أنا والاستقلال والمغرب (الحلقة4) ناجى محمد الإمام
كانت عيشةعلى مدى الأسبوع الموالي لزيارة الرئيس تترقب كل ليلة في النشرة و بعدها رسائل المراسل المرافق لعله يذيع نبأ مرورالوفد بصنقرافة وتذهب بأحلامها مؤكدة أنهم سيقدمون النشيد الذي اجتهدت فيه مع الشويبات ، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل وكم شاهدها التلاميذ لدى انصرافهم السادسة مساء تمد على “خالفة الخيمة” سلك الهوائي ذي الودع (انتين) لتقوية بث مذياع ” البَنّاء عَلِيٍّ” الذي كانت ألسنة الناس تربطه بعلاقة مبهمة معها ، ولكن الويل والثبور وعظائم الأمور تنتظر من يتلفظ بذلك أمامها..
عندما دب القنوط إلى نفسها من سماع (نشيد صنقرافة) كما سمته رسميا ، قررتْ بتشجيع ضمني من كبار التلاميذ أن تشكو إذاعة موريتانيا إلى مدير المدرسة ، وذات صباح شتائي قارص وبعد تمارين السدل و المد والدخول إلى الفصل تناهى إلى أسماعنا حديث القمة بين المدير وعيشة: (يا طويل العمر لماذا يبث أهل نواكشوط نشيد مقطع الحجار و نشيد المجرية ولا يذيعون نشيد نا فأصواتنا والله العظيم أجمل وحبنا للرئيس أشدّ و ولد داداه هز رأسه رأي العين من الطرب وحتى نشيد “التركة” أعجبه حتى تبرك من رأس الولد …قل للحاكم أن ينصف محبي الرئيس المختار)
كانت الزيارة حديث الناس طيلة السنة الدراسية و الغريب أنهم لم يكونوا ينتظرون منها شيئا كأي زيارة من “كبير” في التقاليد تعتبر “عناية بالمَزور” أكثر من الزائر…
فلم يسجل مشروع و لم يطرأْ مرفق ، والناس يواصلون نمط عيش ألفوه من مئات السنين يقوم على فصلين : ماطر و جاف:
* في الماطر يغاث الناس فيزرعون و ينمون يصحون بوافر الحليب و اللحم ويفرحون بالمناظر الخلابة مراعيَ تتسلق التلال و تنبسط رداءً من الرخاء على السهول فتتناغم شبابة الراعي و زغاريد الجيل في الوادي حول الغدير، ويكثر المعروض من وفرة المنتوج المحلي وتندر المواد المستوردة لانقطاع المسارب والطرق الترابية بفعل السيول والغدران ، ويمرضون بانتشار البعوض و يهلكون بسقوط الصواعق و غرق الصغار في البرك العميقة والسيول الجارفة وكم شهد الخريف من فواجع موت الصبايا بسبب “البلوح” ومراحل التسمين القسري السريع “الغفيس”…
* وفي الجاف يعيش الناس على إيقاع الرحيل عندما تغيض الغدران وتصفر المراعي ويختفي “الشماط” ويبعد “الميراد” وتهزل “المكاتير” وتتكهل “القرب” فتكثر الثقوب في وِكائِها فتجر الوهي لبقية الجلد المترهل فيسيل ماؤها الثمين على الأرض اليباب بينما تنتظرها الحلوق المتيبسة.
ويتناقص المخزون من الحبوب و يقتصد في استهلاك الأتاي والسمن والأرز وتدخر الحصائر الحمراء و النمارق البهية وأعواد الثقاب للضيوف خوفا من الفضيحة، فالصرة المقتناة لا “تُحَلُّ” إلا لإكرام الضيف و عابر السبيل..
وفي نهاية هذا الفصل الطويل تحل فترة “الفليكة” أصعب فترات افطوط حيث ينتهي مخزون الحبوب ولا يبقى سوى البذور التي هي ضمان جودة محصول الصابة القادمة واستمرار سلالة “تقليت” بأنواعها : البيضاء والصفراء والحمراء والمدينة و البشنة و الغويرة والتارحييت ومتري.
وبدلاً من الوقوع في محظور استهلاك “البذار” يتجه الناس إلى مخزون النمل من “ءاز” فتذهب الفزاعة بأدواتها من السغدة و التبلة والمحواشة والطبق والكنبص والمزاود و الزكائب و الظبايا، وأهم من ذلك الخبراء و الخبيرات في “عيون الرق” وهي علامات تدل على مخازن النمل حيث تبرز للخبير مستعمرة النمل (القرية) وهي عادة لا تكون قريبة من المخزون ولكنه يتتبع طريقها للتزود بالغذاء فيصل إلى عين تخرج منها النملات محملات بالحبوب فيضرب بسغدته فتنفتح أمامه شقوق طولية كخطوط المحاربين قد تمتد عشرات الأمتار محفورة بعناية ومملوءة بحبوب (ءاز) السوداء ويسمى أجودها “تَكْيَلْتْ” وهي التي لا تتطلب لكثرتها و نقائها سوى المكيال.
كان عام مجيئ ولد داداه أغضف كشيبته ، وفي خريفه كانت العطلة التي سمعنا فيها أخبار العربية وأنها لغة البلاد عندما زارنا المعلمون وبدأنا نمارس الإختيار بينما يقوله “أهل العربية” و”أهل الفرنسية”..
في السنة الموَّالية 1969كان الحدث الذي يتناوله الناس بالإستغراب أن والدنا العلامة معلم العربية حل مديراَ للمدرسة محل معلم الفرنسية الذي قبلها بصدر رحب وأصبح المدير الجديد نائبا للحاكم ويكتب له التقارير بالعربية، والأغرب أنه يكتب “البوهات” للفرَّان والمدبر لفطور المقصف من الخبز والحليب بالعربية، وكان انتصارا لمعسكر بدأ يستورد النضال من معلمي العطلة الصيفية و من أول مكتشفاتنا نشيد:
هيا بنا هيا بنا لرفع هذا العلم*
لقد دعانا شعبنا إلى طريق الكرم
ولانتزاع مجدنا من يدي المحطم
حتى ترى أمتنا مكانها في العالم
وبدأت صورة الرجل الرزين ذي الشيبة الكريمة تهتز بفعل التعبئة الشاملة التي زحفت كالريح العاتية تهز منابت يقيننا الطري، وانطباعاتنا الصبيانية…
إلى أن بدأ الناس يحكون عن” اعتراف المغرب” بموريتانيا ليدخل الحسن “الثاني” دائرة الأسئلة الحائرة حول الصفة العددية الملازمة له ولأبيه محمد “الخامس” و أين مولاي اسماعيل الجد الأعلى المحاط بهالة الشرف عند الوالدة وأهل البيت من هولاء؟؟؟
وتلك بداية مساق جديد…..