البواطن البادية في الدبلوماسية الموريتانية!/ محمد محفوظ أحمد
مع أني لست دبلوماسيا، ولا سياسيا… ولا شيئا، فإني نويت وضع كتاب صغير، هو هذا، عن حاصل الدبلوماسية الموريتانية في عهود أحكام العسكر المتمادية.
وغني عن التنويه أن هذا الكتاب ليس عِلما ولا حُكما، بل هو صورةٌ مشاهدةٌ بعضُ ملامحها القاتمة، وخافيةٌ منها أخرى أشد قتامة… مع الأسف!
* باب دبلوماسية السفارة وأحوال أهلها:
أولا: لا تعترف الدولة الموريتانية في أطوارها العسكرية “المتطاولة” باختصاص فني اسمه “الدبلوماسية”؛ صحيح أن لديها وزارة كبيرة تسمى وزارة الخارجية، وفيها كثير من الأطر العالية والكفاءات المهنية ممن تخرجوا من دراسات العلوم السياسية والدبلوماسية، وممن حصلوا بالتجربة والحصافة كفء ذلك؛ وفيها من غير هؤلاء وأولئك ممن تدخَّلوا من أبواب أخرى متفرقة!
= إصدار الجوازات الدبلوماسية لمن “ينتفعون” بها في تجارتهم أو سياحتهم، من الحاكمين والنافذين وقراباتهم ومقربيهم، إناثا وذكورا؛ وكذلك طبعا للسفراء والمستشارين والوزراء، ومن في حكمهم من كبار موظفي السلطة!
= السفارات الموريتانية، والحكم للغالب (عموما!) هي مكاتب خارجية لها فائدة شائعة هي التعيين فيها، تكريما أو تقزيما لشخص ما؛ مغضوب عليه أو منعم عليه؛ مكافأة له ـ أو لـ”وليه” ـ حين لا يوجد له مكان مناسب في المركز (إما لعدم صلاحه لأي وظيفة وإما لأنه غير مرغوب في قربه ورؤيته باستمرار!).
أما وظيفة السفارة أو السفير فهي في الغالب الأهم واحدة؛ وما زاد عليها فهو اختياري لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
وتلك الوظيفة هي تبليغ واستلام وتوصيل الرسائل بين السلطة المركزية في نواكشوط وجهات الاعتماد، بأمانة وتجرد من كل اجتهاد؛ بالإضافة إلى ترتيب زيارات الرئيس والوزراء المحتملة و”تسهيل” مهامهم العامة والخاصة في بلد الاعتماد… هم ومَن يُدنون!
ومن هنا لم تكن حالة البؤس والعوز والخفوت والخفاء والخلاء والوحشة… التي تخيم على معظم السفارات الموريتانية في العالم، غريبة ولا منكَرة!
فرؤساء وأعضاء البعثات الدبلوماسية دوامهم الحقيقي في نواكشوط وهم في دول بعيدة! فإذا لم تكن هناك زيارة رئاسية أو وزارية ولا “مهمة” خاصة أنيطت بهم، فإنهم هم في حل من الحضور إلى مكاتبهم الكئيبة، أو نوم الضحى في منازلهم الدافئة ومتابعة “أعمالهم” الشخصية في تلك الغربة…
ثم إن من المشاغل الأساسية لأهل السفارات الموريتانية، مع ما تقدم، متابعة أرزاقهم من الرواتب والعلاوات والتعويضات وتحويلها إليهم بسعر “الصرف الدبلوماسي” (وهو صرف للأوقية فيه عضلات وجبروت وقوة لا تملكها عملة على الأرض!)، لأن تلك الأرزاق أو “الحقوق” موزعة في نواكشوط بين وزارات وإدارات مختلفة لا تؤدي أعمالها إلا بالتي واللتيا!
لذلك فإنهم يقضون شطر وقتهم في الاتصالات بتلك الجهات، أو بمن يجدي اتصاله بها، أو بمن ينفع اتصاله باتصال من ينفع فيها… أو يسافرون بأنفسهم إلى الوطن ويمكثون فيه ما هم ماكثون بذريعة تسوية مشاكلهم الوظيفية والمهنية والإدارية…
هذا عن السفارات والقنصليات وأهلها. ولكن أيضا من الإنصاف القول إنهم ما لهم تكليف، ولا رؤية، ولا طاقة مادية أو معنوية، لفعل شيء آخر… أي شيء!!
