بكاي عبد المالك يكتب: فرنسا مسؤولة قانونيا عن الإرث الإنساني للعبودية في موريتانيا
لا أحد يشك في أن الدولة الموريتانية الحالية في شكلها السياسي وبنيتها المؤسسية (القانونية والإدارية)
موروثة عن الاستعمار الفرنسي لكن في المقابل قليل من يعرف أن لفرنسا التي أنتجت الثورة الفرنسية والقيم الإنسانية الكونية دورا من قريب أو من بعيد في التنظيم القبلي والقسمة الثنائية والتراتبية الاجتماعية الهرمية والتنظيم الاقتصادي القائم على تشريع التفاوت في موريتانيا.
صحيح أن هذه البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية سابقة على الوجود الفرنسي فقد تعود جزئيا إلى حرب “شرببه” وربما إلى مرحلة سابقة على دخول الإسلام إلى موريتانيا لكننا جميعا نعرف الدور الذي لعبته فرنسا في ترسيخها ومأسستها وهو الذي يجعلها اليوم مسؤولة قانونيا عما تبقى من تلك المؤسسات وعن استمرار الممارسات المرتبطة بها وتطورها في ظل الدولة الوطنية.
فلطالما اندثرت زعامات قبلية وكيانات سياسية وعلاقات اجتماعية لأن فرنسا أرادت لها ذلك في الوقت الذي نشأت فيه زعامات أخرى من العدم بقرار من الإدارة الاستعمارية الفرنسية بل إن المرجعيات التقليدية كلها والتي لا تزال قائمة حتى الآن هي صنيعة فرنسية.
فرنسا التي ساهمت في القضاء تماما على تلك الأنظمة الاجتماعية في البلدان المغاربية وفي تعطيلها إلى حد كبير في دول الجوار الإفريقي عملت في المقابل على تشجيعها وترسيخها في هذه البلاد وهي مفارقة عجيبة لا بد من الوقوف عندها والتأمل فيها.
لكن تبقى المفارقة الكبرى في السياسة الاستعمارية الفرنسية في موريتانيا هي أن فرنسا منعت تجارة الرقيق “الخارجية” لكنها سمحت بالتجارة البينية بين القبائل وبين بطون القبيلة الواحدة ذلك ما تؤكده الوثائق الفرنسية نفسها التي كشف عنها بيير بونت (Pierre Bonte)
ويتعلق الأمر على سبيل المثال لا الحصر برسالة توجد بالآرشيف الوطني لموريتانيا (Archives Nationales Nouakchott, Dossier E 33-1.Sous-dossier Adrar 1921.) من الوالي غادان (Gaden) إلى الحاكم العسكري لآدرار يقول فيها:
“تتضمن كل عهود الأمان التي منحناها لـ “البيظان” أننا سنحترم وضعهم الاجتماعي وممتلكاتهم. وعليه فقد اعترفنا بالوضع القائم حيث يبقى العبيد لدى عائلات أسيادهم التي يشكلون اليد العاملة فيها.فعندما تقدمت قبيلة […] بأطار إلى العقيد غورو (Gouraud) في يناير سنة 1909م [لمبايعته] بينوا له أن ثروتهم الوحيدة تتكون من الضأن والحمير وما تنتجه الأرض وأنهم بدون اليد العاملة التي لديهم فإن مصدر عيشهم الرئيس ومحاصيلهم ستضيع.فكان مفهوما بالطبع مطالبتهم ببقاء عبيدهم معهم.
ومع اعترافنا بالأمر الواقع فإن ذلك لا يعني أبدا أنه في مقدورنا السماح بتجارة الرقيق أي ببيع الأشخاص إلى الأجانب.فهذه التجارة غير المشروعة بمعزل عما تنطوي عليه من أمور مذمومة، تتعارض مع مصالح السادة الذين يفقدون بفعل ذلك البيع يدا عاملة لم يعد في مقدورهم تعويضها لأن السلم الذي أقمناه في موريتانيا لم يعد يسمح في الواقع بجلب العبيد من الجنوب وهذا الأمر يعرفه “البيظان” جيدا.وبناء على ذلك يجب علينا أن نمنع تجارة الرقيق بكل ما نقدر عليه من وسائل.
