تعطيل الانتماء والولاء المُتحوِّل
كان في وقْفَتِنا السابقة من كشف أُسُس الولاء، ما يُنْبِئ بأن الانْتِماء ـ إِنْ كان له وُجُودٌ ـ فإن الهشاشة هي أغْلَبُ خصائصه؛ ومَردُّ ذلك الضَّعْف ـ فيما يبدو ـ أن هؤلاء القوم المؤمنين، أو الذين أَقْوَمُ في نفوسهم أن يُدعَوْا للإيمان ـ لم يَكَد كيانهم يتَمَثَّل في الوجود، إِلَّا والتَّحوُّل يتَخطَّفُهم من مَنْزِل لِآخَرَ؛ لتكون غاية المَأْوَى إلى الدار هي نهاية فَصْل في دورة حياتهم السنوية؛ فلا خريف يَعقُبُه الشتاء في المَحلِّ، ولا شتاء، يعقبه الربيع؛ وليس من مُستمِرٍّ ـ في دورة الحياة ـ إلا تيار الزمان بتعاقب أيامه ولياليه.
هي ـ إذن ـ حياة قوم دَأَبوا على التَّرْحال، قيمة الأرض عندهم أنها مجال رَحْبٌ، وفضاء مفتوح، إذا ضاقت بالعشير، لمزاحمةٍ لا يَقْوَى عليها، أو لشُحٍّ في مواردها الُمستَنْزَفَة، اسْتُبْدِلتْ بأخرى، لن تبقى موطنا جاذبا، إلا بقدر ما تنْضَب أحساؤها، أو تجِفُّ قيعانها المُلوَّثة من أيام التهاطُل الأولى. ليس هذا الذي أنا مُذكِّرٌ به، في مستوى ذلك الذي بيَّنتُ، حين دراستي مدينة شنقيط؛ إنما هو طابع الحياة، مثلما يكون الارتباط بالمكان لدى أغلب من أقاموا على أديم هذا التراب، أَنَّهم إذا ما أتوا على الأخضر واليابس، انْتَجَعُوا منزلا آخر يَبْغُون به متاعا إلى حين.
في واقع مثل هذا لا يُقام وَزْنٌ لأيِّ شكل من الارتباط، إلا بضمان نصيب معلوم في الماء والكلأ؛ وهو ما يعوق الانتماء إلى أيِّ دائرة أَوْسَع من العشيرة، والعُمُومة الدُّنْيا، ومن يَلُونهم ولاء لا يستتبع مزاحمة في الموارد، وحينئذ يصعب فهم أي علاقة في الانتماء فوق العشيرة؛ ويغدو جَلْب المنافع، ودفْع الضُّر، وكفُّ الظلم لوازم وِثَاق، تَصْريفه مُوكَل إلى شيخ، الانْقِيادُ له، وشَقُّ عصا الطاعة عليه، فِعْلان مُتصرِّفان في معنى البقاء والتكيُّف، أو الُمروق والتحوُّل؛ وذلك مُسوِّغُ أن القبيلة إطارٌ مفتوح، والشريحة وضْعٌ مُتحوِّلٌ؛ والحركة في استبدالٍ أُفُقِيٍّ، والولاء متأرجحٌ، مُتردِّدٌ مُتحوِّل.
ليس ـ إذن ـ مُجافيا مُطابقةَ الحال، إذا نحن جَزمْنا بأن بِنْيتَنا الاجتماعية من الهشاشة، بحيث ليست ـ في واقع ما كانت عليه إِبَّان تأسيس الدولة الوطنية ـ الإطار الحامل لقيمة مثل الشعور بالانتماء إلى كيان مَدَنِي أوْسَعَ، بمنظومته الوطنية الكبرى؛ ولم يأت حِينٌ من الدهر، ليَتَّسِق الكيان في قِوامٍ وطنيٍّ، يتعزز فيه الإيمان بالجماعة، ويَرْسَخ التعلق بالرموز العامة، ويشتد النزوع إلى تحقيق الأهداف، ويقوى وازع الوطنية واحترام القانون. حتى إذا ما أوشكت الدولة الوطنية أن تتجاوز طور البلوغ (18سنة) ـ تَولَّى أمرَها أولو البأس؛ محاولين حملها على ولاء الطاعة والقبول.
محمد الامين الناتي
16 تعليقات