أما الزيارات الرئاسية والحكومية لبلاد سفارتهم فهي شيء آخر، وأي شيء!!** باب دبلوماسية الزيارات والأسفار الحكومية:
معظم دول العالم ومنظماته الدولية والإقليمية الكثيرة تتعامل مع الدول على أساس الخريطة الجغرافية. فتوزع الدعوات والتوجيهات بالتساوي بين الدول؛ فلكل دولة عَلم وحكومة وحق في الدعوة للزيارة والحضور… والباقي متروك للزائر الذي يجب أن يعامَل على أساس التحفظ واللياقة الدبلوماسية، والمساواة الظاهرة بين الدول على أساس صك اعتراف الأمم المتحدة بها، لا على أساس قدْرها أو قدَرها!
وفي نواكشوط، لا يُسَرُّ المسؤولُ ـ من الوزير أو فوقه إلى المدير ومن تحته ـ بشيء قدر سروره بوصول دعوة لزيارة بلد أو حضور مؤتمر، خاصة إن أُشفِعت الدعوة بتذكرة درجة أولى على طيران فخم.
ففي السفر فوائد كثيرة منها تغيير الهواء، والمزاج، ونزول أرقى النُّزل، وتعويضات مجزية… ولا جُناح في ابتغاء ما سوى ذلك من فضل الله!
ثم إن المسؤول الحكومي حاصل لا محالة على جائزة معنوية عظيمة، لأنه يسافر تحت عنوان كبير هو “تمثيل الوطن” في بلد أجنبي أو محفل دولي، وهذا ما سيتكفل الإعلام الرسمي بإشاعته بين الناس…
أما بعد الوصول إلى هناك فقد لا يلاحظ أحد حضوره الملتقى أو الحدث، صامتا في مقعده، ولا غيابه نائما في فندقه الفاخر…
وأما في الوطن فأقصى ما عليه بعد العودة هو كتابة تقرير يقتبس فيه مما نشر الإعلام عن نشاط وتفاعل الآخرين في ذلك الملتقى، أو يُضمِّنه ما دَرَّ به خياله من “مشاركته” الفعالة ووطنيته الجامحة… وهو مُدرك، على كل حال، أن أحدا لن يقرأ ذلك التقرير أو يلتفت إلى ما كان… فالكل مشغول بانتظار “دوره” في سفر جديد إلى الخارج…!!
* خاتمة نسال الله حسنها:
هذا ما يسَّر الله جمعه من خبر وخُيْر الدبلوماسية الموريتانية. وليعلم القارئ الكريم، أنه ما من عموم إلا تحته خصوص. فقد ينفلت من بين تعيينات السفراء سهم نافذ يصيب اختيار شخص ذي كفاءة مهنية وهمة عالية يضع نصب عينيه رفع شأن بلده قبل قضاء حوائج رؤسائه وبعدها وأثناءها… فيحاول بالنزر اليسير الذي يرمى إليه بعسر وتأخر من خزينة الدولة أن يحيي ذكر بلده وينشر مآثر شعبه ويخدم غرباءه، وربما تحمل العنت والمسغبة في سبيل ذلك إن كان ممن طهرت أكفهم ومنعت ضمائرهم وقنعت نفوسهم عما ليس لها حقا…
واعلم أخي أن مرد كل ما قدمنا ومربط الفرس فيه عدم وجود منهج سياسي أو هدف ثقافي للسلطة يراعي الأمر العام كدولة وكأمة تفوق الأفراد، والاهتمام المخلص بأمر الشعب كأفراد بسطاء يضربون في الأرض فلا يجدون عند الضيق سعة ولا رفعة في سفاراتهم وقنصلياتهم، التي لا يدركون في الواقع أنها لا حول لها ولا قوة…
وهذه الحال العامة تصيب أولي الأبصار والضمائر بالعجز والإحباط، وتناسب غيرهم فيسدرون في غيهم…
وأما ما جاء في باب أسفار الرؤساء والوزراء والمديرين العامين، ومن على شاكلتهم، فهو أمر آخر دون ذلك، إذ لا ضابط له… وفيه من ذلك أشياء مثل ابتغاء النفع الخاص، والتقصير، وعدم الابداع وابتغاء التأثير في الآخرين؛ ضعفا أو خوفا…
وسبحان الله وبحمده أستغفره وأتوب إليه.
2 تعليقات