ومع ذلك فهناك مسألة أعتقد أن علي أن ألفت عنايتكم إليها فقد يحدث أن تنص بعض عقود البيع بين “البيظان” في تعيين المهر مثلا، على أن عبدا ما سيمنح للزوجة من طرف الزوج. ولا يوجد في حالة كهذه جريمة اتجار بالرقيق لأن العبد الذي اعترفنا بحالته يبقى داخل الأسرة ولا يغادر البلاد أبدا وليس في الأمر خسارة لسيده “.
و يضيف بيير بونت معلقا على هذه الرسالة : “نجد هنا بكثير من الواقعية إن لم نقل بكثير من الصلف والوقاحة عرضا للجزء الأهم من السياسة الاستعمارية حول الرق.ويتعلق الأمر بتأبيد ممارسة ضرورية بـ “تلطيفها””.
هكذا كانت فرنسا معنا، فرنسا التي كان لها في كل شبر من مستعمراتها وجه مختلف عن الوجه الذي تظهره خارجه وتلك هي السياسة في العرف المكيافيلي عبارة لعبة مرايا تتغير بحسب الظروف وإذا كان الوجه البشع لفرنسا في اعتقاد الكثيرين هو ذلك الذي ظهرت به في الجزائر فإننا نعتقد أن الوجه الذي كانت تحمله هنا وبالنظر إلى النتائج المترتبة عليه من آثار سلبية ممتدة عبر الزمن والعار الذي لازم ضحاياه كان أكثر بشاعة مما كان عليه في بلد المليون شهيد. أليس الحراطين الآن الذين يزيدون بالتأكيد على مليون نسمة هم جميعا ضحايا فرنسا ؟
يقول بيير بونت موضحا تطور “الصراع” بين القيم القبلية المساواتية (valeurs égalitaires de la tribu) والتي يتم التعبير عنها من خلال النسب والأصل الاجتماعي المشترك والقيم التراتبية للجماعات التابعة ذات المكانة الثابتة ( valeurs hiérarchiques des groupes statutaires) التي يحددها النظام الاجتماعي “التقليدي”بشكل مسبق:
“ونتيجة لـ”اختفاء” العبودية والمكانة الجديدة التي يحتلها “الحراطين” الناتجة فقط عن أهميتهم الديمغرافية فإن مكانة هذه المجموعة التي كانت في الماضي سيئة وتوجد مهما يكن من أمر خارج الأنظمة الاجتماعية الطبقية تميل الآن إلى التقدير وفقا لمعايير جديدة”. ويضيف قائلا :
“لقد ألغيت العبودية رسميا في الخامس من يوليو سنة 1980م.فإن لم يكن من الواجب علينا إخفاء استمرار الممارسات الاستعبادية التي ظلت قائمة طوال فترة الاستعمار، يمكننا اعتبار أن ذلك الإلغاء الرسمي كان ذا طابع أخلاقي ورمزي أكثر منه موجها لحل مشكلة اجتماعية ذات نطاق واسع”.. “كما تم تعزيز مكانة الحراطين بشكل ضعيف في أجهزة الدولة وفي الجيش الذي يمسك بزمام السلطة.ولكن ولأسباب عديدة ليس أقلها ضعف معدلات التمدرس في هذه الجماعات التي لا يزال تمثيلها ضعيفا جدا في المراكز القيادية”.
واختتم حديثه بعد تحليل علمي دقيق للبنية الاجتماعية وآليات السلطة في المجتمع التقليدي في علاقتها الثنائية بالخطاب السياسي الاستعماري من جهة وبالخطاب السياسي الرسمي للدولة الوطنية قائلا : “لقد حاولت أن أبين في هذا التحليل المختصر لتطور التراتبيات الطبقية منذ الفترة التي سبقت دخول الاستعمار وحتى الآن استمرار هذه الرؤية التي حافظت عليها الإدارة الاستعمارية ولا يزال معمولا بها حتى أيامنا هذه.
