أو غيرها مع الشيخ والزعيم سيديا بابه أو مع قبيلته أو جهته التي سنت سنة الدولة واحترام الشيء العام، فإن الله حسيبهم “وهجرتهم إلى ما هاجروا إليه” ومصير سعيهم إلى البوار.
لقد كان بالإمكان أن يجري الحديث عن تغيير العلم والنشيد الوطنيين في جو وطني ودي يلتزم الموضوعية ويضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، ويؤدي إلى نتائج طيبة لولا المحيط السياسي الذي اكتنف هذا المشروع الوطني وما رافقه من غلو وشطط ولجاج ومزايدة.
فالجوهري في الجدل السياسي الراهن ليس تغييرالعلم والنشيد؛ وإنما هو الصراع على مصير الوطن. إذ هناك مصلحون يسعون – حسب طاقتهم وطبيعتهم الاجتماعية- إلى تجذير وترسيخ الإصلاحات التي عرفتها البلاد منذ مجيء الرئيس محمد ولد عبد العزيز وصحبه في 3 أغسطس سنة 05، ويريدون إعمار وتحديث البلاد وإشراك الشعب في توجيه الشأن العام وفي الاستفادة من ثروات البلاد. وهذا ما انعكس على البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وهناك فئات أخرى تضررت كثيرا من هذا التوجه الذي قضى على الكثير من امتيازاتها ومصالحها ويهدد الباقي. وهذهالفئات تسعى- حسب طاقتها وطبيعتها- إلى قلب النظام ودرء الخطر الذي يهددها،وترى أن كل الوسائل مشروعة ويبررها هدفها. وفي هذا الصراع المصيري يشكل مجلس الشيوخ فرس الرهان بصفته قيادة شرعية للمناوئين. وبما أن حمل راية الدفاع عن مجلس الشيوخ مباشرة قد لا يكسب هالة من الفخر؛ لذا اتخذوا من العلم والنشيد قميص عثمان ومصاحف عمرو! وقد سقط بعض دعاة الإصلاح في هذا الفخ بوعي أو بغير وعي،فنازلوهم على نفس الأرضية المتحركة بدل منازلتهم على ميدان السياسة والإصلاح. وقد دفع اللجاج كلا الطرفين إلى الغلو والاختلاق وطمس الحقائق وإطلاق العنان للخيال والتوهم. وهذا الجو غير النقي وغير الصحي هو الذي حرم البلاد من الاستفادة في هذا الميدان من عبقرية وخبرة شعراء وكتاب مثل الشاعر أحمدو ولد عبد القادر، لاذ بعضهم بالاعتذار وزايد و…بعض!
يتبع…