ترف الأماني أظنّه مشروعا!.. احمدُّ ولد عبد القادر، ديمي بنت آبه.
كنت أتفرج هذا المساء على فرنسا تُشيِّع وتُكرم واحدًا من أكبر طُهاتها، حضر التشييع سياسيون ورجال دين ومال وجمهور في الخارج ينتظر تحت المطر،…
أطالع هنا تكريما في قاعة بائسة، بإضاءة باهتة، وجمهور قليل يتثاءب ملَلًا لشخصيات ناصعة، مُلهمة.، هاجس حياتها الإبداع و توزيع عطاءات القرائح من غير منة .. و يَسْتَحِرُّ قلبي.. الى أي مدى اسْتولت العدميَّة في حياتنا على ما سواها؟
………….
ما زلت أمنّي النفس بتكريم ذكراها:
كانت ديم من أجمل عناوين الحياة في هذه الأرض، وكان صوتها رديفا لكل قائلٍ لكلمةٍ جميلة.. ومَا كانت مفاتن “ريشة الفن” ولا النّزاريات، ولا حتى كلاسيكيات أهل آدُبَّ لتبرز ولم يُعضِّدها ذلك الصوت… زُرتها في بيتها مع زميل نلتمس تعاونًا، بادرتْ إلى إكرامنا بكل شيء حتى.. بصوتها، اعتذرتُ لشُحِّ الوقت،.. انفجرت ضاحكة و أشارت لزميلي: من أي كوكب هذه؟ ، رميتُ ورائي كل الالتزامات، فقد خيشتُ أن أندم العمرَ إن أنا ضَيَّعتُ العَرضَ،… وانصتُّ بجوارحي لمن تَديَّرَتْ قلبي،.. لصوتٍ لن يتكرَّر ومُحال أن يُستنسخ في كائنٍ آخر.
قال لي زميلي المسؤول بحسرة: كنا نلُوذ ببيتها في المغرب من مخمصة الحيِّ الجامعي،.. و بيتها في وطنها بالإيجار،… سيقول قائل كيف ؟ .. وهي الأكثر مالاً والأعزّ نَفرًا، حتما عن تبذير وسوء تدبير.. سأقولُ بل عنْ جودٍ… وهي التي أنفقتْ بطاقةٍ سِعتُها موريتانيا وما جاورها.
يوم وفاتها… سمعت دويًّا هائلا في وجداني، كأن قطار المنجم ابتلعته الأرض، أو أن مأذنة شنقيط هوت؛
………….
وأمني النفس بتكريم خاص له وهو على قيد الحياة:
احمدُّ ولد عبد القادر، الحائز على كل مَلكَات الإبداع وكينونة الأفعال، جمعتنا جيرة عَملٍ ذات وقت، وكانت له أكثر من صورة منطبعة في ذهني،..
كان النادل يمر على المكاتب يستوْضِح أصحابها عن طلباتهم: قهوة؟ ، شاي؟، قنينة من الشافي أو الصافي؟.. وحين يأتي الدور على الشاعر الرمز، يجيب ضاحكا مسترخيًّا: قنينة من الكافي (ماء الحنفية)!، فيردُّ النادل المتعوِّد على الجواب بضحكة أعلى منها، كان فاقدًا للشَّهية النَّفعية،..
كنت أصاب بخدرٍ في الضمير و أنا وبقية زملائي من محدودي الدخل العلمي وعديمي الإنتاج الثقافي نتقاذف بالشَّافي والصَّافي وطَيْبة، بعضنا عن مقدرة وبعضنا عن مكابرة،.. و أين نحن من قدر الشاعر و مقداره؟،.. وهو من شرب من أجلنا كأس العناء وسقانا وعيا و دراية، ورواية من رحيق الصحراء،… وهو من اقتبس لنا من جَمال الله جَمالا وأهداه لنا شعرا ونثرا.
كانت تتسلَّطني الرغبة في تأمل بعض تفاصيل يومه معنا عن بعد، و كنت استعين بما اختَزنَ في ذاكرتي مما قرأتُ عنه أو لهُ لإسقاطه على تلك التفاصيل،.. فلا أرى غير نبضٍ شديد التناغم بين ماضي الرَّجل النضالي ورصيده الزَّاهد في البهرجة وحاضره القنوع… القنوع وقد استدار العمر.
………….
و أمني النفس بتكريم غيرهم..
حرام أن يتوارى هذا المجهود، … فزُهدُ هؤلاء في التَّكريم من منطلق قناعاتهم بأن لا شكر على واجبٍ وطنيٍّ أو علميٍّ ، لا يُبرِّرُ زُهدنا نحن في تكريم مَنْ مَدُّوا جسور الاتصال بين عقولنا وقلوبنا…
حُقَّ للعقل أن يَنبهر بالعلم التطبيقي وقد قفز بالبشرية بشكل مذهل،… لكن الرُّوحَ تميل للأدب وترقص على مراقيه.. و لذلك كان أغلب التكريم عالميا لأهل الأدب والفن وصنِّاع الجمال اللامادي، والدليل الطباخ الفرنسي، الغذاء عندهم فن!…
لو كان لي من الأمر شيء، لأفردت للأحياء منهم رواتب تفرُّغٍ مُجزية، فما خُلقوا للكد و التحصيل مثلنا، وليس من العدل مطالبتهم بالتصوف المادي في مواجهة مشقَّات الحياة،.. والمال ليس عدوًّا للإبداع، بل قد يكون محفزا، فلولا خمسون جنيها لوَّحت بها دار انتاج لندنية أمام بتهوفن ما وضع السنفونية التاسعة.
إذا لم نُكْرمهم، ونُكَرِّمَهم، علينا أن لا نكون على الأقل أوصياء ظَلَمة على إرثهم الذي لا يقدر بثمن مما نعدُّ من مالنا الرَّخيص.
…………………..
للتاريخ كلمة لا بد أنه قائلها في حقهم … لكن ربما بعد فوات الأوان.
154 تعليقات