ولا يوجد تناقض بين التحول الذي تعرفه مكانة “الحراطين” في المجتمع “البيظاني” الحديث الذي نشاهده في الوقت الراهن،وبين بقاء ذلك النظام الاجتماعي الهرمي : فلم يقع دمج “الحراطين” في هذا المجتمع الحديث إلا بمحو سمات المكانة الاجتماعية القديمة (إلغاء الرق)والحصول على سمات مكانة جديدة (الوصول إلى الملكية العقارية).ومع ذلك ولكي نختتم حديثنا نضيف إلى ما ذكرناه أننا قمنا من أجل تركيز استدلالاتنا بإهمال عوامل أخرى من شأنها أن تقلل من مجال انطباقها مثل دور الإسلام الذي لا يزال حتى الآن في إطار الطرق الصوفية،منصهرا في ذلك القالب التراتبي لكنه قد يكون حاملا لقيم أخرى. يجب أيضا أن نأخذ في الاعتبار المشكلات الاقتصادية الخطيرة، والمشكلات العرقية والسياسية التي يعرفها البلد في الوقت الحالي والتي قد تؤدي بالفعل إلى حدوث بعض التحولات المباغتة.لكن أليس حل تلك المشكلات هو أيضا رهان ذلك التحول للتراتبية الاجتماعية للمكانات الذي يؤدي دون قلب للنظام الاجتماعي بشكل جذري إلى تعزيز هوية الناطقين باللغة العربية والهوية البيظانية في المجتمع الموريتاني؟”.
ومن ذلك التناقض الخطير الذي أشار إليه بيير بونت والذي طبع السياسة الاستعمارية الفرنسية في موريتانيا يمكننا الوقوف على الخلاصات التالية:
1- أن الحفاظ على النظام الطبقي والتراتبية الاجتماعية وبعض الممارسات المشينة مثل العبودية كان يخدم المشروع الاستعماري وبالتالي كان يتعين الإبقاء عليه بل والدفاع عنه بشتى الطرق كما بينت ذلك الوثائق الفرنسية ذاتها
2- فشل مشروع المدرسة الاستعمارية وأشدد على عبارة “مشروع المدرسة” لأنه لم تكن هناك بالفعل مدرسة فرنسية غير تلك المخصصة لأبناء الشيوخ لتسهيل دمجهم واستعمالهم من طرف الإدارة الاستعمارية في حين وجدت مدارس فرنسية متطورة في الجوار الشمالي وفي الجوار الجنوبي ساعدت شئنا ذلك أم أبينا في تأسيس أركان دولة الاستقلال.
3- التحالف الضمني بين الخطاب الديني التقليدي وبين الخطاب السياسي الرسمي آنذاك (خطاب السياسة الاستعمارية) : فقد كانت قواعد اللعبة السياسية هي نفسها قواعد اللعبة الفكرية فيما يتعلق بهذه المسألة : البقاء للأصلح أو بعبارة أخرى الإبقاء على الطبقات المهمشة الضرورية لخدمة “المساعدين” (les auxiliaries) الأقوياء سواء أكانوا من الزوايا أو المحاربين لكي يكون هؤلاء بدورهم قادرين على خدمة الإدارة الاستعمارية.
وبناء على ذلك يحق لنا الآن أن نتساءل ما الذي بقي من تلك الآثار في المرحلة الراهنة بعد مرور ستة عقود كاملة على الاستقلال؟ّ!
للاطلاع على ترجمتنا للدراسة القيمة التي قام بها بيير بونت تحت عنوان :
Pierre Bonte, L’ « ordre » de la tradition, évolution des hiérarchies statutaires dans la société maure contemporaine.
(“نظام الطبقات” التقليدي، تطور تراتبية المكانات الاجتماعية في المجتمع البيظاني المعاصر) يرجى العودة إلى العنوان التالي :
http://ouldabdelmalik.blogspot.com/
347 تعليقات